قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ } : في هذه الاستثناء قولان :
أظهرهما : أنه استثناء مُتَّصِلٌ ، والمستثنى منه قوله : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } في الأخذ والقتل لا في المُوالاة ؛ لأن موالاة الكُفَّار والمنافقين لا يجوز بحال .
والمُسْتَثْنَوْنَ على هذا قَوْمٌ كُفارٌ ، ومَعْنَى الوَصْلَةِ هنا الوَصْلَةُ بالمُعَاهَدَةِ والمُهَادَنَةِ . وقال أبُو عبيد : " هو اتِّصَالُ النَّسَب " ، وغلَّطه النَّحَّاس بأن النَّسَب كان ثابتاً بين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحابة ، وبين المُشْرِكين ، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم .
وقال ابن عبَّاس : يريد : ويلْجَئُون إلى قوم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : عهد ، وهم الأسْلَميُّون ، وذلك أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وادَعَ هِلال بن عُوَيْمر{[9167]} الأسْلَمِيّ عند خُرُوجه إلى مَكَّة ، على ألاَّ يُعينَهُ ولا يُعين عليْه ، ومن وَصَل إلى هِلالٍ من قَوْمهِ وغيرهم ولجأ إليه ، فلهم من الجواز مثل ما لِهِلالٍ .
وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ : أراد بالقَوْم الَّذين بالقَوْم الَّذِين بَيْنكم وبَينهم ميثَاقٌ : بني بَكْرٍ بن زَيْد بن مَنَاة ، وكانوا في الصُّلْح والهُدْنة ، وقال مُقَاتِل : هم خُزَاعَة .
والقَوْل الثاني : أنه منقطعٌ - وهو قول أبِي مُسْلم الأصْفَهَانِيِّ ، واختيار الرَّاغب - .
قال أبو مُسْلم : " لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهِجْرَةَ على كُلِّ مَنْ أسلم ، استثنى مَنْ له عُذْرٌ فقال : { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ } وهم قوم قَصَدُوا الهِجْرَة إلى الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - ونصرته ، وكان [ بينهم وبَيْنَه في الطَّريق كُفَّار يخافونهم ، فَعَهِدُوا إلى كُفَّارٍ كان ] بينهم وبين المُسْلمين عَهْدٌ ، فأقاموا عَنْدَهُم إلى أنْ يُمْكِنهُمُ الخلاصُ ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صَار إلى الرَّسُول وأصْحَابه ؛ لأنه يخافُ اللَّهَ فيه ، ولا يقاتِلُ الكُفَّار أيضاً لأنهم أقاربُه ؛ أو لأنه يَخَافُ على أولاده الذين هُمْ في أيديهم " ، فعلى هذا القَوْلِ يكون استثناءً مُنْقَطعاً ؛ لأن هؤلاء المُسْتَثنين لم يَدْخُلوا تحت قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } والمُسْتَثنوْن على هَذَا مُؤمِنُون .
قوله : { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } يجوز أن يكونَ جملةً من مُبْتَدَأ وخَبر في مَحَلِّ جرِّ صفة ل " قوم " ، ويجوز أن يكُونَ " بينكم " وحْدَه صفةً ل " قوم " ، فيكون في محلِّ جَرٍّ ويتعلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ، و " ميثاق " على هذا رفعٌ بالفَاعِليَّة ؛ لأنَّ الظَّرف اعتمد على مَوْصُوفٍ ، وهذا الوَجْهُ أقربُ ؛ لأنَّ الوَصْفَ بالمُفْرَدِ أصْلٌ للوصف بالجُمْلَة .
قوله : " أو جاءوكم " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على الصِّلَة ؛ كأنه قيل : أو إلا الذين جَاءُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهُم ، فيكون التقدير : " إلا الذين يصلون بالمعاهدين ، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم " فيكون المُسْتَثْنَى صِنْفَيْن من النَّاس : أحدهما : واصلٌ إلى قومٍ مُعاهدين ، والآخر مَنْ جَاءَ غَيْرَ مقاتِلٍ للمسلمين ولا لِقَوْمه .
