اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ } : في هذه الاستثناء قولان :

أظهرهما : أنه استثناء مُتَّصِلٌ ، والمستثنى منه قوله : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } في الأخذ والقتل لا في المُوالاة ؛ لأن موالاة الكُفَّار والمنافقين لا يجوز بحال .

والمُسْتَثْنَوْنَ على هذا قَوْمٌ كُفارٌ ، ومَعْنَى الوَصْلَةِ هنا الوَصْلَةُ بالمُعَاهَدَةِ والمُهَادَنَةِ . وقال أبُو عبيد : " هو اتِّصَالُ النَّسَب " ، وغلَّطه النَّحَّاس بأن النَّسَب كان ثابتاً بين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحابة ، وبين المُشْرِكين ، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم .

وقال ابن عبَّاس : يريد : ويلْجَئُون إلى قوم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : عهد ، وهم الأسْلَميُّون ، وذلك أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وادَعَ هِلال بن عُوَيْمر{[9167]} الأسْلَمِيّ عند خُرُوجه إلى مَكَّة ، على ألاَّ يُعينَهُ ولا يُعين عليْه ، ومن وَصَل إلى هِلالٍ من قَوْمهِ وغيرهم ولجأ إليه ، فلهم من الجواز مثل ما لِهِلالٍ .

وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ : أراد بالقَوْم الَّذين بالقَوْم الَّذِين بَيْنكم وبَينهم ميثَاقٌ : بني بَكْرٍ بن زَيْد بن مَنَاة ، وكانوا في الصُّلْح والهُدْنة ، وقال مُقَاتِل : هم خُزَاعَة .

والقَوْل الثاني : أنه منقطعٌ - وهو قول أبِي مُسْلم الأصْفَهَانِيِّ ، واختيار الرَّاغب - .

قال أبو مُسْلم : " لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهِجْرَةَ على كُلِّ مَنْ أسلم ، استثنى مَنْ له عُذْرٌ فقال : { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ } وهم قوم قَصَدُوا الهِجْرَة إلى الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ونصرته ، وكان [ بينهم وبَيْنَه في الطَّريق كُفَّار يخافونهم ، فَعَهِدُوا إلى كُفَّارٍ كان ] بينهم وبين المُسْلمين عَهْدٌ ، فأقاموا عَنْدَهُم إلى أنْ يُمْكِنهُمُ الخلاصُ ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صَار إلى الرَّسُول وأصْحَابه ؛ لأنه يخافُ اللَّهَ فيه ، ولا يقاتِلُ الكُفَّار أيضاً لأنهم أقاربُه ؛ أو لأنه يَخَافُ على أولاده الذين هُمْ في أيديهم " ، فعلى هذا القَوْلِ يكون استثناءً مُنْقَطعاً ؛ لأن هؤلاء المُسْتَثنين لم يَدْخُلوا تحت قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } والمُسْتَثنوْن على هَذَا مُؤمِنُون .

قوله : { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } يجوز أن يكونَ جملةً من مُبْتَدَأ وخَبر في مَحَلِّ جرِّ صفة ل " قوم " ، ويجوز أن يكُونَ " بينكم " وحْدَه صفةً ل " قوم " ، فيكون في محلِّ جَرٍّ ويتعلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ، و " ميثاق " على هذا رفعٌ بالفَاعِليَّة ؛ لأنَّ الظَّرف اعتمد على مَوْصُوفٍ ، وهذا الوَجْهُ أقربُ ؛ لأنَّ الوَصْفَ بالمُفْرَدِ أصْلٌ للوصف بالجُمْلَة .

قوله : " أو جاءوكم " فيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على الصِّلَة ؛ كأنه قيل : أو إلا الذين جَاءُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهُم ، فيكون التقدير : " إلا الذين يصلون بالمعاهدين ، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم " فيكون المُسْتَثْنَى صِنْفَيْن من النَّاس : أحدهما : واصلٌ إلى قومٍ مُعاهدين ، والآخر مَنْ جَاءَ غَيْرَ مقاتِلٍ للمسلمين ولا لِقَوْمه .

