قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } : " وُسْعَهَا " مفعولٌ ثانٍ ، وقال ابن عطية : " يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين ، أحدهما محذوفٌ ، تقديره : عبادةً أو شيئاً " . قال أبو حيان : " إن عَنَى أنَّ أصله كذا ، فهو صحيحٌ ؛ لأنَّ قوله : " إِلاَّ وُسْعَهَا " استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني ، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصناعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو " وُسْعَهَا " ؛ نحو : " مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً " ، و " مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً " هذا في الصِّناعة هو المفعول ، وإن كان أصلُه : ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً " ، والوُسع : ما يسع الإنسانَ ، ولا يضيقُ عليه ، ولا يخرجُ منه .
قال الفرَّاء : هو اسم كالوجد والجهد .
وقال بعضهم : الوسع هو دون المجهود في المشقَّة ، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان .
وقرأ ابن أبي{[4978]} عبلة : " إِلا وَسِعَهَا " جعله فعلاً ماضياً ، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره : " إِلاَّ ما وَسِعَهَا " وهذا الموصول هو المفعول الثاني ، كما كان " وُسْعَهَا " كذلك في قراءة العامَّة ، وهذا لا يجوز عند البصريِّين ، بل عند الكوفيِّين ، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً ؛ إذ لا دلالة عليه ؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال : [ الخفيف ]
مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ *** وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ{[4979]}
وقال حسَّان أيضاً - [ الوافر ]
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ *** وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ{[4980]}
وقد تقدَّم تحقيق هذا ، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب ، أم لا ؟ الظاهر الثاني ؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك ، وقيل : بل محلُّها نصبٌ ؛ عطفاً على " سَمِعْنَا " و " أَطَعْنَا " ، أي : وقالوا أيضاً : لا يكلِّف الله نفساً ، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر ؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى ، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول ، والتقدير : لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها . قال ابن عطية : وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ ؛ لأنه مقلوبٌ ، وكان يجوز وجه اللفظ : إلا وسعته ؛ كما قال : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } [ البقرة :255 ] { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه :98 ] ، ولكن يجيء هذا من باب " أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي " .
إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين ، فإنَّهم لمَّا قالوا : " سَمِعْنَا وأَطَعْنَا " فكأنَّهم قالوا : كيف نسمع ولا نطيع ، وهو لا يكلِّفنا إلاَّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة .
وإن قلنا : إنه من كلام الله - تبارك وتعالى - ، فإنَّهم لمَّا قالوا : " سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " ثم قالوا بعده : " غُفْرَانَكَ رَبَّنَا " ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [ والسَّهو ؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا ، لم يتعمّدوا التَّقصير ، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة ]{[4981]} ، فلا جرم خفَّف الله عنهم ، وقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } والتَّكليف : هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة ، يقال : كلَّفته فتكلَّف .
فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق
استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها ؛ كقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج :78 ] ، { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة :185 ] ، { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء :28 ] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وإذا ثبت هذا فهاهنا أصلان :
الأول : أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه ؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ، ولا قدرة للعبد البتَّة على فعله ولا تركه ؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل ؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانياً ، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع ، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى ، وإذا لم يخلق الله الفعل ، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل ؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق .
الثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل ، وإلاَّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان ، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق .
وأجيبوا : بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية ، وذلك من وجوهٍ :
أحدها : أنَّ من مات على الكفر ، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر ، ولا يؤمن أصلاً ، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين ، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم ، فتجري أيضاً في الجبر .
وثانيها أيضاً : أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي ، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم تكليف ما لا يطاق ؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك ، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح ، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح ، وذلك نفيٌ للصَّانع .
وإنما قلنا : إن تلك الدَّاعية من الله تعالى ؛ لأنَّها لو كانت من العبد ، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك ، لزم الجبر ، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين ، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعاً ، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين ؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به ، فلزم تكليف ما لا يطاق .
