اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

قوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } : " وُسْعَهَا " مفعولٌ ثانٍ ، وقال ابن عطية : " يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين ، أحدهما محذوفٌ ، تقديره : عبادةً أو شيئاً " . قال أبو حيان : " إن عَنَى أنَّ أصله كذا ، فهو صحيحٌ ؛ لأنَّ قوله : " إِلاَّ وُسْعَهَا " استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني ، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصناعة ، فليس كذلك ، بل الثاني هو " وُسْعَهَا " ؛ نحو : " مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً " ، و " مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً " هذا في الصِّناعة هو المفعول ، وإن كان أصلُه : ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً " ، والوُسع : ما يسع الإنسانَ ، ولا يضيقُ عليه ، ولا يخرجُ منه .

قال الفرَّاء : هو اسم كالوجد والجهد .

وقال بعضهم : الوسع هو دون المجهود في المشقَّة ، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان .

وقرأ ابن أبي{[4978]} عبلة : " إِلا وَسِعَهَا " جعله فعلاً ماضياً ، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره : " إِلاَّ ما وَسِعَهَا " وهذا الموصول هو المفعول الثاني ، كما كان " وُسْعَهَا " كذلك في قراءة العامَّة ، وهذا لا يجوز عند البصريِّين ، بل عند الكوفيِّين ، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً ؛ إذ لا دلالة عليه ؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال : [ الخفيف ]

مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ *** وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ{[4979]}

وقال حسَّان أيضاً - [ الوافر ]

أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ *** وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ{[4980]}

وقد تقدَّم تحقيق هذا ، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب ، أم لا ؟ الظاهر الثاني ؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك ، وقيل : بل محلُّها نصبٌ ؛ عطفاً على " سَمِعْنَا " و " أَطَعْنَا " ، أي : وقالوا أيضاً : لا يكلِّف الله نفساً ، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر ؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى ، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول ، والتقدير : لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها . قال ابن عطية : وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ ؛ لأنه مقلوبٌ ، وكان يجوز وجه اللفظ : إلا وسعته ؛ كما قال : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } [ البقرة :255 ] { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه :98 ] ، ولكن يجيء هذا من باب " أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي " .

فصل في كيفيَّة النَّظم

إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين ، فإنَّهم لمَّا قالوا : " سَمِعْنَا وأَطَعْنَا " فكأنَّهم قالوا : كيف نسمع ولا نطيع ، وهو لا يكلِّفنا إلاَّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة .

وإن قلنا : إنه من كلام الله - تبارك وتعالى - ، فإنَّهم لمَّا قالوا : " سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " ثم قالوا بعده : " غُفْرَانَكَ رَبَّنَا " ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [ والسَّهو ؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا ، لم يتعمّدوا التَّقصير ، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة ]{[4981]} ، فلا جرم خفَّف الله عنهم ، وقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } والتَّكليف : هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة ، يقال : كلَّفته فتكلَّف .

فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق

استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها ؛ كقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج :78 ] ، { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة :185 ] ، { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء :28 ] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وإذا ثبت هذا فهاهنا أصلان :

الأول : أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه ؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ، ولا قدرة للعبد البتَّة على فعله ولا تركه ؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل ؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانياً ، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع ، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى ، وإذا لم يخلق الله الفعل ، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل ؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق .

الثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل ، وإلاَّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان ، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق .

وأجيبوا : بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية ، وذلك من وجوهٍ :

أحدها : أنَّ من مات على الكفر ، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر ، ولا يؤمن أصلاً ، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين ، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم ، فتجري أيضاً في الجبر .

وثانيها أيضاً : أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي ، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم تكليف ما لا يطاق ؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك ، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح ، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح ، وذلك نفيٌ للصَّانع .

وإنما قلنا : إن تلك الدَّاعية من الله تعالى ؛ لأنَّها لو كانت من العبد ، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك ، لزم الجبر ، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين ، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعاً ، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين ؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به ، فلزم تكليف ما لا يطاق .

وثالثها : أنه تعالى كلَّف " أبَا لَهَب " بالإيمان ، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه ، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن ، فقد صار " أبُو لَهَب " مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق .

ورابعها : أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله ؛ لأن من حرَّك أصبعه ، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها ، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات ، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله ، لم يكن موجداً لها ، وإذا لم يكن موجداً ، لزم تكليف ما لا يطاق .