والثاني : أنه عَطْفٌ على صِفَةِ " قوم " وهي قوله : { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } ، فيكون المُسْتَثْنَى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يَصِلُ إليه من مُعَاهدٍ وكافرٍ ، واختار الأول الزَّمَخْشَري وابنُ عَطِيَّة .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : " الوجهُ العطفُ على الصِّلةِ ؛ لقوله : { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } بعد قوله : { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } فقرَّر أنَّ كفَّهُم عن القِتَال أحدُ سَبَبَي اسْتِحقَاقِهم لنفي التعرُّض لهُم ، وتَرْكِ الإيقاع بهم ، فإن قُلْت : كلُّ واحد من الاتِّصالين له تأثيرٌ في صحة الاستِثْنَاء ، واستحقاقِ تَرْكِ التَّعرضِ للاتصال بالمُعَاهدين والاتصال بالْكَافِّين ، فهلا جَوَّزْت أن يَكُونَ العَطْفُ على صفةِ " قوم " ، ويكون قوله : " فإن اعتزلوكم " تقريراً لحكم اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطهم بهم ، وجَرْيهم على سُنَنِهم ؟ قلت : هو جَائِزٌ ، ولكن الأوَّلَ أظهرُ وأجْرى على أسلوب الكلام " . انتهى .
أحدهما : من جِهَة الصِّنَاعة ، والثاني : من جهة المَعْنَى .
أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ عطفَه على الصِّلة لكون النِّسْبَة فيه إسْنَادِيةً ، وذلك أن المُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عنه مَحْكُومٌ له ، بخلاف حُكْم المُسْتَثْنَى منه ، فإذا قدَّرْتَ العَطْفَ على الصَِّلَة ، كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه ، بِخِلاَف ما إذا عَطَفْتَه على الصِّفَة ، فإنه يكونُ تَقْيِيداً في " قوم " الذين هم قيدٌ في الصِّلَةِ المُحَدَّثِ عن صَاحِبها ، ومتى دار الأمْر بين أن تكُون النِّسْبَة إسْنَاديّةً وبين أن تكون تقييدية ، كان جَعْلها إسناديةً أوْلى لاسْتِقلالها .
والثاني من جهة المَعْنَى : وذلك أنَّ العَطْفَ على الصِّلَةَ يؤدِّي أن سَبَبَ تَرْكِ التَّعرُّض لهم تَرْكُهُم القتالَ ونَهْيُهُم عنه ، وهذا سَبَبٌ قريب ، والعَطْفُ على الصِّفَة يؤدي إلى أنَّ سَبَبَ تركِ التعرُّضِ لهم ، وصُولُهم إلى قَوْم كافِّين عن القِتَال ، وهذا سببٌ بعيدٌ ، وإذا دَارَ الأمرُ بين سَبَبٍ قريب وآخر بعيدٍ ، فاعْتِبَارُ القرِيبِ أوْلَى .
والجمهورُ على إثبات " أو " ، وفي مُصْحَفِ أبَيٍّ{[9168]} : " جاءوكم " من غير " أوْ " ، وخَرَّجها الزَّمَخْشَرِيُّ على أحَدِ أرْبَعة أوْجُه : إمَّا البيان ل " يصلون " ، أو البَدَلِ منه ، أو الصِّفة لقَوْم بعد صِفَة ، أو الاستئنَافِ .
قال أبو حيان{[9169]} : " وهي وجوهٌ مُحْتَمَلَةٌ وفي بعضها ضعفٌ ، وهو البيانُ والبدلُ ؛ لأن البيانَ لا يَكُون في الأفْعَالِ ؛ ولأن البدل لا يتأتَّى لكونه ليس إيَّاه ، ولا بعضه ، ولا مُشْتَمِلاً عليه " . انتهى ، ويحتاج الجَوَابُ عنه [ إلى ] تأمُّلٍ ونظرٍ .
قوله : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فيه سبعة أوجُه :
أحدها : أنه لا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة ، بل جِيءَ بها للدُّعاء عليهم بضيق صُدُورهم عن القَتَالِ ، وهذا مَنْقُولٌ عن المُبَرِّد ، إلاَّ أنَّ الفَارسِيَّ رَدَّ عيله بأنا مَأمُورُون بأنْ نَدْعُوَ على الكُفَّارِ بإلقاءِ العَدَاوَة بينهم ، فَنَقُولُ : " اللَّهُم أوْقِعِ العَدَاوَةَ بين الكُفَّار " لكن يكُونُ قوله : { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } نفياً لما اقْتَضَاهُ دعاءُ المُسْلِمين عليهم .
