تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

الآية 286 وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } اختلف فيه : قال الحسن : ( قوله تعالى : { إلا وسعها } إلا ما يجل ، ويسع ) . لكن بعض الناس يقولون : هذا بعيد لا يحتمل الآية [ لأنه ]{[3534]} إذا كلف أحل ، ووسع ، فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى . قيل لهم{[3535]} : هو كقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4و5 ] فإذا أحل طيب ، وإذا طيب أحل . فكذا الأول ، وقد ذكرنا {[3536]}الأمرين جميعا . وتأويل ثان : { إلا وسعها } إلا طاقتها ، وكذلك قول المعتزلة بتقديم الفعل .

وأما عندنا فإنها على وجهين : استطاعة الأحوال والأسباب واستطاعة الأفعال ، أما الاستطاعة الأحوال والأسباب فإنها بتقديمها ، على ذلك يقع الخطاب ؛ دليله قوله جل وعلا : { والله على الناي حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران : 97 ] . قيل : يا رسول الله : وما الاستطاعة ؟ قال : ( الزاد والرحلة ) [ الترمذي 813 ] ثم كل يجمع أن من كل بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج على علم كل منهم : أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم تبق إلى وقت وجود الأفعال ، ثم قد لزمه ذلك ، فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب . وكذلك الكلفة في جميع الطاعات .

فإن قيل : قد يقع هذا [ على ]{[3537]} الخروج ، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج ، قيل : لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج [ إلا بالخروج ، وله ترك الخروج ، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج ]{[3538]} فثبت أنه لا يحتمله ، بل هو على ما قاله أصحابنا ، رحمهم الله : إنها استطاعة الأحوال والأسباب ، وتلك تتقدم لما ذكرنا ، والله أعلم .

وأما الاستطاعة الأفعال فإنها تحدث بحدوث الأفعال ، وتتلو كالأوقات التي لا تبقى في قوت ثان ؛ فهي كالوقت الذي لا يبقى في قوت تارة ، والله أعلم .

فإن سئلنا عن التكليف : أيكون{[3539]} في ما لا يطاق ؟ فجوابنا : أنه في ما منعنا عنه فلا ، وفي ما لم نمنع ، وضيعنا [ ما أعطينا من القوة بشغلنا بغيره ]{[3540]} فبلى . ثم الكافر بما أعطي من القوة والاستطاعة شغل نفسه بغيره{[3541]} ، وضيع ما أعطي من القوة ، فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق [ ثم ننظر أينا{[3542]} أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق ؟ ]{[3543]} .

فمن قول المعتزلة : إن القوة تتقدم على الفعل ليوجده في الوقت الثاني . ثم في الوقت جعلوه أيضا غير قادر على الترك للفعل ، والمتعارف عن الأمر في الظاهر بشيء يفعله في وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ، ويقرع الخطاب السمع بل في ثان من الوقت /53-أ/ . فحصل عندهم الأمر على الوقت الذي هو قادر فيه . فأي تكليف علي ؟ وقوله{[3544]} : ( الطرق [ هو ]{[3545]} الوسع أبين مما قالوا ) وبالله التوفيق .

ثم أفحش من هذا ما قالوا : إن القدرة تتقدم الفعل ، والفعل هو الذي يدل على وجود الولاية ، وهو في وقت إيجاد الفعل : إن كان كفرا يعاد{[3546]} ، وإن كان إيمانا يوال{[3547]} . فحصل القول على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع في غير وقت الانتهاء والائتمار .

ثم قولهم في قوله تعالى : { ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا } [ يونس : 99 ] إنه على الجبر ، ولا يحتمل ذلك لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر في الخلقة [ ومرة بالاختيار ]{[3548]} ، وهو قوله : { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران : 83 ] فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة ، فكان{[3549]} الثاني على الاختبار .

ثم قولهم في استطاعة واحدة لفعلن خطأ ، لأن{[3550]} من قولهم : إن الاستطاعة لا تبقى ، ثم وجود الفعلين معا في وقت باستطاعة واحدة محال ، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الأخر مستحيل لعدم البقاء ؛ ووجوده عندهم على البدل محال ، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر ، فثبت أمخ خطأ .

وقوله{[3551]} تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } فيه{[3552]} دلالة أن الله تعالى إنما يأمر عبيده ، وينهي لمنافع لهم ولضرر يلحقهم ، لا لمنافع تكون له في الأمر ، أو لضرر يلحقه ، فينهى عن ذلك ، فيكون في الأمر جار منفعة ، وفي النهي دافع مضرة كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر لمنفعة يأمر{[3553]} فيه ، وينهي عن شيء لدفع ضرر يخافه . وتعالى الله عن ذلك .