والثاني : أنه عَطْفٌ على صِفَةِ " قوم " وهي قوله : { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } ، فيكون المُسْتَثْنَى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يَصِلُ إليه من مُعَاهدٍ وكافرٍ ، واختار الأول الزَّمَخْشَري وابنُ عَطِيَّة .

قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " الوجهُ العطفُ على الصِّلةِ ؛ لقوله : { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } بعد قوله : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } فقرَّر أنَّ كفَّهُم عن القِتَال أحدُ سَبَبَي اسْتِحقَاقِهم لنفي التعرُّض لهُم ، وتَرْكِ الإيقاع بهم ، فإن قُلْت : كلُّ واحد من الاتِّصالين له تأثيرٌ في صحة الاستِثْنَاء ، واستحقاقِ تَرْكِ التَّعرضِ للاتصال بالمُعَاهدين والاتصال بالْكَافِّين ، فهلا جَوَّزْت أن يَكُونَ العَطْفُ على صفةِ " قوم " ، ويكون قوله : " فإن اعتزلوكم " تقريراً لحكم اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطهم بهم ، وجَرْيهم على سُنَنِهم ؟ قلت : هو جَائِزٌ ، ولكن الأوَّلَ أظهرُ وأجْرى على أسلوب الكلام " . انتهى .

وإنما كان أظهر لوجهين :

أحدهما : من جِهَة الصِّنَاعة ، والثاني : من جهة المَعْنَى .

أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ عطفَه على الصِّلة لكون النِّسْبَة فيه إسْنَادِيةً ، وذلك أن المُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عنه مَحْكُومٌ له ، بخلاف حُكْم المُسْتَثْنَى منه ، فإذا قدَّرْتَ العَطْفَ على الصَِّلَة ، كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه ، بِخِلاَف ما إذا عَطَفْتَه على الصِّفَة ، فإنه يكونُ تَقْيِيداً في " قوم " الذين هم قيدٌ في الصِّلَةِ المُحَدَّثِ عن صَاحِبها ، ومتى دار الأمْر بين أن تكُون النِّسْبَة إسْنَاديّةً وبين أن تكون تقييدية ، كان جَعْلها إسناديةً أوْلى لاسْتِقلالها .

والثاني من جهة المَعْنَى : وذلك أنَّ العَطْفَ على الصِّلَةَ يؤدِّي أن سَبَبَ تَرْكِ التَّعرُّض لهم تَرْكُهُم القتالَ ونَهْيُهُم عنه ، وهذا سَبَبٌ قريب ، والعَطْفُ على الصِّفَة يؤدي إلى أنَّ سَبَبَ تركِ التعرُّضِ لهم ، وصُولُهم إلى قَوْم كافِّين عن القِتَال ، وهذا سببٌ بعيدٌ ، وإذا دَارَ الأمرُ بين سَبَبٍ قريب وآخر بعيدٍ ، فاعْتِبَارُ القرِيبِ أوْلَى .

والجمهورُ على إثبات " أو " ، وفي مُصْحَفِ أبَيٍّ{[9168]} : " جاءوكم " من غير " أوْ " ، وخَرَّجها الزَّمَخْشَرِيُّ على أحَدِ أرْبَعة أوْجُه : إمَّا البيان ل " يصلون " ، أو البَدَلِ منه ، أو الصِّفة لقَوْم بعد صِفَة ، أو الاستئنَافِ .

قال أبو حيان{[9169]} : " وهي وجوهٌ مُحْتَمَلَةٌ وفي بعضها ضعفٌ ، وهو البيانُ والبدلُ ؛ لأن البيانَ لا يَكُون في الأفْعَالِ ؛ ولأن البدل لا يتأتَّى لكونه ليس إيَّاه ، ولا بعضه ، ولا مُشْتَمِلاً عليه " . انتهى ، ويحتاج الجَوَابُ عنه [ إلى ] تأمُّلٍ ونظرٍ .