وقد أجَابَ عن هذا الردِّ بعضُ النَّاس ؛ فقال بن عَطِيَّة : " يُخَرَّجُ قولُ المُبَرِّد على أن الدُّعَاء عليهم بألاَّ يقاتلوا المُسْلِمِين تعجيزٌ لَهُم ، والدعاءُ عَلَيْهم بألاَّ يقاتلوا قومهم تَحْقيرٌ لَهُمْ ، أي : هُمْ أقلُّ وأحْقَرُ ومُسْتَغْنى عَنْهُم ، كما تقول إذا أردت هذا المَعْنَى : " لا جعل الله فُلاناً عليَّ ولا مَعِي " بمعنى : أسْتَغْنِي عنه وأستَقِلُّ دونَه " .
وأجاب غيرُه بأنَّه يجُوزَ أن يكونَ سُؤالاً لقومهم ، على أنَّ قوله : " قومهم " قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ لَيْسُوا منهم ، [ بل عن مُعاديهم " .
الثاني : أنَّ " حصرت " حالٌ من فاعل " جاءوكم " وإذا وَقَعت الحَالُ فعلاً مَاضِياً ففيها ] خلافٌ : هل يَحْتاج إلى اقْتِرانه ب " قَدْ " أم لا ؟ والراجِحُ عدمُ الاحْتِياج ؛ لكثرة ما جاء منه ، فَعَلى هذا لا تُضْمَرُ " قد " قَبْلَ " حصرت " ، ومَنِ اشْتَرَط ذلك ، قَدَّرها هنا .
والثالث : أنَّ " حصرت " صفةٌ لحَالٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : أو جاءُوكم قوماً حَصِرَتْ صُدُورُهُم رجالاً حصرت صُدُورهم ، فنصب لأنَّه صفة مَوْصُوف مَنْصُوب على الحال ، إلاَّ أنه حذف المَوْصُوف المنْتَصب على الحَالِ ، وأقيمت صِفته مَقَامَه وسَمَّاها أبو البقاء{[9170]} حالاً مُوَطِّئَة ، وهَذَا الوجُه يُعْزَى للمُبرِّد أيضاً .
الرابع : أن يَكُون في مَحَلِّ جَرِّ صفةً لِقَوْم بعد صِفَة ، و " أو جاءوكم " مُعْتَرِضٌ .
قال أبُو البَقَاءِ : يَدُلُّ عليه قِرَاءةُ مَنْ أسْقَط " أو " وهو أبَيٌّ ، كذا نَقَلَهُ عنه أبو حيَّان والذي في إعْرَابِه إسقاطُ " أو جاءُوكم " جميعه ، وهذا نَصُّه{[9171]} قال : " أحَدُهُما : هو جَرٌّ صِفَةً لقومِ ، وما بَيْنَهُمَا صفة أيضاً ، و " جاءوكم " معترضٌ ، وقد قرأ بَعْضُ الصَّحابَة : " بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم " ، بحذف " أو جاءوكم " هذا نَصُّه ، وهو أوفق لهذا الوَجْهِ .
الخامس : أن يكون بدلاً من " جاءوكم " بدلَ اشْتِمَال ؛ لأن المَجِيء مشتمِلٌ على الحَصْر وغيره ، نَقَلَه أبو حيان عن أبي البقاء أيضاً .
السادس : أنه حبرٌ بعد خَبَر ، وهذه عِبَارة الزَّجَّاج{[9172]} ، يعني : أنها جملة مُسْتَأنفَة ، أخْبر بها عن ضِيق صُدُورِ هَؤلاَء عن القِتَال بعد الإخْبَار عَنْهُم بما تَقَدَّم .
قال ابن عطية بعد حِكَاية قولِ الزَّجَّاج : " يُفَرَّق بين الحَالِ وبين خَبَرٍ مستأنفٍ في قولك : " جاء زَيْد رَكِبَ الفَرَسَ " أنك إذا أرَدْتَ الحَالَ بقولك : " ركب الفَرَس " قدَّرْتَ " قد " ، وإن أرَدْت خَبَراً بعد خَبَر ، لم تَحْتَجْ إلى تقدِيرها " .
السَّابع : أنه جَوَاب شَرْطِ مُقَدَّر ، تقديره : إن جاءُوكُم حصرت [ صدورهم ] ، وهو رأي الجُرجَانِيِّ ، وفيه ضَعْفٌ ؛ لعدم الدَّلاَلة على ذَلِك .
