فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

{ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ( 90 ) }

{ إلا الذين } هذا مستثنى من الأخذ والقتل فقط ، وأما الموالاة فحرام مطلقا لا تجوز بحال { يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } بالجوار والحلف فلا تقتلوهم لما بينكم وبينهم عهد وميثاق ، فإن العهد يشملهم ، هذا أصح ما قيل في معنى الآية ، وقيل الاتصال هنا هو اتصال النسب ، والمعنى إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، قاله أبو عبيدة{[515]} .

وقد أنكر ذلك عليه أهل العلم لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع فقد كان بين المسلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال .

وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فقيل هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ، والذين يصلون إلى قريش هم بنو مدلج وقيل نزلت في هلال ابن عويم وسراقة بن جعثم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد ، وقيل خزاعة ، وقيل بنو بكر بن زيد .

{ أو جاءوكم حصرت صدورهم } والحصر الضيق والانقباض ، وقال محمد بن يزيد المبرد : هو دعاء عليهم كما تقول لعن الله الكافر ، وضعفه بعض المفسرين ، وقيل أو بمعنى الواو { أن يقاتلوكم } مع قومهم { أو يقاتلوا قومهم } معكم فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين وكرهوا ذلك .

{ ولو شاء الله لسلطهم عليكم } ابتلاء منه لكم واختبارا كما قال سبحانه : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } أو تمحيصا لكم أو عقوبة بذنوبكم ، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فألقى في قلوبهم الرعب { فلقاتلوكم } يذكر الله منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين{[516]} .

{ فإن اعتزلوكم } عن قتالكم { فلم يقاتلوكم } أي لم يعترضوا لقتالكم { وألقوا إليكم السلم } أي استسلموا لكم وانقادوا { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } أي طريقا فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم ، فهذا الاستسلام يمنع ذلك ويحرمه ، قيل هذا منسوخ بآية القتال ، وقيل محكمة محمولة على المعاهدين وهذا هو الظاهر{[517]} .


[515]:زاد المسير 2/157و158.
[516]:قال ابن كثير رحمه الله: ثم استثنى الله سبحانه من هؤلاء فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) أي: إلا الذين لجئوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم كحكمهم، وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير وانظر تفصيل القول في "المغني" 10/513، و"نيل الأوطار"8/176.
[517]:وقال ابن كثير1/533: وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة، عن علي ابن زيد بن جدعان، عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر يعني النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد ابن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة. فقالوا: صه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه ما تريد؟ قال: بلغني أنك تريد أن تبعث قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد ابن الوليد، فقال: اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا، فأنزل الله {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونوا سواء فلا تتخذوا منهم أولياء}.