الآية 286 وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } اختلف فيه : قال الحسن : ( قوله تعالى : { إلا وسعها } إلا ما يجل ، ويسع ) . لكن بعض الناس يقولون : هذا بعيد لا يحتمل الآية [ لأنه ]{[3534]} إذا كلف أحل ، ووسع ، فإذا كان كذلك لم يكن لقوله معنى . قيل لهم{[3535]} : هو كقوله تعالى : { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4و5 ] فإذا أحل طيب ، وإذا طيب أحل . فكذا الأول ، وقد ذكرنا {[3536]}الأمرين جميعا . وتأويل ثان : { إلا وسعها } إلا طاقتها ، وكذلك قول المعتزلة بتقديم الفعل .
وأما عندنا فإنها على وجهين : استطاعة الأحوال والأسباب واستطاعة الأفعال ، أما الاستطاعة الأحوال والأسباب فإنها بتقديمها ، على ذلك يقع الخطاب ؛ دليله قوله جل وعلا : { والله على الناي حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران : 97 ] . قيل : يا رسول الله : وما الاستطاعة ؟ قال : ( الزاد والرحلة ) [ الترمذي 813 ] ثم كل يجمع أن من كل بأقصى بلاد المسلمين قد يلزمه فرض الحج على علم كل منهم : أن تلك الاستطاعة لو صرفت إلى استطاعة الأفعال لم تبق إلى وقت وجود الأفعال ، ثم قد لزمه ذلك ، فبان أن الكلفة إنما تقع على استطاعة الأحوال والأسباب . وكذلك الكلفة في جميع الطاعات .
فإن قيل : قد يقع هذا [ على ]{[3537]} الخروج ، فيوجد الفعل عقيب قوة الخروج ، قيل : لو كان كذا لكان لا يلزم فرض الحج [ إلا بالخروج ، وله ترك الخروج ، إذ باكتساب الخروج يلزمه فرض الحج ]{[3538]} فثبت أنه لا يحتمله ، بل هو على ما قاله أصحابنا ، رحمهم الله : إنها استطاعة الأحوال والأسباب ، وتلك تتقدم لما ذكرنا ، والله أعلم .
وأما الاستطاعة الأفعال فإنها تحدث بحدوث الأفعال ، وتتلو كالأوقات التي لا تبقى في قوت ثان ؛ فهي كالوقت الذي لا يبقى في قوت تارة ، والله أعلم .
فإن سئلنا عن التكليف : أيكون{[3539]} في ما لا يطاق ؟ فجوابنا : أنه في ما منعنا عنه فلا ، وفي ما لم نمنع ، وضيعنا [ ما أعطينا من القوة بشغلنا بغيره ]{[3540]} فبلى . ثم الكافر بما أعطي من القوة والاستطاعة شغل نفسه بغيره{[3541]} ، وضيع ما أعطي من القوة ، فإذا ضيع لم يكن تكليف ما لا يطيق [ ثم ننظر أينا{[3542]} أحق بالقول بتكليف ما لا يطاق ؟ ]{[3543]} .
فمن قول المعتزلة : إن القوة تتقدم على الفعل ليوجده في الوقت الثاني . ثم في الوقت جعلوه أيضا غير قادر على الترك للفعل ، والمتعارف عن الأمر في الظاهر بشيء يفعله في وقت ألا يقع الأمر به وقت ما يسمعه ، ويقرع الخطاب السمع بل في ثان من الوقت /53-أ/ . فحصل عندهم الأمر على الوقت الذي هو قادر فيه . فأي تكليف علي ؟ وقوله{[3544]} : ( الطرق [ هو ]{[3545]} الوسع أبين مما قالوا ) وبالله التوفيق .
ثم أفحش من هذا ما قالوا : إن القدرة تتقدم الفعل ، والفعل هو الذي يدل على وجود الولاية ، وهو في وقت إيجاد الفعل : إن كان كفرا يعاد{[3546]} ، وإن كان إيمانا يوال{[3547]} . فحصل القول على أن الموالاة والمعاداة أبدا تقع في غير وقت الانتهاء والائتمار .
ثم قولهم في قوله تعالى : { ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا } [ يونس : 99 ] إنه على الجبر ، ولا يحتمل ذلك لأنه قد أوجب لكل ذلك مرة بالجبر في الخلقة [ ومرة بالاختيار ]{[3548]} ، وهو قوله : { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران : 83 ] فقد ألزمهم الإسلام بالخلقة ، فكان{[3549]} الثاني على الاختبار .