قوله : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فيه سبعة أوجُه :

أحدها : أنه لا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة ، بل جِيءَ بها للدُّعاء عليهم بضيق صُدُورهم عن القَتَالِ ، وهذا مَنْقُولٌ عن المُبَرِّد ، إلاَّ أنَّ الفَارسِيَّ رَدَّ عيله بأنا مَأمُورُون بأنْ نَدْعُوَ على الكُفَّارِ بإلقاءِ العَدَاوَة بينهم ، فَنَقُولُ : " اللَّهُم أوْقِعِ العَدَاوَةَ بين الكُفَّار " لكن يكُونُ قوله : { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } نفياً لما اقْتَضَاهُ دعاءُ المُسْلِمين عليهم .

وقد أجَابَ عن هذا الردِّ بعضُ النَّاس ؛ فقال بن عَطِيَّة : " يُخَرَّجُ قولُ المُبَرِّد على أن الدُّعَاء عليهم بألاَّ يقاتلوا المُسْلِمِين تعجيزٌ لَهُم ، والدعاءُ عَلَيْهم بألاَّ يقاتلوا قومهم تَحْقيرٌ لَهُمْ ، أي : هُمْ أقلُّ وأحْقَرُ ومُسْتَغْنى عَنْهُم ، كما تقول إذا أردت هذا المَعْنَى : " لا جعل الله فُلاناً عليَّ ولا مَعِي " بمعنى : أسْتَغْنِي عنه وأستَقِلُّ دونَه " .

وأجاب غيرُه بأنَّه يجُوزَ أن يكونَ سُؤالاً لقومهم ، على أنَّ قوله : " قومهم " قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ لَيْسُوا منهم ، [ بل عن مُعاديهم " .

الثاني : أنَّ " حصرت " حالٌ من فاعل " جاءوكم " وإذا وَقَعت الحَالُ فعلاً مَاضِياً ففيها ] خلافٌ : هل يَحْتاج إلى اقْتِرانه ب " قَدْ " أم لا ؟ والراجِحُ عدمُ الاحْتِياج ؛ لكثرة ما جاء منه ، فَعَلى هذا لا تُضْمَرُ " قد " قَبْلَ " حصرت " ، ومَنِ اشْتَرَط ذلك ، قَدَّرها هنا .

والثالث : أنَّ " حصرت " صفةٌ لحَالٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : أو جاءُوكم قوماً حَصِرَتْ صُدُورُهُم رجالاً حصرت صُدُورهم ، فنصب لأنَّه صفة مَوْصُوف مَنْصُوب على الحال ، إلاَّ أنه حذف المَوْصُوف المنْتَصب على الحَالِ ، وأقيمت صِفته مَقَامَه وسَمَّاها أبو البقاء{[9170]} حالاً مُوَطِّئَة ، وهَذَا الوجُه يُعْزَى للمُبرِّد أيضاً .

الرابع : أن يَكُون في مَحَلِّ جَرِّ صفةً لِقَوْم بعد صِفَة ، و " أو جاءوكم " مُعْتَرِضٌ .

قال أبُو البَقَاءِ : يَدُلُّ عليه قِرَاءةُ مَنْ أسْقَط " أو " وهو أبَيٌّ ، كذا نَقَلَهُ عنه أبو حيَّان والذي في إعْرَابِه إسقاطُ " أو جاءُوكم " جميعه ، وهذا نَصُّه{[9171]} قال : " أحَدُهُما : هو جَرٌّ صِفَةً لقومِ ، وما بَيْنَهُمَا صفة أيضاً ، و " جاءوكم " معترضٌ ، وقد قرأ بَعْضُ الصَّحابَة : " بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم " ، بحذف " أو جاءوكم " هذا نَصُّه ، وهو أوفق لهذا الوَجْهِ .

الخامس : أن يكون بدلاً من " جاءوكم " بدلَ اشْتِمَال ؛ لأن المَجِيء مشتمِلٌ على الحَصْر وغيره ، نَقَلَه أبو حيان عن أبي البقاء أيضاً .

السادس : أنه حبرٌ بعد خَبَر ، وهذه عِبَارة الزَّجَّاج{[9172]} ، يعني : أنها جملة مُسْتَأنفَة ، أخْبر بها عن ضِيق صُدُورِ هَؤلاَء عن القِتَال بعد الإخْبَار عَنْهُم بما تَقَدَّم .