وقرأ الجُمْهُور : " حصرت " فعلاً ماضياً ، وقرأ الحَسَن ، وقتادة{[9173]} ، ويعقوب : " حصرة " نَصْباً على الحَالِ بوزن " نبقة " ، وهي تؤيِّد كونَ " حصرت " حالاً{[9174]} ، ونقلها المَهْدَوِي عن عَاصِمٍ في رواية حَفْص ، ورُوي عن الحَسَن{[9175]} أيضاً : " حصرات " و " حاصرات " .
وهاتان القراءتان تَحْتَمِلان أن تكُونَ " حصرات " و " حاصرات " نَصْباً على الحال ، أو جَرّاً على الصِّفَة ل " قوم " ؛ لأنَّ جَمْع المُؤنَّث السَّالمِ يستوي جَرُّه ونَصْبُه ، إلا أنَّ فيهما ضَعْفاً ؛ من حيث إنَّ الوَصْفَ الرَّافع لظاهرٍ الفَصيحُ فيه أن يُوَحد كالفِعْلِ ، أو يُجمَعَ جَمْعَ تَكْسِير ويَقِلُّ جمعُه تَصْحِيحاً ، تقول : مررت بِقومٍ ذاهب جَوَاريهم ، أو قيام جواريهم ، ويَقِلُّ : " قائِماتٍ جَوَاريهم " .
وقرئ{[9176]} : " حصرةٌ " بالرفع على أنه خَبَر مُقَدَّم ، و " صدورهم " مبتدأ ، والجُمْلَة حال أيضاً . وقال أبو البقاء{[9177]} : " وإن كان قد قُرِئ : " حصرة " بالرَّفْع ، فعلى أنَّه خَبَر ، و " صدورهم " ، مُبْتَدأ ، والجُمْلَةٌُ حال " .
قوله : " أن يقاتلوكم " أصلُه : عن أنْ : فلمَّا حُذِف حَرْف الجَرِّ ، جرى الخِلاف المَشْهُور ، أهي في مَحَلِّ جَرٍّ أو نَصْب ؟ والحَصْرُ : الضِّيق ، وأصلُه في المكان ، ثم تُوُسِّع فيه [ فأطْلِق على حَصْر القَوْل : وهو الضيق في الكلام على المُتَكلِّم والحصر : المكتوم ] قال : [ الكامل ]
وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا *** حَصِراً بِسِرَِّكِ يَا أمَيْمُ ضَنِينا{[9178]}
اخْتَلَفُوا في الَّذِين اسْتَثْنَاهُم اللَّه - تعالى - :
فقال الجُمْهُور{[9179]} [ هم ]{[9180]} من الكُفَّار والمَعْنَى : أنه - تعالى - أوجَبَ قتل الكَافِر ، إلاَّ إذا كان مُعَاهِداً أوْ تَارِكاً للقِتَال ، فإنَّه لا يَجُوز قَتْلَهم ، وعلى هذا التَّقْدِير فالقول بالنَّسْخ لازم ؛ لأنَّ الكافر وإن تَرَكَ القِتَال ؛ فإنه يَجُوز قَتْله .
وقال أبُو مُسْلم الأصْفَهَاني{[9181]} : هم قوم من المُؤمِنين ، وذكر ما تقدَّم عنه في كَوْن الاستِثْنَاءِ مُنْقَطِعاً .
قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } التَّسْليط في اللغة{[9182]} مأخوذ من السَّلاطة ؛ وهي الحدَّة ، والمقصود : أنَّ الله تعالى منَّ على المُسْلِمين بِكَفِّ بَأسِ المُعَاهِدِين .
قال [ بعض ]{[9183]} المفسِّرين : معنى الآية : أن القَوْم الَّذين جَاءوكُم بنو مُدْلج ، كانوا عَاهَدُوا ألاَّ يُقَاتِلُوا المُسْلِمين ، وعاهَدُوا قُرَيْشاً ألاَّ يقاتِلُوهم وحصرَت : ضاقَتَ صُدُورُهُم ، { أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } أي : عن قتالِكُم للعَهْد الذي بَيْنَكُم ، { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } يعني : مَنْ أمِنَ منهُم ، ويجُوز أن يكُون مَعْنَاه : أنَّهم لا يُقَاتِلُونَكُم مع قَوْمِهِم ، ولا يُقَاتِلُون قومهم مَعَكُم ، يعني : قُرَيشاً قد ضاقَتَ صُدُورُهم لِذَلِك .