وثالثها : أنه تعالى كلَّف " أبَا لَهَب " بالإيمان ، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه ، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن ، فقد صار " أبُو لَهَب " مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق .
ورابعها : أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله ؛ لأن من حرَّك أصبعه ، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها ، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات ، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله ، لم يكن موجداً لها ، وإذا لم يكن موجداً ، لزم تكليف ما لا يطاق .
فقال ابن عباس{[4982]} وعطاء وأكثر المفسِّرين : أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } [ البقرة :284 ] .
وروي عن ابن عباس{[4983]} ؛ أنه قال : هم المؤمنون خاصَّة ، وسَّع الله عليهم أمر دينهم ، ولم يكلِّفهم فيه إلاَّ ما يطيقونه ؛ كقوله : { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة :185 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج :78 ] .
قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } هذه الجملة لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، وهي كالتفسير لما قبلها ؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها ، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [ لا ] تسعه ، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنى ، أم لا ؟ فقال بعضهم : نعم ، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ ، إذ يقال : " كَسَبَ " لنفسه ولغيره ، و " اكْتَسَبَ " أخصُّ ؛ إذ لا يقال : " اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ " ؛ وأنشد قول الحطيئة : [ البسيط ]
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4984]}
ويقال : هو كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله .
وقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلت : لم خصَّ الخير بالكسب ، والشرَّ بالاكتساب ؟ قلت : في الاكتساب اعتمالٌ ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس ، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به ، كانت في تحصيله أعمل وآجد ، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه ، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير ، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال " .
وقال ابن عطيَّة : وكَرَّر فعلَ الكسب ، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام ؛ كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ } [ الطارق :17 ] ، قال شهاب الدين : " والذي يظهر لي في هذا : أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى ، ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة ؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها ؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين ؛ إحرزاً لهذا المعنى " .
وقال آخرون : " افْتَعَل " يدلُّ على شدَّة الكلفة ، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه .
وقال الواحديُّ{[4985]} : " الصَّحيح عند أهل اللغة : أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌ ، لا فرق بينهما .
وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ ؛ قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر :38 ] . وقال تعالى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام :164 ] وقال تعالى : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة :81 ] ، وقال تعالى : { بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ } [ الأحزاب :58 ] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ " .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ{[4986]}
وإنما أَتَى في الكسب باللام ، وفي الاكتساب ب " عَلَى " ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك ، والخير يحبُّ ويسر به ، فجيء معه بما يقتضي الملك ، ولمَّا كان الشرُّ يحذر ، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب " عَلَى " المقتضية لاستعلائه عليه .
وقال بعضهم : " فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده ؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به ؛ لأنه من كسبه في الجملة ، بخلاف العقوبة ؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد " ، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين ، وهو الأظهر .
احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده ؛ قالوا : لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه ، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى ، لبطلت هذه الإضافة ، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه ، وطوله ، وشكله ، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها البتَّة .
قال القاضي{[4987]} : لو كان تعالى خالقاً أفعالهم ، فما فائدة التَّكليف ، والكلام فيه معلوم .
احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة ؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع ، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت ، وعليها عقاب{[4988]} ما اكتسبت ، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين ، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر .
قال الجبَّائي{[4989]} : ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق ، إلاَّ أنَّه مشروطٌ ، والتَّقدير : لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة ، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط ، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً ، والجمع بينهما محالٌ في العقول ، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ .
تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار ؛ لأن اللام في قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } تدلُّ على ثبوت الاختصاص ، ويؤكِّد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ{[4990]} " ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة :
منها : أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان{[4991]} ؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ .
ومنها : إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه ، أو حنطةً فطحنها ، لا يزول الملك .
ومنها : أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان ؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ ، وهو قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً .
قوله : " لاَ تُؤَاخِذْنَا " يقرأ{[4992]} بالهمزة ، وهو من الأخذ بالذَّنب ، ويقرأ بالواو ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون من الأخذ أيضاً ، وإنما أُبدلت الهمزة واواً ؛ لفتحها وانضمام ما قبلها ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ ، ويحتمل أن يكون من : واخذه بالواو ، قاله أبو البقاء{[4993]} . وجاء هنا بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحدٍ ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه ، ويأخذ به على نفسه .