قال ابن عطية بعد حِكَاية قولِ الزَّجَّاج : " يُفَرَّق بين الحَالِ وبين خَبَرٍ مستأنفٍ في قولك : " جاء زَيْد رَكِبَ الفَرَسَ " أنك إذا أرَدْتَ الحَالَ بقولك : " ركب الفَرَس " قدَّرْتَ " قد " ، وإن أرَدْت خَبَراً بعد خَبَر ، لم تَحْتَجْ إلى تقدِيرها " .

السَّابع : أنه جَوَاب شَرْطِ مُقَدَّر ، تقديره : إن جاءُوكُم حصرت [ صدورهم ] ، وهو رأي الجُرجَانِيِّ ، وفيه ضَعْفٌ ؛ لعدم الدَّلاَلة على ذَلِك .

وقرأ الجُمْهُور : " حصرت " فعلاً ماضياً ، وقرأ الحَسَن ، وقتادة{[9173]} ، ويعقوب : " حصرة " نَصْباً على الحَالِ بوزن " نبقة " ، وهي تؤيِّد كونَ " حصرت " حالاً{[9174]} ، ونقلها المَهْدَوِي عن عَاصِمٍ في رواية حَفْص ، ورُوي عن الحَسَن{[9175]} أيضاً : " حصرات " و " حاصرات " .

وهاتان القراءتان تَحْتَمِلان أن تكُونَ " حصرات " و " حاصرات " نَصْباً على الحال ، أو جَرّاً على الصِّفَة ل " قوم " ؛ لأنَّ جَمْع المُؤنَّث السَّالمِ يستوي جَرُّه ونَصْبُه ، إلا أنَّ فيهما ضَعْفاً ؛ من حيث إنَّ الوَصْفَ الرَّافع لظاهرٍ الفَصيحُ فيه أن يُوَحد كالفِعْلِ ، أو يُجمَعَ جَمْعَ تَكْسِير ويَقِلُّ جمعُه تَصْحِيحاً ، تقول : مررت بِقومٍ ذاهب جَوَاريهم ، أو قيام جواريهم ، ويَقِلُّ : " قائِماتٍ جَوَاريهم " .

وقرئ{[9176]} : " حصرةٌ " بالرفع على أنه خَبَر مُقَدَّم ، و " صدورهم " مبتدأ ، والجُمْلَة حال أيضاً . وقال أبو البقاء{[9177]} : " وإن كان قد قُرِئ : " حصرة " بالرَّفْع ، فعلى أنَّه خَبَر ، و " صدورهم " ، مُبْتَدأ ، والجُمْلَةٌُ حال " .

قوله : " أن يقاتلوكم " أصلُه : عن أنْ : فلمَّا حُذِف حَرْف الجَرِّ ، جرى الخِلاف المَشْهُور ، أهي في مَحَلِّ جَرٍّ أو نَصْب ؟ والحَصْرُ : الضِّيق ، وأصلُه في المكان ، ثم تُوُسِّع فيه [ فأطْلِق على حَصْر القَوْل : وهو الضيق في الكلام على المُتَكلِّم والحصر : المكتوم ] قال : [ الكامل ]

وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا *** حَصِراً بِسِرَِّكِ يَا أمَيْمُ ضَنِينا{[9178]}

فصل

اخْتَلَفُوا في الَّذِين اسْتَثْنَاهُم اللَّه - تعالى - :

فقال الجُمْهُور{[9179]} [ هم ]{[9180]} من الكُفَّار والمَعْنَى : أنه - تعالى - أوجَبَ قتل الكَافِر ، إلاَّ إذا كان مُعَاهِداً أوْ تَارِكاً للقِتَال ، فإنَّه لا يَجُوز قَتْلَهم ، وعلى هذا التَّقْدِير فالقول بالنَّسْخ لازم ؛ لأنَّ الكافر وإن تَرَكَ القِتَال ؛ فإنه يَجُوز قَتْله .

وقال أبُو مُسْلم الأصْفَهَاني{[9181]} : هم قوم من المُؤمِنين ، وذكر ما تقدَّم عنه في كَوْن الاستِثْنَاءِ مُنْقَطِعاً .

قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } التَّسْليط في اللغة{[9182]} مأخوذ من السَّلاطة ؛ وهي الحدَّة ، والمقصود : أنَّ الله تعالى منَّ على المُسْلِمين بِكَفِّ بَأسِ المُعَاهِدِين .

قال [ بعض ]{[9183]} المفسِّرين : معنى الآية : أن القَوْم الَّذين جَاءوكُم بنو مُدْلج ، كانوا عَاهَدُوا ألاَّ يُقَاتِلُوا المُسْلِمين ، وعاهَدُوا قُرَيْشاً ألاَّ يقاتِلُوهم وحصرَت : ضاقَتَ صُدُورُهُم ، { أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } أي : عن قتالِكُم للعَهْد الذي بَيْنَكُم ، { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } يعني : مَنْ أمِنَ منهُم ، ويجُوز أن يكُون مَعْنَاه : أنَّهم لا يُقَاتِلُونَكُم مع قَوْمِهِم ، ولا يُقَاتِلُون قومهم مَعَكُم ، يعني : قُرَيشاً قد ضاقَتَ صُدُورُهم لِذَلِك .

وقال بَعْضُهم : " أو " الوَاوِ ؛ كأنه قال : إلى قَوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ ، جاءُوكُم حصرت صُدورُهم عن قَتَالِكُم والقِتَال مَعَكُم وهم - قَوْمُ هلالٍ - الأسْلميُّون وبنو بكر ، نهى الله - سُبْحانَهُ - عن قتل هؤلاء المُرتدِّين إذا اتَّصَلُوا بأهل عَهْدٍ للمُؤمِنين ؛ لأن من انْضَمَّ إلى قَوْمٍ ذَوي عَهْد فله حُكْمهم في حَقْن الدَّمِ .

فصل

المَعْنَى : أن ضيق صدورهم عن قِتَالِكُم ؛ إنَّما هو لأن الله - تعالى - قَذَفَ الرُّعْب في قُلُوبِهِم ، ولو أنه - تعالى - قَوَّى قُلُوبَهُم على قِتَال المُسْلِمِين ، لتَسَلَّطُوا عليهم ، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ من الله تَسْلِيط الكَافِر على المُؤمِن{[9184]} وتَقْويته [ عَلَيْه ]{[9185]} .

وأجاب المُعْتَزِلَةُ بوجهين :

الأول : قال الجُبَّائِي : قد بينَّا أنَّ الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله - تعالى - قومٌ مؤمِنُون لا كَافِرُون ، وعلى هذا فَمَعْنَى الآيَة : ولو شَاءَ اللَّه لَسَلَّطهم عليكم بِتَقْوية [ قُلُوبِهِم ]{[9186]} ليدْفَعُوا عن أنْفُسِهِم ، إن أقدمتم على مُقَاتَلتِهِم على سَبيل الظُّلْمِ .

الثَّاني : قال الكَلْبِي : إنه - تعالى - أخبر أنَّه لو شاء لَفَعَل ، وهذا لا يُفِيدُ إلاَّ أنه - تعالى - قَادِرٌ على الظُّلْم ، وهذا مَذْهَبُنَا ، إلا أنَّا نقول : إنه - تعالى - لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ .

قوله : " فلقاتلوكم " اللام جَوَاب " لو " على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة ، تقديره : ولَوْ شَاءَ اللَّه لَسَلَّطَهُم عليكم ، ولو شَاءَ اللَّه لَقَاتَلَوكُم .

وقال ابن عطيّة : هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى ، لو لم تَكُن الأولى كنت تقول : " لقاتلوكم " . وهي تَسْمِيةٌ غريبة ، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي ، والجُمْهُور على : " فلقاتلوكم " من المُفاعَلة .

ومُجَاهِد{[9187]} ، وجماعة : " فلقتَّلوكم " ثُلاثياً ، والحَسَن والجَحْدَري{[9188]} : " فلقتَّلوكم " بالتَّشديد .