وقوله تعالى : { ربنا لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قيل فيه بوجهين : قيل : { إن نسينا } يعني تركنا كقوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] وكقوله : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } [ طه : 115 ] أي ترك .

وقوله تعالى : { أخطأنا } يعني ارتكبنا ما انتهينا ، وقيل : إنه على حقيقة النسيان والخطإ ، كأنه على الإضمار أن قوله : { ربنا لا تؤاخذنا } الآية .

ثم اختلف بعد هذا : قالت المعتزلة : أمر بالدعاء بهذا تعبدا وتقربا إليه ، وكذلك قوله تعالى : { ربنا وآتنا ما وعدتنا } الآية{[3554]} [ آل عمران : 194 ] ، وكذلك أمر له : { قال رب احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ، ونحوه خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب ، لأن [ رسول الله ]{[3555]} صلى الله عليه وسلم أخبر أنه{[3556]} لا يؤاخذنا بالنسيان والخطإ{[3557]} ، وأنه{[3558]} لا يخلف الميعاد{[3559]} ، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق ، وكذلك قوله تعالى : { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] . وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر{[3560]} ، ولكنه على ما ذكرنا ، وإلى هذا يذهب المعتزلة .

وأما الأصل عندنا في هذا [ فإنه في وجوه

أحدهما : ]{[3561]} أنه جائز في الحكمة أن يعاقب{[3562]} على النسيان والخطإ ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا . ألا ترى أن الله أوجب على قاتل الخطإ الكفارة ، ثم قال : { توبة من الله } [ النساء : 92 ] . فلو [ كان لا يجوز أن يعاقب على النسيان والخطإ ]{[3563]} لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى . دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به .

والثاني : قوله جل وعلا : { وما أنسانيه إلا الشيطان } [ الكهف : 63 ] ، وفعل الشيطان مما يتقى ، ويحذر . لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم ؛ لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان ؛ سلم منه{[3564]} . فجائز أن يسأل منهما{[3565]} ؛ إذ بالجهد يسلم منه{[3566]} ،

والثالث : ما ذكرنا أن النسيان ، هو الترك ، والخطأ ، هو ارتكاب المنهي ، والتارك لأمر الله والمرتكب لنهيه ، يستوجب العقاب عليه ، والله أعلم . فيصبح الدعاء على ذلك لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهي .

فإن قيل : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتي النسيان والخطأ وما استكرهوا عليه ) ؟ [ بنحوه ابن ماجه 2045 وتذكرة الموضوعات 91 ] قيل : إنما جاء هذا في الكفر خاصة لا في غيره ؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي{[3567]} العهد بالإسلام ، يجري على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطإ ، وكذلك يكرهون على الكفر ، فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك مرفوع{[3568]} عنهم .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : وبعد فإن في الخبر العفو ، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ ، ولعل الوعد بالعفو مقرون{[3569]} بشرط لادعاء ؛ فلذلك يدعون . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بهذا ، فأوجب ألا يؤمر أحد أن يدعو ابتداء ، والله أعلم .

وأما قوله تعالى : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] ففيه وجهان :

أحدهما : أنه وعد المؤمنين جملة الجنة ؛ فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة .

والثاني : يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود .

وأما الأمر بالاستغفار فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : ما روي : ( المؤذن{[3570]} يغفر له بمد صوته ) [ أحمد 2/132 ] فهو على استجاب أولئك المغفرة به . فعلى ذلك استغفاره ليغفر به لبعض أمته .

والثاني : أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر ، وكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة ؛ فلو كان لا يجوز له التعذيب فيكون التعذيب ، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجزوا{[3571]} ذلك مما لا يسع المحنة ، وكذلك لو كان مغفورا له كان الحق فيها الشكر لما أنعم عليه . وفي ذلك كتمان النعمة ، والمحنة بكتمان نعم الله ، وكفرانها محال . لذلك لابد أن يمكن في الآيات مما تتمكن معه المحنة من المعنى ، والله أعلم .

وأما قوله جل وعلا : { قل رب احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ؛ قيل : { بالحق } ههنا هو العذاب ؛ كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم ، وقيل : احكم بحكمك الذي هو الحق . فإذا كان ما ذكر محتملا دل أنه ليس على ما ذهب إليه أوليك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قلنا } قيل : الإصر ، هو العهد ، ويقول : لا تحتمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه { كما حملته على الذين من قبلنا } ؛ وكان من قبلهم إذا أخطؤوا خطيئة حرم الله عليهم على نحوها مما أحل لهم الطبيات ، فقال{[3572]} تعالى : [ في اليهود ]{[3573]} { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] [ وفي أصحاب ]{[3574]} الأخدود { قتل أصحاب الأخدود } وغيرهم ، فخاف المسلمون ذلك ، فقالوا : { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } في جرم أجرمنا ، فتحرم علينا الطيبات .