قال ابن الخطيب{[4994]} : وعندي فيه وجهٌ آخر ، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلاَّ هو ، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به ، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر ، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة ، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت .
قوله : { إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } .
الأول : أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر .
فإن قيل : أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل ؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وبدليل السَّمع ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ {[4995]} " وإن كان كذلك ، فما معنى طلب العفو عنه ؟
الأول : أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر ؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة ، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه ، عدَّ مقصِّراً ؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها ، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة ، فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً ، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره ، فإذا رمى ولم يحترز ، كان ملوماً ، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ ، ثم رمى فأصاب إنساناً ؛ كان هاهنا معذوراً ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار ، حتى نسي القرآن يكون ملوماً ، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن ، فهاهنا يكون معذوراً ؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين : منه ما يعذر فيه ، ومنه ما لا يعذر فيه ، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ ، وأعرض عن أسباب التذكُّر ، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء .
الثاني : أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير ؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته ، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلاَّ على وجه النِّسيان والخطأ ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به ؛ كأنه قيل : إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به ، فلا تؤاخذنا به .
الثالث : أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل ؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله ، سواءٌ دعا أو لم يدع ؛ قال : { رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء :112 ] ، وقال : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } [ آل عمران :194 ] ، وقالت الملائكة :
{ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر :7 ] فكذا هاهنا .
الرابع : أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً ، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً ، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر{[4996]} ، فحينئذٍ لا يصدر عنه ، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس ، فلمَّا جاز ذلك في العقول ، حسن طلب المغفرة منه .
الخامس : أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق تمسَّكوا بهذه الآية ، فقالوا : النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه ، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به .
القول الثاني : أن المراد بالنِّسيان : التَّرك ؛ قال الله تعالى : { نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة :67 ] ، أي : تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، ويقول الرَّجل لصاحبه " لاَ تَنْسَنِي من عَطِيَّتِكَ " ، أي : لا تتركني ، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ ، والمراد بالخطأ : أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ .
قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً } .
الإصر : في الأصل : الثِّقل والشِّدَّة ؛ قال النابغة : [ البسيط ]
يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ *** وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا{[4997]}
وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما ؛ كقوله تعالى : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي } [ آل عمران :81 ] أي : عهدي ، { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } [ الأعراف :157 ] أي : التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل ، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء ؛ وأنشد : [ الكامل ]
أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي *** وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ{[4998]}
ويقال : الإصر أيضاً : العطف والقرابة ، يقال : " [ مَا ] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ " أي : ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ ؛ وأنشد للحطيئة : [ مجزوء الكامل ]
عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ *** صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ{[4999]}
ويقال : ما يأصرني عليه آصرةٌ أي : رحمٌ وقرابة ، وإنما سمِّي العطف إصراً ؛ لأن من عطفت عليه ، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره .
وقيل : الإصر : الأمر الذي تربط به الأشياء ؛ ومنه " الإصَارُ " للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال ، يقال : أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة ، فأما بكسرها ، فهو اسمٌ ، ويقال بضمِّها أيضاً ، وقد قرىء{[5000]} به شاذًّا .
وقرأ أُبيّ{[5001]} : " رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا " بتشديد الميم .
قال الزَّمخشريُّ{[5002]} : " فإن قلت : أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في " وَلاَ تُحَمِّلْنَا " ؟ قلت : هذه للمبالغة في حمله عليه ، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين " انتهى .
يعني : أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة ، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ ، وفي الثانية للتَّعدية ، ولذلك تعدَّى إلى اثنين : أوَّلهما : " نَا " ، والثاني : ما لا طاقة لنا به .
قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة : المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به ، فتعذِّبنا بنقضه وتركه { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا{[5003]} } ، يعني : اليهود .