فصل في تأويل هذه الآية

اختلفوا في تأويل هذه الآية :

فقال ابن عباس{[4982]} وعطاء وأكثر المفسِّرين : أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } [ البقرة :284 ] .

وروي عن ابن عباس{[4983]} ؛ أنه قال : هم المؤمنون خاصَّة ، وسَّع الله عليهم أمر دينهم ، ولم يكلِّفهم فيه إلاَّ ما يطيقونه ؛ كقوله : { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة :185 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج :78 ] .

قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } هذه الجملة لا محلَّ لها ؛ لاستئنافها ، وهي كالتفسير لما قبلها ؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها ، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [ لا ] تسعه ، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنى ، أم لا ؟ فقال بعضهم : نعم ، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ ، إذ يقال : " كَسَبَ " لنفسه ولغيره ، و " اكْتَسَبَ " أخصُّ ؛ إذ لا يقال : " اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ " ؛ وأنشد قول الحطيئة : [ البسيط ]

أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4984]}

ويقال : هو كاسب أهله ، ولا يقال : مكتسب أهله .

وقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلت : لم خصَّ الخير بالكسب ، والشرَّ بالاكتساب ؟ قلت : في الاكتساب اعتمالٌ ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس ، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به ، كانت في تحصيله أعمل وآجد ، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه ، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير ، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال " .

وقال ابن عطيَّة : وكَرَّر فعلَ الكسب ، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام ؛ كقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ } [ الطارق :17 ] ، قال شهاب الدين : " والذي يظهر لي في هذا : أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى ، ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة ؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ، ويتجاوز إليها ؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين ؛ إحرزاً لهذا المعنى " .

وقال آخرون : " افْتَعَل " يدلُّ على شدَّة الكلفة ، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه .

وقال الواحديُّ{[4985]} : " الصَّحيح عند أهل اللغة : أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌ ، لا فرق بينهما .

وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ ؛ قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر :38 ] . وقال تعالى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام :164 ] وقال تعالى : { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [ البقرة :81 ] ، وقال تعالى : { بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ } [ الأحزاب :58 ] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ " .

قال ذو الرُّمَّة : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ{[4986]}

وإنما أَتَى في الكسب باللام ، وفي الاكتساب ب " عَلَى " ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك ، والخير يحبُّ ويسر به ، فجيء معه بما يقتضي الملك ، ولمَّا كان الشرُّ يحذر ، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب " عَلَى " المقتضية لاستعلائه عليه .

وقال بعضهم : " فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده ؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به ؛ لأنه من كسبه في الجملة ، بخلاف العقوبة ؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد " ، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين ، وهو الأظهر .

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده ؛ قالوا : لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه ، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى ، لبطلت هذه الإضافة ، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه ، وطوله ، وشكله ، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها البتَّة .

قال القاضي{[4987]} : لو كان تعالى خالقاً أفعالهم ، فما فائدة التَّكليف ، والكلام فيه معلوم .

فصل

احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة ؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع ، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت ، وعليها عقاب{[4988]} ما اكتسبت ، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين ، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر .

قال الجبَّائي{[4989]} : ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق ، إلاَّ أنَّه مشروطٌ ، والتَّقدير : لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله ، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة ، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط ، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً ، والجمع بينهما محالٌ في العقول ، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ .

فصل

تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار ؛ لأن اللام في قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } تدلُّ على ثبوت الاختصاص ، ويؤكِّد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ{[4990]} " ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة :

منها : أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان{[4991]} ؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ .

ومنها : إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه ، أو حنطةً فطحنها ، لا يزول الملك .

ومنها : أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان ؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ ، وهو قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً .

قوله : " لاَ تُؤَاخِذْنَا " يقرأ{[4992]} بالهمزة ، وهو من الأخذ بالذَّنب ، ويقرأ بالواو ، ويحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون من الأخذ أيضاً ، وإنما أُبدلت الهمزة واواً ؛ لفتحها وانضمام ما قبلها ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ ، ويحتمل أن يكون من : واخذه بالواو ، قاله أبو البقاء{[4993]} . وجاء هنا بلفظ المفاعلة ، وهو فعل واحدٍ ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه ، ويأخذ به على نفسه .