وأصل الإصر الثقل [ والشدائد التي كانت ]{[3575]} عليهم من نحو ما كان [ أمر ]{[3576]} توبتهم إلا أمرا{[3577]} بقتل بعضهم بعضا كقوله تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة : 53 ] .

وقوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } يحتمل وجهين : يحتمل أن { و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من القتل والهلاك ؛ إذ في ذلك إفناؤهم ، وفي الفناء ذهاب طاقتهم .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : أي ما نشتغل عما أمرتنا ، فيكون كالدعاء بالعصمة ، والله أعلم .

ويحتمل أن يراد به طاقة الفعل ، وهي لا تتقدم عندنا الفعل ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { واعف عنا } ؛ قيل : اتركنا على ما نحن عليه ، ولا تعذبنا ،

وقوله تعالى : { واغفر لنا } أي استر لنا ، والغفر [ هو ]{[3578]} الستر ، ولذلك{[3579]} تسمى المغفرة مغفرة لأنه يستر ، وستر الذنب هو أعظم النعم .

[ وقوله تعالى : { وارحمنا } أي تغمدنا برحمتك [ لأنه ينجو ]{[3580]} أحد إلا برحمتك ]{[3581]} .

وقوله تعالى : { أنت مولانا } ؛ قيل : أنت أولى بنا ، وقيل : أنت حافظنا ، وقيل : أنت ولينا وناصرنا ، وقد ذكرنا ذلك في ما تقدم{[3582]} .

وقوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } يحتمل المعروفين ، ويحتمل الشياطين ، أي انصرنا عليهم// .


[3534]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[3535]:في الأصل وط ع: له، ساقطة من م.
[3536]:من ط ع، في الأصل وم: ذكر.
[3537]:من ط ع وم، ساقطة من الأصل.
[3538]:من ط ع وم، في الأصل: أن يكون.
[3539]:من ط ع وم، في الأصل: أن يكون.
[3540]:في الأصل: بشغلنا بغير، في ط ع وم: بشغلنا بغيره.
[3541]:من ط ع، في الأصل وم: بغير.
[3542]:من م، في الأصل: أئنا.
[3543]:ساقطة من ط ع.
[3544]:هو قول الحسن المذكور آنفا.
[3545]:من ط ع، في الأصل وم: و.
[3546]:في النسخ الثلاث يعادي.
[3547]:في النسخ الثلاث: يوالي.
[3548]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[3549]:في النسخ الثلاث: بان.
[3550]:من ط ع وم، في الأصل: فان.
[3551]:من ط ع، في الأصل وم: وفي قوله.
[3552]:ساقطة من ط ع.
[3553]:في النسخ الثلاث: يتأمل.
[3554]:أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[3555]:في ط ع: رسوله.
[3556]:في النسخ الثلاث: أن.
[3557]:(إن الله تجوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان) [ابن ماجه: 2043 والدر المنثور 1/276].
[3558]:الواو ساقطة من النسخ الثلاث.
[3559]:إشارة إلى قوله تعالى: {لا يخلف الله الميعاد} [الزمر: 20].
[3560]:إشارة على قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم وما تأخر} [الفتح: 2].
[3561]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[3562]:من ط ع، في الأصل وم: يعاتب.
[3563]:من ط ع.
[3564]:في النسخ الثلاث: عنه.
[3565]:في النسخ الثلاث: عنهما.
[3566]:في النسخ الثلاث: عنه.
[3567]:من ط ع، في الأصل وم: حديث.
[3568]:في النسخ الثلاث: مرفوعا.
[3569]:في النسخ الثلاث: مقرونا.
[3570]:في ط ع: المؤمن.
[3571]:في النسخ الثلاث: يجروا.
[3572]:في النسخ الثلاث: كقوله.
[3573]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[3574]:في النسخ الثلاث: وكأصحاب.
[3575]:في ط ع: والتشديد الذي كان.
[3576]:ساقطة من النسخ الثلاث.
[3577]:في الأصل وم: إصر، في ط ع: أمر.
[3578]:من ط ع.
[3579]:الواو ساقطة من ط ع.
[3580]:في ط ع: لأن لم ينج.
[3581]:من ط ع.
[3582]:في تفسير الآية (257).