وقال عثمان بن عفَّان ، ومالك بن أنس ، وأبو عبيدة ، وجماعة : معناه : لا تُشدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه ، فتعذِّبنا بنقضه وتركه ؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا ، يعني : اليهود ، فلم يقوموا به فيعذِّبهم{[5004]} .
قال المفسِّرون{[5005]} : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها ، ومن أصاب ذنباً ، أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم ؛ قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء :160 ] ، ونحو ذلك ؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر ، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير .
قال القفَّال - رحمه الله تعالى - : ومن نظر{[5006]} في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك .
قال تعالى في صفة هذه الأمة : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف :157 ] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ{[5007]} " .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال :33 ] . وقال عليه الصلاة والسلام : " بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة{[5008]} " والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف ؛ لأن التَّشديد مظنَّة التَّقصير ، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله ، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف .
وقيل : الإصر ذنبٌ لا توبة له ، معناه : اعصمنا من مثله ، قالوا : والأصل فيه العقد والإحكام .
قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .
الطَّاقة : القدرة على الشيء ، وهي في الأصل ، مصدرٌ ، جاءت على حذف الزوائد ، وكان من حقِّها " إطَاقَة " ؛ لأنها من أطاق ، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ ؛ نحو : أَغَارَ غَارةً ، وأجَاب جَابةً ، وقالوا : " سَاءَ سَمعاً ؛ فَسَاءَ جَابَةً " ؛ ولا ينقاس ؛ فلا يقال : طَال طَالَةً ، ونظير أجاب جَابَةً : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح :17 ] وأعطى عطاء في قوله : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا{[5009]}
معناه : لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق{[5010]} .
وقيل : هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى ، وحكي عن مكحول : أنَّه الغلمة{[5011]} .
وعن إبراهيم : هو الحبُّ ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب : هو العشق .
وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير{[5012]} ، وقيل : هو شماتة الأعداء .
وقيل : هو الفرقة والقطيعة{[5013]} .
فإن قيل : لم خصَّ الآية الأولى بالحمل ، فقال " لا تَحْمِلْ عَلَيْنا " وهذه الآية بالتَّحميل ؟
فالجواب : أن الشَّاقَّ{[5014]} يمكن حمله ، أمَّا ما لا يكون مقدوراً ، فلا يمكن حمله ، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل{[5015]} فقط ، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ .
وأمَّا الشاقُّ : فالحمل ، والتَّحميل فيه ممكنان ، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل .
فإن قيل : ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ {[5016]}بنون الجمع .
فالجواب : أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر ، وذلك لأن للهمم{[5017]} تأثيراتٍ ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ ، كان حصوله أكمل .
استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق ، قالوا : إذ لو لم يكن جائزاً ، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى ، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ :
الأول : المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً ؛ كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ ؛ إذا كان مستثقلاً له ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ *** سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ{[5018]}
وقال - صلى الله عليه وسلم - في المملوك : " لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ{[5019]} " أي : ما يشقُّ عليه ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المريض " يصلِّي وهو جالسٌ ، فإن لم يَسْتَطِعْ ، فَعَلَى جَنْبٍ{[5020]} " ، فقوله : " فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " ليس المراد به : عدم القوَّة على الجلوس ، بل كلُّ الفقهاء يقولون : المراد منه : إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ ؛ وقال تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [ هود :20 ] ، أي : كان يشقُّ عليهم ذلك .
الثاني : أنه تعالى لم يقل : " لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ " بل قال : { لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } والتَّحميل : هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله ، فيكون المراد منه العذاب ، والمعنى : لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله ، فلو حملنا الآية على ذلك ، كان قوله : " لاَ تُحَمِّلْنَا " حقيقةً فيه ، ولو حملناه على التكليف ، كان قوله : " لاَ تُحَمِّلْنَا " مجازاً فيه ، فكان الأوَّل أولى .