قال ابن الخطيب{[4994]} : وعندي فيه وجهٌ آخر ، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلاَّ هو ، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به ، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر ، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة ، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت .

قوله : { إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } .

في النِّسيان وجهان :

الأول : أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر .

فإن قيل : أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل ؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق ، وبدليل السَّمع ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ {[4995]} " وإن كان كذلك ، فما معنى طلب العفو عنه ؟

فالجواب من وجوهٍ :

الأول : أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر ؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة ، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه ، عدَّ مقصِّراً ؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها ، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة ، فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً ، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره ، فإذا رمى ولم يحترز ، كان ملوماً ، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ ، ثم رمى فأصاب إنساناً ؛ كان هاهنا معذوراً ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار ، حتى نسي القرآن يكون ملوماً ، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن ، فهاهنا يكون معذوراً ؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين : منه ما يعذر فيه ، ومنه ما لا يعذر فيه ، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ ، وأعرض عن أسباب التذكُّر ، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء .

الثاني : أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير ؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته ، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلاَّ على وجه النِّسيان والخطأ ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به ؛ كأنه قيل : إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به ، فلا تؤاخذنا به .

الثالث : أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل ؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله ، سواءٌ دعا أو لم يدع ؛ قال : { رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء :112 ] ، وقال : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } [ آل عمران :194 ] ، وقالت الملائكة :

{ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [ غافر :7 ] فكذا هاهنا .

الرابع : أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً ، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً ، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر{[4996]} ، فحينئذٍ لا يصدر عنه ، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس ، فلمَّا جاز ذلك في العقول ، حسن طلب المغفرة منه .

الخامس : أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق تمسَّكوا بهذه الآية ، فقالوا : النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه ، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به .

القول الثاني : أن المراد بالنِّسيان : التَّرك ؛ قال الله تعالى : { نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة :67 ] ، أي : تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم ، ويقول الرَّجل لصاحبه " لاَ تَنْسَنِي من عَطِيَّتِكَ " ، أي : لا تتركني ، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ ، والمراد بالخطأ : أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ .

قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً } .

الإصر : في الأصل : الثِّقل والشِّدَّة ؛ قال النابغة : [ البسيط ]

يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ *** وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا{[4997]}

وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما ؛ كقوله تعالى : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي } [ آل عمران :81 ] أي : عهدي ، { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } [ الأعراف :157 ] أي : التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل ، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء ؛ وأنشد : [ الكامل ]

أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي *** وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ{[4998]}

ويقال : الإصر أيضاً : العطف والقرابة ، يقال : " [ مَا ] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ " أي : ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ ؛ وأنشد للحطيئة : [ مجزوء الكامل ]

عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ *** صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ{[4999]}

ويقال : ما يأصرني عليه آصرةٌ أي : رحمٌ وقرابة ، وإنما سمِّي العطف إصراً ؛ لأن من عطفت عليه ، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره .

وقيل : الإصر : الأمر الذي تربط به الأشياء ؛ ومنه " الإصَارُ " للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال ، يقال : أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة ، فأما بكسرها ، فهو اسمٌ ، ويقال بضمِّها أيضاً ، وقد قرىء{[5000]} به شاذًّا .

وقرأ أُبيّ{[5001]} : " رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا " بتشديد الميم .

قال الزَّمخشريُّ{[5002]} : " فإن قلت : أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في " وَلاَ تُحَمِّلْنَا " ؟ قلت : هذه للمبالغة في حمله عليه ، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين " انتهى .

يعني : أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة ، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ ، وفي الثانية للتَّعدية ، ولذلك تعدَّى إلى اثنين : أوَّلهما : " نَا " ، والثاني : ما لا طاقة لنا به .

فصل

قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة : المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به ، فتعذِّبنا بنقضه وتركه { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا{[5003]} } ، يعني : اليهود .

وقال عثمان بن عفَّان ، ومالك بن أنس ، وأبو عبيدة ، وجماعة : معناه : لا تُشدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه ، فتعذِّبنا بنقضه وتركه ؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا ، يعني : اليهود ، فلم يقوموا به فيعذِّبهم{[5004]} .