قوله : " فإن اعتزلوكم " أي : فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم ، وألْقَوا إليْكُم السَّلَم ، أي : الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي{[9189]} : " السَّلْمَ " بفتح السِّين وسُكُون اللام ، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً بالقَتْل والقِتَالِ .

[ قوله : { لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } " لكم " متعلِّق ب " جعل " ، و " سبيلاً " مَفْعُولُ " جعل " ، و " عليهم " حالٌ من " سبيلا " ؛ لأنه في الأصْل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، ويجُوز أن تكونَ " جعل " بمعنى " صير " ، فيكون " سبيلا " مَفْعُولاً أوّلَ ، و " عليهم " مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم ] .

قال بعضهم : هذه الآية منْسُوخة بآية السَّيْف ، وهي قوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ }

[ التوبة : 5 ] ، وقال آخَرُون : إنَّها غير مَنْسُوخة ، أمَّا الَّذِين حملوا الاسْتِثْنَاء على المُسْلِمِين ، فهو ظاهِرٌ على قولهم ، وأمَّا الذين حَمَلُوه على الكَافِرِين ؛ فقال الأصَمُّ{[9190]} : إذا حَمَلْنَا الآية على المُعَاهدين ، فَكَيْفَ يمكن أن يُقَال إنها مَنْسُوخَةٌ .


[9167]:في ب: عمير.
[9168]:ينظر: البحر المحيط 3/330 والدر المصون 2/410.
[9169]:ينظر: البحر المحيط 3/329 ـ 330.
[9170]:ينظر: الإملاء 1/190.
[9171]:ينظر: الإملاء 1/189.
[9172]:ينظر: معاني القرآن 3/96.
[9173]:وهي قراءة مصحف أبيّ. ينظر: المحرر الوجيز 2/90، والبحر المحيط 3/329، 330 وفيه إسقاط "أو" فقط على أنها قراءة أبي. وينظر: الدر المصون 2/411.
[9174]:احتج الكوفيون بهذه الآية: {أو جاؤوكم حصرت صدورهم} على جواز وقوع الفعل الماضي حالا، واحتجاجهم بتلك الآية مردود من أربعة أوجه: الوجه الأول: أن تكون صفة لـ "قوم"، المجرور في أول الآية، وهو قوله تعالى: {إلا الذين يصلون إلى قوم}. والوجه الثاني: أن تكون صفة لـ "قوم" مقدر، ويكون التقدير فيه: "أو جاؤوكم قوما حصرت صدورهم"، والماضي إذا وقع صفة لموصوف محذوف، جاز أن يقع حالا بالإجماع. والوجه الثالث: أن يكون خبرا كأنه قال: أو جاؤوكم، ثم أخبر، فقال: حصرت صدورهم. والوجه الرابع: أن يكون محمولا على الدعاء لا على الحال؛ كأنه قال: ضيق الله صدورهم كما يقال: جاءني فلان وسع الله رزقه، وأحسن إلي غفر الله له، وسرق قطع اله يده وما أشبه ذلك، فاللفظ في ذلك كله لفظ الماضي، ومعناه الدعاء، وهذا كثير في كلامهم؛ وسيأتي تفصيل عرض مذاهب النحويين في ذلك عند قوله تعالى: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة}.
[9175]:ينظر: المحرر الوجيز 2/90، والبحر المحيط 3/330، والدر المصون 2/411، وإتحاف 1/518.
[9176]:ينظر: البحر المحيط 3/330، والدر المصون 2/412.
[9177]:ينظر: الإملاء 1/190.
[9178]:تقدم.
[9179]:ينظر: تفسير الرازي 10/178.
[9180]:سقط في ب.
[9181]:ينظر: تفسير الرازي 10/178.
[9182]:في ب: المغني.
[9183]:سقط في ب.
[9184]:في ب: الكافرين على المؤمنين.
[9185]:سقط في أ.
[9186]:سقط في ب.
[9187]:ينظر: المحرر الوجيز 2/90، والبحر المحيط 3/331، والدر المصون 2/412.
[9188]:ينظر: المصادر السابقة.
[9189]:ينظر: المصادر السابقة.
[9190]:ينظر: تفسير الرازي 10/179.