الثالث : هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه ؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك ، لدلَّ قوله :
{ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء :112 ] على جواز أن يحكم بالباطل ، وكذلك قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء :87 ] على جواز خزي الأنبياء .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب :1 ] ، وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر :65 ] ، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين ، ولا على جواز الشِّرك .
وأجاب مخالفوهم : بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين :
الأول : أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف ، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً ، فتكون تكراراً محضاً ، وهو غير جائزٍ .
والثاني : أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة ، فقوله : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه ، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز ، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة .
وأمَّا الوجه الثاني : فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف ، قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ } إلى قوله : { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } [ الأحزاب :72 ] ، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف ، إِلاَّ أنَّ قوله : { لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عامٌّ في العذاب والتَّكليف ، فوجب إجراؤه على ظاهره ، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ ، فلا يجوز .
وأَمَّا الوجه الثالث : فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً ، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء ؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين .
وإذا كان هذا هو الأصل ، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ .
قوله : { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } قال ابن الخطيب : لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ ، المطلوب بها الترك ، قُرِنت بلفظ " رَبَّنَا " ، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ " رَبَّنَا " وظاهره يدلُّ على طلب الفعل .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ " رَبَّنَا " .
فالجواب : أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا ؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع{[5021]} نال القرب من اللهِ - تعالى - .
فإن قيل : ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة .
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب ، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة ؛ كأن العبد يقول : أطلُبُ منك العفو ، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة ، فلما تخلَّص من هذين العذابين ، أقبل على طلب الثَّواب ، فقال : { وَارْحَمْنَا } فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك .
قوله تعالى : { أَنتَ مَوْلاَنَا } المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي ، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ ، أي : صاحبُ تَولِّينا ، أي : نُصرتنا ، ولذلك قال : { فَانْصُرْنَا } ، والمَوْلى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً ، واسم زمانٍ .
في قوله : " أَنتَ مَوْلاَنَا " فائدةٌ ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل ، والخُضوع ، فلا جرم ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل ، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه ، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال { نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ الأنفال :40 ] ونظير هذه الآية الكريمة { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ } [ البقرة :257 ] أي : ناصرهم ، وقوله : { فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ } [ التحريم :4 ] أي : ناصره ، وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ } [ محمد :11 ] .
قوله تعالى : " فَانْصُرْنَا " أتى بالفاء هنا ؛ إعلاماً بالسببية ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم ، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم ؛ كقولك : " أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ " ، و " أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك " .
قوله : { عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : انصرنا في محاربتنا معهم ، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم ، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة :33 ] .
روى الواحدي{[5022]} رحمه الله عن مقاتل بن سليمان ؛ " أنه لما أُسري بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُعطي خواتيم سورة البقرة ، فقالت الملائكةُ : إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى - : " آمَن الرَّسُول " فسلهُ وارغب إليه ، فعلَّمهُ - جبريل - عليه الصلاة والسلام - كيف يدعو ، فقال محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - " غُفْرَانَكَ رَبَّنَا " وقال الله : قد غفرتُ لكم ، فقال : " لاَ تُؤَاخِذْنَا " فقال الله : لاَ أؤاخذكم ، فقال : " ولاَ تَحْمل عَلَينا إصراً " فقال : لا أُشدّد عليكم ، فقال محمَّد : " لاَ تُحمِّلنا ما لاَ طاقةَ لنَا به " فقال : لا أُحملكم ذلك ، فقال محمد : " واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا " فقال الله : قد عَفَوتُ عنكم ، وغَفَرتُ لكم ، ورحمتكم ، وأنصركم على القوم الكافرين{[5023]} . "
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس ، وسمعناه في بعض الرِّوايات ؛ أن محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون : آمين{[5024]} .
وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه{[5025]} " وعن النُّعمان بن بشير ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنَّ اللهَ تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السَّمواتِ والأَرض بأَلفي عام ، فأَنزل آيتين خَتَم بهما سورة البقرة ، فلا تُقْرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ{[5026]} " والله - سبحانه وتعالى - أعلم .