قال المفسِّرون{[5005]} : إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً ، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها ، ومن أصاب ذنباً ، أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا ، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم ؛ قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } [ النساء :160 ] ، ونحو ذلك ؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر ، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير .

قال القفَّال - رحمه الله تعالى - : ومن نظر{[5006]} في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود ، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق ، ورأى الأعاجيب الكثيرة ، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات ، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك .

قال تعالى في صفة هذه الأمة : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [ الأعراف :157 ] .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ{[5007]} " .

وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال :33 ] . وقال عليه الصلاة والسلام : " بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة{[5008]} " والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف ؛ لأن التَّشديد مظنَّة التَّقصير ، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله ، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف .

وقيل : الإصر ذنبٌ لا توبة له ، معناه : اعصمنا من مثله ، قالوا : والأصل فيه العقد والإحكام .

قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .

الطَّاقة : القدرة على الشيء ، وهي في الأصل ، مصدرٌ ، جاءت على حذف الزوائد ، وكان من حقِّها " إطَاقَة " ؛ لأنها من أطاق ، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ ؛ نحو : أَغَارَ غَارةً ، وأجَاب جَابةً ، وقالوا : " سَاءَ سَمعاً ؛ فَسَاءَ جَابَةً " ؛ ولا ينقاس ؛ فلا يقال : طَال طَالَةً ، ونظير أجاب جَابَةً : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح :17 ] وأعطى عطاء في قوله : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا{[5009]}

فصل في المراد بالآية

معناه : لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق{[5010]} .

وقيل : هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى ، وحكي عن مكحول : أنَّه الغلمة{[5011]} .

وعن إبراهيم : هو الحبُّ ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب : هو العشق .

وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير{[5012]} ، وقيل : هو شماتة الأعداء .

وقيل : هو الفرقة والقطيعة{[5013]} .

فإن قيل : لم خصَّ الآية الأولى بالحمل ، فقال " لا تَحْمِلْ عَلَيْنا " وهذه الآية بالتَّحميل ؟

فالجواب : أن الشَّاقَّ{[5014]} يمكن حمله ، أمَّا ما لا يكون مقدوراً ، فلا يمكن حمله ، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل{[5015]} فقط ، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ .

وأمَّا الشاقُّ : فالحمل ، والتَّحميل فيه ممكنان ، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل .

فإن قيل : ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ {[5016]}بنون الجمع .

فالجواب : أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر ، وذلك لأن للهمم{[5017]} تأثيراتٍ ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ ، كان حصوله أكمل .

فصل

استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق ، قالوا : إذ لو لم يكن جائزاً ، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى ، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ :

الأول : المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً ؛ كما يقول الرجل : لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ ؛ إذا كان مستثقلاً له ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]

إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ *** سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ{[5018]}

وقال - صلى الله عليه وسلم - في المملوك : " لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ{[5019]} " أي : ما يشقُّ عليه ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في المريض " يصلِّي وهو جالسٌ ، فإن لم يَسْتَطِعْ ، فَعَلَى جَنْبٍ{[5020]} " ، فقوله : " فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " ليس المراد به : عدم القوَّة على الجلوس ، بل كلُّ الفقهاء يقولون : المراد منه : إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ ؛ وقال تعالى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [ هود :20 ] ، أي : كان يشقُّ عليهم ذلك .

الثاني : أنه تعالى لم يقل : " لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ " بل قال : { لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } والتَّحميل : هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله ، فيكون المراد منه العذاب ، والمعنى : لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله ، فلو حملنا الآية على ذلك ، كان قوله : " لاَ تُحَمِّلْنَا " حقيقةً فيه ، ولو حملناه على التكليف ، كان قوله : " لاَ تُحَمِّلْنَا " مجازاً فيه ، فكان الأوَّل أولى .

الثالث : هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه ، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه ؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك ، لدلَّ قوله :

{ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء :112 ] على جواز أن يحكم بالباطل ، وكذلك قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [ الشعراء :87 ] على جواز خزي الأنبياء .

وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } [ الأحزاب :1 ] ، وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر :65 ] ، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين ، ولا على جواز الشِّرك .

وأجاب مخالفوهم : بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين :

الأول : أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف ، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً ، فتكون تكراراً محضاً ، وهو غير جائزٍ .