ثم قولهم في استطاعة واحدة لفعلن خطأ ، لأن{[3550]} من قولهم : إن الاستطاعة لا تبقى ، ثم وجود الفعلين معا في وقت باستطاعة واحدة محال ، ووجود تلك الاستطاعة لأحد الفعلين بعدم الأخر مستحيل لعدم البقاء ؛ ووجوده عندهم على البدل محال ، إذ جعلوا عين ما هو الأصل لأحدهما للآخر ، فثبت أمخ خطأ .
وقوله{[3551]} تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } فيه{[3552]} دلالة أن الله تعالى إنما يأمر عبيده ، وينهي لمنافع لهم ولضرر يلحقهم ، لا لمنافع تكون له في الأمر ، أو لضرر يلحقه ، فينهى عن ذلك ، فيكون في الأمر جار منفعة ، وفي النهي دافع مضرة كما يكون في الشاهد أن من أمر آخر بشيء إنما يأمر لمنفعة يأمر{[3553]} فيه ، وينهي عن شيء لدفع ضرر يخافه . وتعالى الله عن ذلك .
وقوله تعالى : { ربنا لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قيل فيه بوجهين : قيل : { إن نسينا } يعني تركنا كقوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] وكقوله : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي } [ طه : 115 ] أي ترك .
وقوله تعالى : { أخطأنا } يعني ارتكبنا ما انتهينا ، وقيل : إنه على حقيقة النسيان والخطإ ، كأنه على الإضمار أن قوله : { ربنا لا تؤاخذنا } الآية .
ثم اختلف بعد هذا : قالت المعتزلة : أمر بالدعاء بهذا تعبدا وتقربا إليه ، وكذلك قوله تعالى : { ربنا وآتنا ما وعدتنا } الآية{[3554]} [ آل عمران : 194 ] ، وكذلك أمر له : { قال رب احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ، ونحوه خرج الدعاء به مخرج التعبد والتقرب ، لأن [ رسول الله ]{[3555]} صلى الله عليه وسلم أخبر أنه{[3556]} لا يؤاخذنا بالنسيان والخطإ{[3557]} ، وأنه{[3558]} لا يخلف الميعاد{[3559]} ، وكذلك معلوم أنه لا يحكم إلا بالحق ، وكذلك قوله تعالى : { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] . وقد أخبر أنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر{[3560]} ، ولكنه على ما ذكرنا ، وإلى هذا يذهب المعتزلة .
وأما الأصل عندنا في هذا [ فإنه في وجوه
أحدهما : ]{[3561]} أنه جائز في الحكمة أن يعاقب{[3562]} على النسيان والخطإ ليجتهدوا في حفظ حقوقه وحدوده وحرماته لئلا ينسوا . ألا ترى أن الله أوجب على قاتل الخطإ الكفارة ، ثم قال : { توبة من الله } [ النساء : 92 ] . فلو [ كان لا يجوز أن يعاقب على النسيان والخطإ ]{[3563]} لم يكن لوجوب الكفارة عليه والتوبة معنى . دل أنه جائز في الحكمة المؤاخذة به .
والثاني : قوله جل وعلا : { وما أنسانيه إلا الشيطان } [ الكهف : 63 ] ، وفعل الشيطان مما يتقى ، ويحذر . لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم ؛ لأنه لو اجتهد عن فعل السهو والنسيان ؛ سلم منه{[3564]} . فجائز أن يسأل منهما{[3565]} ؛ إذ بالجهد يسلم منه{[3566]} ،
والثالث : ما ذكرنا أن النسيان ، هو الترك ، والخطأ ، هو ارتكاب المنهي ، والتارك لأمر الله والمرتكب لنهيه ، يستوجب العقاب عليه ، والله أعلم . فيصبح الدعاء على ذلك لئلا يلحقهم العذاب بترك ذلك الأمر وارتكابه المنهي .