وقال بَعْضُهم : " أو " الوَاوِ ؛ كأنه قال : إلى قَوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ ، جاءُوكُم حصرت صُدورُهم عن قَتَالِكُم والقِتَال مَعَكُم وهم - قَوْمُ هلالٍ - الأسْلميُّون وبنو بكر ، نهى الله - سُبْحانَهُ - عن قتل هؤلاء المُرتدِّين إذا اتَّصَلُوا بأهل عَهْدٍ للمُؤمِنين ؛ لأن من انْضَمَّ إلى قَوْمٍ ذَوي عَهْد فله حُكْمهم في حَقْن الدَّمِ .
المَعْنَى : أن ضيق صدورهم عن قِتَالِكُم ؛ إنَّما هو لأن الله - تعالى - قَذَفَ الرُّعْب في قُلُوبِهِم ، ولو أنه - تعالى - قَوَّى قُلُوبَهُم على قِتَال المُسْلِمِين ، لتَسَلَّطُوا عليهم ، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ من الله تَسْلِيط الكَافِر على المُؤمِن{[9184]} وتَقْويته [ عَلَيْه ]{[9185]} .
الأول : قال الجُبَّائِي : قد بينَّا أنَّ الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله - تعالى - قومٌ مؤمِنُون لا كَافِرُون ، وعلى هذا فَمَعْنَى الآيَة : ولو شَاءَ اللَّه لَسَلَّطهم عليكم بِتَقْوية [ قُلُوبِهِم ]{[9186]} ليدْفَعُوا عن أنْفُسِهِم ، إن أقدمتم على مُقَاتَلتِهِم على سَبيل الظُّلْمِ .
الثَّاني : قال الكَلْبِي : إنه - تعالى - أخبر أنَّه لو شاء لَفَعَل ، وهذا لا يُفِيدُ إلاَّ أنه - تعالى - قَادِرٌ على الظُّلْم ، وهذا مَذْهَبُنَا ، إلا أنَّا نقول : إنه - تعالى - لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ .
قوله : " فلقاتلوكم " اللام جَوَاب " لو " على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة ، تقديره : ولَوْ شَاءَ اللَّه لَسَلَّطَهُم عليكم ، ولو شَاءَ اللَّه لَقَاتَلَوكُم .
وقال ابن عطيّة : هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى ، لو لم تَكُن الأولى كنت تقول : " لقاتلوكم " . وهي تَسْمِيةٌ غريبة ، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي ، والجُمْهُور على : " فلقاتلوكم " من المُفاعَلة .
ومُجَاهِد{[9187]} ، وجماعة : " فلقتَّلوكم " ثُلاثياً ، والحَسَن والجَحْدَري{[9188]} : " فلقتَّلوكم " بالتَّشديد .
قوله : " فإن اعتزلوكم " أي : فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم ، وألْقَوا إليْكُم السَّلَم ، أي : الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي{[9189]} : " السَّلْمَ " بفتح السِّين وسُكُون اللام ، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً بالقَتْل والقِتَالِ .
[ قوله : { لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } " لكم " متعلِّق ب " جعل " ، و " سبيلاً " مَفْعُولُ " جعل " ، و " عليهم " حالٌ من " سبيلا " ؛ لأنه في الأصْل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، ويجُوز أن تكونَ " جعل " بمعنى " صير " ، فيكون " سبيلا " مَفْعُولاً أوّلَ ، و " عليهم " مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم ] .
قال بعضهم : هذه الآية منْسُوخة بآية السَّيْف ، وهي قوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ }
[ التوبة : 5 ] ، وقال آخَرُون : إنَّها غير مَنْسُوخة ، أمَّا الَّذِين حملوا الاسْتِثْنَاء على المُسْلِمِين ، فهو ظاهِرٌ على قولهم ، وأمَّا الذين حَمَلُوه على الكَافِرِين ؛ فقال الأصَمُّ{[9190]} : إذا حَمَلْنَا الآية على المُعَاهدين ، فَكَيْفَ يمكن أن يُقَال إنها مَنْسُوخَةٌ .