والثاني : أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة ، فقوله : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه ، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز ، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة .

وأمَّا الوجه الثاني : فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف ، قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ } إلى قوله : { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ } [ الأحزاب :72 ] ، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف ، إِلاَّ أنَّ قوله : { لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } عامٌّ في العذاب والتَّكليف ، فوجب إجراؤه على ظاهره ، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ ، فلا يجوز .

وأَمَّا الوجه الثالث : فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً ، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء ؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين .

وإذا كان هذا هو الأصل ، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ .

قوله : { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } قال ابن الخطيب : لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ ، المطلوب بها الترك ، قُرِنت بلفظ " رَبَّنَا " ، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ " رَبَّنَا " وظاهره يدلُّ على طلب الفعل .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ " رَبَّنَا " .

فالجواب : أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا ؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع{[5021]} نال القرب من اللهِ - تعالى - .

فإن قيل : ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة .

الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب ، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة ؛ كأن العبد يقول : أطلُبُ منك العفو ، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة ، فلما تخلَّص من هذين العذابين ، أقبل على طلب الثَّواب ، فقال : { وَارْحَمْنَا } فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك .

قوله تعالى : { أَنتَ مَوْلاَنَا } المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي ، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ ، أي : صاحبُ تَولِّينا ، أي : نُصرتنا ، ولذلك قال : { فَانْصُرْنَا } ، والمَوْلى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً ، واسم زمانٍ .

في قوله : " أَنتَ مَوْلاَنَا " فائدةٌ ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل ، والخُضوع ، فلا جرم ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل ، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه ، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال { نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ الأنفال :40 ] ونظير هذه الآية الكريمة { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ } [ البقرة :257 ] أي : ناصرهم ، وقوله : { فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ } [ التحريم :4 ] أي : ناصره ، وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ } [ محمد :11 ] .

قوله تعالى : " فَانْصُرْنَا " أتى بالفاء هنا ؛ إعلاماً بالسببية ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم ، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم ؛ كقولك : " أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ " ، و " أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك " .

قوله : { عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : انصرنا في محاربتنا معهم ، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم ، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة :33 ] .

فصلٌ

روى الواحدي{[5022]} رحمه الله عن مقاتل بن سليمان ؛ " أنه لما أُسري بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُعطي خواتيم سورة البقرة ، فقالت الملائكةُ : إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى - : " آمَن الرَّسُول " فسلهُ وارغب إليه ، فعلَّمهُ - جبريل - عليه الصلاة والسلام - كيف يدعو ، فقال محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - " غُفْرَانَكَ رَبَّنَا " وقال الله : قد غفرتُ لكم ، فقال : " لاَ تُؤَاخِذْنَا " فقال الله : لاَ أؤاخذكم ، فقال : " ولاَ تَحْمل عَلَينا إصراً " فقال : لا أُشدّد عليكم ، فقال محمَّد : " لاَ تُحمِّلنا ما لاَ طاقةَ لنَا به " فقال : لا أُحملكم ذلك ، فقال محمد : " واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا " فقال الله : قد عَفَوتُ عنكم ، وغَفَرتُ لكم ، ورحمتكم ، وأنصركم على القوم الكافرين{[5023]} . "

وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس ، وسمعناه في بعض الرِّوايات ؛ أن محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون : آمين{[5024]} .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه{[5025]} " وعن النُّعمان بن بشير ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنَّ اللهَ تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السَّمواتِ والأَرض بأَلفي عام ، فأَنزل آيتين خَتَم بهما سورة البقرة ، فلا تُقْرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ{[5026]} " والله - سبحانه وتعالى - أعلم .


