معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

قوله تعالى : { إلا الذين يصلون إلى قوم } . وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة ، لأن موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ، ومعنى { يصلون } أي : ينتسبون إليهم ، ويتصلون بهم ، ويدخلون فيهم بالحلف ، والجوار . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد يلجأون إلى قوم .

قوله تعالى : { بينكم وبينهم ميثاق } أي : عهد ، وهم الأسلميون ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ، ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال ، وقال الضحاك عن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق ، بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة ، وقال مقاتل : هم خزاعة . قوله تعالى :{ أو جاؤوكم } أي : يتصلون بقوم جاؤوكم .

قوله تعالى : { حصرت صدورهم } أي : ضاقت صدورهم ، قرأ الحسن ويعقوب : " حصرت " منصوبة منونة ، أي : ضيقة صدورهم ، يعني القوم الذين جاؤوكم وهم بنو مدلج ، كانوا عاهدوا قريشا أن لا يقاتلوا المسلمين ، وعاهدوا قريشاً أن لا يقاتلوهم . قوله تعالى : { أن يقاتلوكم } أي : عن قتالكم للعهد الذي بينكم .

قوله تعالى : { أو يقاتلوا قومهم } ، يعني : من آمن منهم ، ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ، ولا يقاتلون قومهم معكم ، يعني قريشاً قد ضاقت صدورهم لذلك . وقال بعضهم : " أو " بمعنى الواو ، كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم ، أي : قد حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم ، وهم قوم هلال الأسلميون ، وبنو بكر ، نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمسلمين ، لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدماء .

قوله تعالى : { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } ، يذكر منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين ، يقول : إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى في قلوبهم من الرعب ، وكفهم عن قتالكم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم .

قوله تعالى : { فإن اعتزلوكم } أي : اعتزلوا قتالكم .

قوله تعالى : { فلم يقاتلوكم } ، ومن اتصل بهم ، ويقال : يوم فتح مكة لم يقاتلوكم مع قومهم .

قوله تعالى : { وألقوا إليكم السلم } أي : الصلح فانقادوا واستسلموا .

قوله تعالى : { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } أي : طريقاً بالقتل والقتال .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق :

فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [ على ] ذلك ، إحداهما{[220]}  من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم ، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال .

والفرقة الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي : بقوا ، لا تسمح أنفسهم بقتالكم ، ولا بقتال قومهم ، وأحبوا ترك قتال الفريقين ، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم ، وذكر الحكمة في ذلك في قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام :

إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم ، وهذا متعذر من هؤلاء ، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين ، وهو أهون الأمرين عليكم ، والله قادر على تسليطهم عليكم ، فاقبلوا العافية ، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك .

فهؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا }

الفرقة الثالثة : قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم ، وهم الذين قال الله فيهم : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي : من هؤلاء المنافقين . { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي : خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي : لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم ، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم ، وازداد كفرهم ونفاقهم ، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية ، وفي الحقيقة مخالفة لها .

فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم ، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما ، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين ، فإنهم مستعدون{[221]}  لانتهازها ، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم ، فإنهم يقاتلون ، ولهذا قال : { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : حجة بينة واضحة ، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة ، فلا يلوموا إلا أنفسهم .


[220]:- كذا في ب، وفي أ: أحدها.
[221]:- في ب: سيقدمون.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

88

ثم استثنى من هذا الحكم - حكم الأسر والقتل - لهذا الصنف من المنافقين ، الذين يعينون أعداء المسلمين - من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد - عهد مهادنه أو عهد ذمة - ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه ، ويتصلون به :

( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) . .

ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم ، حيثما وجد مجالًا للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي . من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار ؛ وعدم الوقوف في وجه الدعوة ، بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين ؛ وعدم تعريضهم للفتنة ، أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر .

ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين - عهد ذمة أو عهد هدنة - شأنه شأن القوم المعاهدين . يعامل معاملتهم ، ويسالم مسالمتهم . وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام .

كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى . هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد ، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال . إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم . كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين . فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء :

أو جاؤوكم ، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم . .

وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال ؛ حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم ؛ واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم . وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم . . كانوا موجودين في الجزيرة ؛ وفي قريش نفسها ؛ ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه . فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه . . كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام ، حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه ؛ كما وقع بالفعل .

ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين . فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف ! فلقد كان من الممكن - بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين - أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين ! فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو ، فالسلم أولى ، وتركهم وشأنهم هو السبيل :

( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم . فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ، وألقوا إليكم السلم . فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) . .

وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين ، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق . يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره ؛ ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين . ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه ، ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيدا عنهم ، فلا يناوشوة . . طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم ، ولا تمييع لشيء من عقيدتهم ؛ ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة !

لقد نهاهم عن السلم الرخيصة . لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام . . إنما غاية الإسلام : السلم التي لا تتحيف حقا من حقوق الدعوة ، ولا من حقوق المسلمين . . لا حقوق أشخاصهم وذواتهم ؛ ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين .

وإن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن يكون لكل من شاء - ممن بلغتهم الدعوة - أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذي في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة - في صورة من الصور - أو مضارة من يؤمن بها - أي لون من ألوان المضارة - وبعد ذلك فالسلم قاعدة . والجهاد ماض إلى يوم القيامة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

ثم استثنى الله ، سبحانه من هؤلاء فقال : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي : إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة ، فاجعلوا حكمهم{[7973]} كحكمهم . وهذا قول السدي ، وابن زيد ، وابن جرير .

وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان ، عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأُحُد ، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مُدْلج - فأتيته{[7974]} فقلت : أَنْشُدُك النعمة . فقالوا : صه{[7975]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه ، ما تريد ؟ " . قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن{[7976]} قلوب قومك عليهم . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : " اذهب معه فافعل ما يريد " . فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، [ ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم ]{[7977]} فأنزل الله : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ }

ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال{[7978]} فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم{[7979]} وهذا أنسب لسياق الكلام .

وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم .

وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ] } [ التوبة : 5 ] .

وقوله : { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ]{[7980]} } الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم ، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي : ضيقة صدورهم مُبْغضين{[7981]} أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } أي : من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } أي : فليس لكم أن تقتلوهم ، ما دامت حالهم{[7982]} كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر{[7983]} بأسره .


[7973]:في أ: "حكمكم".
[7974]:في د: فأتيت".
[7975]:في أ: "مه".
[7976]:في د: "لم تحزن" وفي ر: "لم يحسن".
[7977]:زيادة من أ.
[7978]:في د: "وفيه".
[7979]:رواه ابن أبي شيبة في المصنف (14/232) حدثنا أسود بن عامر عن حماد بن سلمة به.
[7980]:زيادة من د.
[7981]:في د: "منقبضين"
[7982]:في أ: "حالتهم".
[7983]:في د، أ: "وأمر".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

الاستثناء من الأمر في قوله : { فخذوهم واقتلوهم } أي : إلاّ الذين آمنوا ولم هاجروا . أو إلاّ الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا ، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم ، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل ، لئلاّ تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم .

ومعنى ( يَصلُونَ ) ينتسبون ، مثل معنى اتَّصل في قول أحد بني نبهان :

ألاَ بَلْغَا خُلَّني رَاشِداً *** وصِنْوِي قديماً إذَا ما اتَّصل

أي انتسب ، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق ، أي إلاّ الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق ، فيدخلون في عهدهم ، فعلى الاحتْمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهَد المعاهَد كالمعاهَد . والمراد ب ( الذين يصلون ) قوم غير معيّنين ، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين ، ولذلك قال مجاهد : هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] .

وأمّا قوله : { إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين . قال مجاهد : لمّا نزلت : { فما لكم في المنافقين فئتين } الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم ، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي ، وكان قد حَالف النبي صلى الله عليه وسلم على : أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وأنّ من لَجَأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له . وقيل : أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة ، وقيل : بنو بكر بن زيد مناءةَ كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين ، ولم يكونوا آمنوا يومئذٍ وقيل : هم بنو مُدْلِج إذ كان سراقة بن مالك المدلِجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر ، على أن لا يعينوا على رسول الله ، وأنّهم إن أسلمتُ قريش أسلموا وإن لم تُسلم قريش فهم لا يسلمون ، لئلاّ تخشن قلوب قريش عليهم . والأولى أنّ جميع هذه القبائل مشمول للآية .

ومعنى { أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم } الخ : أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقْبَلُوا منهم ذلك . وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام ، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألّفاً لهم ، ولمن دخل في عهدهم ، فلمّا قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجباً على كلّ من يدخل في الإسلام ، أمّا المسلمون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة ، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها .

وقرأ الجمهور « حَصِرَت » بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل وقرأه يعقوب « حَصِرةً » بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبةٌ منونّة .

و { حصرت } بمعنى ضاقت وحرجت .

و { أن يقاتلوكم } مجرور بحذف عن ، أي ضاقت عن قتالكم ، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم ، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد ، فعظم عليهم قتالهم .

وقد دلّ قوله : { حصرت صدورهم } على أنّ ذلك عن صدق منهم . وأريد بهؤلاء بنو مدلِج : عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدَقوا ، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سَخَّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلماً يودّونهم . ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال : { ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم } . ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم ، وهو معنى قوله : { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } أي إذْنا بعد أذْن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم .

والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة ، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { ما على المحسنين من سبيل } في سورة براءة ( 91 ) .