فإن قيل : ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتي النسيان والخطأ وما استكرهوا عليه ) ؟ [ بنحوه ابن ماجه 2045 وتذكرة الموضوعات 91 ] قيل : إنما جاء هذا في الكفر خاصة لا في غيره ؛ وذلك أن القوم كانوا حديثي{[3567]} العهد بالإسلام ، يجري على ألسنتهم الكفر على النسيان والخطإ ، وكذلك يكرهون على الكفر ، فيجرون على ألسنتهم الكفر مخافة القتل ، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك مرفوع{[3568]} عنهم .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : وبعد فإن في الخبر العفو ، فيكون في ذلك دليل جواز الأخذ ، ولعل الوعد بالعفو مقرون{[3569]} بشرط لادعاء ؛ فلذلك يدعون . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بهذا ، فأوجب ألا يؤمر أحد أن يدعو ابتداء ، والله أعلم .
وأما قوله تعالى : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] ففيه وجهان :
أحدهما : أنه وعد المؤمنين جملة الجنة ؛ فسؤال كل منهم أن يجعله من تلك الجملة التي وعدهم الجنة .
والثاني : يسأل الختم على ما به يستوجب الموعود .
وأما الأمر بالاستغفار فهو يخرج على وجهين :
أحدهما : ما روي : ( المؤذن{[3570]} يغفر له بمد صوته ) [ أحمد 2/132 ] فهو على استجاب أولئك المغفرة به . فعلى ذلك استغفاره ليغفر به لبعض أمته .
والثاني : أن المغفرة في اللغة هي التغطية والستر ، وكأنه يسأل الستر عليه بعد التجاوز عنه .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : ثم الأصل أن الاستغفار هو طلب المغفرة ؛ فلو كان لا يجوز له التعذيب فيكون التعذيب ، فيصير السؤال في التحقيق سؤال ألا يجزوا{[3571]} ذلك مما لا يسع المحنة ، وكذلك لو كان مغفورا له كان الحق فيها الشكر لما أنعم عليه . وفي ذلك كتمان النعمة ، والمحنة بكتمان نعم الله ، وكفرانها محال . لذلك لابد أن يمكن في الآيات مما تتمكن معه المحنة من المعنى ، والله أعلم .
وأما قوله جل وعلا : { قل رب احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] ؛ قيل : { بالحق } ههنا هو العذاب ؛ كأنه أمره أن يسأل بإنزال العذاب عليهم ، وقيل : احكم بحكمك الذي هو الحق . فإذا كان ما ذكر محتملا دل أنه ليس على ما ذهب إليه أوليك ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قلنا } قيل : الإصر ، هو العهد ، ويقول : لا تحتمل علينا عهدا تعذبنا بتركه ونقضه { كما حملته على الذين من قبلنا } ؛ وكان من قبلهم إذا أخطؤوا خطيئة حرم الله عليهم على نحوها مما أحل لهم الطبيات ، فقال{[3572]} تعالى : [ في اليهود ]{[3573]} { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } [ النساء : 160 ] [ وفي أصحاب ]{[3574]} الأخدود { قتل أصحاب الأخدود } وغيرهم ، فخاف المسلمون ذلك ، فقالوا : { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } في جرم أجرمنا ، فتحرم علينا الطيبات .
وأصل الإصر الثقل [ والشدائد التي كانت ]{[3575]} عليهم من نحو ما كان [ أمر ]{[3576]} توبتهم إلا أمرا{[3577]} بقتل بعضهم بعضا كقوله تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة : 53 ] .
وقوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } يحتمل وجهين : يحتمل أن { و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من القتل والهلاك ؛ إذ في ذلك إفناؤهم ، وفي الفناء ذهاب طاقتهم .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : أي ما نشتغل عما أمرتنا ، فيكون كالدعاء بالعصمة ، والله أعلم .
ويحتمل أن يراد به طاقة الفعل ، وهي لا تتقدم عندنا الفعل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { واعف عنا } ؛ قيل : اتركنا على ما نحن عليه ، ولا تعذبنا ،
وقوله تعالى : { واغفر لنا } أي استر لنا ، والغفر [ هو ]{[3578]} الستر ، ولذلك{[3579]} تسمى المغفرة مغفرة لأنه يستر ، وستر الذنب هو أعظم النعم .
[ وقوله تعالى : { وارحمنا } أي تغمدنا برحمتك [ لأنه ينجو ]{[3580]} أحد إلا برحمتك ]{[3581]} .
وقوله تعالى : { أنت مولانا } ؛ قيل : أنت أولى بنا ، وقيل : أنت حافظنا ، وقيل : أنت ولينا وناصرنا ، وقد ذكرنا ذلك في ما تقدم{[3582]} .
وقوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } يحتمل المعروفين ، ويحتمل الشياطين ، أي انصرنا عليهم// .