[4978]:- انظر: الكشاف 1/332، والمحرر الوجيز 1/393، والبحر المحيط 2/381، والدر المصون 1/696.
[4979]:- تقدم برقم 863.
[4980]:- تقدم برقم 867.
[4981]:- سقط في ب.
[4982]:- ينظر: تفسير البغوي 1/274.
[4983]:- ينظر: المصدر السابق.
[4984]:- صدر بيت وعجزه: فاغفر عليك سلام الله يا عمر ينظر ديوانه (208)، خزانة الأدب 3/294، الدر المصون 1/696.
[4985]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/123.
[4986]:- عجز بيت وصدره: ومطعم الصيد هبّال لبغيته ينظر ديوانه (99)، اللسان: هبل، الدر المصون 1/697.
[4987]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/124.
[4988]:في ب: عذاب.
[4989]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/124.
[4990]:تقدم.
[4991]:- الضمان، والحمالة، والكفالة، ألفاظ مترادفة، معناها لغة: الحفظ، ويقال لها: إذانة، وضمانة وقبالة، وزعامة. قال الله تعالى: ٍ{ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم}، وفي مختار الصحاح: القبيل الكفيل. وقول العرب: هو ضمين وحميل وأذين بكذا بمعنى: حافظ له، وقال عز وجل: {وكفلها زكريا} وتطلقا الزعامة على السيادة، فكأن الضامن لما تكفل بالمضمون، صار له عليه سيادة، وتطلق الإذانة كالإذان والإذن على الإعلام وفي عرف الفقهاء: هو التزام مكلف غير سفيه دينا على غيره، أو طلبه من عليه الحق لمن هو له بما يَدُلُّ عليه. ينظر: تحرير التنبيه 227، مختار الصحاح 384، ولسان العرب 4/2610، شرح فتح القدير 4/163، المحلي على المنهاج 2/323، مواهب الجليل 5/96، الإقناع 2/37، كشاف القناع 3/362 أسهل المدارك 3/19.
[4992]:- أبدل ورش من طريقيه، وأبو جعفر همز "تؤاخذنا" واوا مفتوحة. انظر: إتحاف فضلاء البشر 1/462، والدر المصون 1/697.
[4993]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/122.
[4994]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/125.
[4995]:- تقدم.
[4996]:- في ب: مسنداً للذكر.
[4997]:- ينظر: ديوانه (231) والزاهر 2/59، والبحر المحيط 2/359، والرازي: 7/127، والدر المصون 1/698، والقرطبي: 3/279.
[4998]:- ينظر: البحر 2/384، الدر المصون 1/698.
[4999]:- ينظر: ديوانه (174)، الدر المصون: 1/698.
[5000]:- وقد رويت قراءة الضم عن عاصم. انظر: المحرر الوجيز 1/394، والبحر المحيط 2/384، والدر المصون: 1/698.
[5001]:- انظر: البحر المحيط 2/384، والدر المصون: 1/698.
[5002]:- ينظر: تفسير الكشاف للزمخشري 1/333.
[5003]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/136) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/666) وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد. وأخرجه الطبري (6/137) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/666) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره السيوطي في: "الدر المنثور" (1/666) وعزاه للطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس...فذكره.
[5004]:- انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي (7/127).
[5005]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/127.
[5006]:- ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (7/127).
[5007]:- ينظر: المصدر السابق.
[5008]:- تقدم.
[5009]:- تقدم برقم 339.
[5010]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/139) عن الضحاك.
[5011]:- انظر: المصدر السابق.
[5012]:- انظر: المصدر السابق.
[5013]:- في ب: والعطية.
[5014]:- في ب: التعليق.
[5015]:- في ب: التحمل.
[5016]:- في ب: اللفظ.
[5017]:- في ب: لهم.
[5018]:- البيت ذكره الرازي في التفسير 7/128.
[5019]:- أخرجه مسلم (3/1284) كتاب الأيمان: باب إطعام المملوك مما يملك وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه حديث (41/1662) وأحمد (2/247، 342) من حديث أبي هريرة.
[5020]:- أخرجه البخاري (2/684) كتاب تقصير الصلاة: باب "إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب" (1117) وأبو داود (952) والترمذي (372) من حديث عمران بن حصين.
[5021]:- في ب: التضريع.
[5022]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/131.
[5023]:- ينظر: المصدر السابق.
[5024]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/142) عن ابن عباس.
[5025]:- أخرجه البخاري (5/198) كتاب المغازي باب 12 رقم (4008)، (6/333) كتاب فضائل القرآن باب من لم ير بأسا أن يقول سورة ...الخ رقم (5040) ومسلم صلاة المسافرين 255، وابن ماجه (1368) والطبراني (17/203) والبغوي في "تفسيره" (1/316) وفي "شرح السنة" (4/464)
[5026]:- أخرجه أحمد (4/274) والدارمي (2/449) والطبراني في "الكبير" (7/342) وفي "الصغير" (1/55) والحاكم (2/260) والسهمي في "تاريخ جرجان" (129). وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.