الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٌ أَوۡ جَآءُوكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُورُهُمۡ أَن يُقَٰتِلُوكُمۡ أَوۡ يُقَٰتِلُواْ قَوۡمَهُمۡۚ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقَٰتَلُوكُمۡۚ فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} (90)

قوله : ( اِلاَّ الذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ) الآية [ 90 ] .

المعنى اقتلوا من وجدتم من المنافقين الذين اختلفتم فيهم إن لم يهاجروا إلا أن يتصل قوم منهم بمن بينكم وبينهم( {[13109]} ) عهد فيدخلون( {[13110]} ) فيما دخلوا فيه ، ويرضون بما رضوا ، فلا يقتل من كانت هذه حاله منهم فإن لهم حكمهم .

قال السدي : المعنى إذا أظهروا كفرهم ، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إلا أن يكون أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فأجروا عليه مثلما تجرون على القوم واحكموا في الجميع بحكم واحد( {[13111]} ) .

ومعنى : ( يَصِلُونَ ) يتصلون .

وقال أبو عبيدة : معنى : ( يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ ) : ينتسبون إليهم( {[13112]} ) . وهو بعيد( {[13113]} ) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاتل من ينتسب إلى من بينهم وبينه عهد ، وليس النسب مما يمنع قتال الكفار لعهد بيننا وبين قرابتهم .

وروي عن ابن عباس أنها منسوخة( {[13114]} ) بقوله : ( فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ )( {[13115]} ) وقال قتادة : ( اِلاَّ الذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ [ مِّيثَاقٌ ] )( {[13116]} ) نسخ بعد ذلك ، فنبذ إلى كل ذي عهد عهده ، ثم أمرنا بالقتال في براءة .

وقال ابن زيد : نسخها الجهاد( {[13117]} ) .

قوله : ( اَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمُ ) الآية [ 90 ] .

المعنى : إلا الذين جاؤوكم قد ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ، فدخلوا فيكم( {[13118]} ) ، فلا تقتلوهم ، ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ) أي : لسلط عليكم هؤلاء الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم ميثاق ، والذين يجيئونكم قد ( حَصِرَتْ صُدُورُهُمُ ) أي : ضاقت عن قتالكم( {[13119]} ) ، وقتال قومهم ، فيقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين ، ولكن الله كفهم عنكم( {[13120]} ) .

وقوله : ( فَلَقَاتَلُوكُمْ ) ليست( {[13121]} ) اللام بجواب للقسم [ كاللام في ( لَسَلَّطَهُمْ ) ، وإنما دخلت للمجاءاة( {[13122]} ) لا للقسم ]( {[13123]} ) ، ومثله قوله : ( أَوْ لَيَاتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ )( {[13124]} ) . ليست اللام بجواب للقسم وإنما دخلت للمحاذاة( {[13125]} ) للامين اللتين قبلها ، اللتين هما جواب قسم سليمان في قوله ( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً اَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ )( {[13126]} ) ولهذا نظائر ستراها .

قوله : ( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ) أي : اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم( {[13127]} ) فلم يقاتلوكم ( وَأَلْقَوِا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) . أي : صالحوكم ، وقيل المعنى : استسلموا( {[13128]} ) إليكم( {[13129]} ) .

( فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) أي : ليس لكم إليهم طريق فتستحلونهم بما في أنفسهم وأموالهم وذراريهم( {[13130]} ) ، وهذا كله منسوخ بقوله : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الاَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مرْصَدٍ )( {[13131]} ) .

وقال الحسن وعكرمة : قوله : ( اِلاَّ الذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ ) إلى قوله ( سُلْطَاناً مُّبِيناً )( {[13132]} ) وقوله : ( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) إلى ( يُحِبُّ المُقْسِطِينَ )( {[13133]} ) قالا : بنسخ ذلك في براءة ، فجعل لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر( {[13134]} ) .

قال قتادة : ( اِلاَّ الذِينَ يَصِلُونَ ) إلى ( مُّبِيناً ) منسوخ ببراءة( {[13135]} ) ، وقال ابن زيد : نسخ هذا كله ، نسخه الجهاد( {[13136]} ) وضرب لهم أجل( {[13137]} ) أربعة أشهر إما أن يسلموا وإما أن يكون الجهاد .

واختلف في ( حَصِرَتْ صُدُورُهُمُ )( {[13138]} ) ، فقال المبرد المعنى : الدعاء( {[13139]} ) ، لأنه قال : ( اَوْ جَاءُوكُمْ ) أحصر الله صدوركم أي : ضيقها عن قتالكم ، وقتال قومهم . وقال الزجاج : يجوز أن يكون خبراً بعد خبر( {[13140]} ) ، فالمعنى أو جاءكم ثم خبر بعد فقال : ( حَصِرَتْ صُدُورُهُمُ ) ، وأكثر النحويين على أنه حال ، وقد مضمرة والتقدير : أو جاؤوكم قد حصرت أي : ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم . أي : جاؤوكم في هذه الحال فلا تقاتلوهم .

وقال الطبري : المعنى : أو جاؤوكم قد حصرت( {[13141]} ) .

وقرأ الحسن حصرةً بالتنوين والنصب على الحال( {[13142]} ) أي : ضيقت صدورهم ، واستحسن هذا المبرد( {[13143]} ) ، ويجوز على قراءة الحسن الخفض على النعت ، والرفع على الابتداء .

وقرأ أبي بن كعب : ( بِيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ )( {[13144]} ) ، وحصرت صدورهم بإسقاط أو ( جَاءُوكُمْ )( {[13145]} ) ، ولا يقرأ به الآن .


[13109]:- (أ): وبينهم ميثاق عهد، وفي الهامش التصحيح.
[13110]:- (أ): فيتدخلون.
[13111]:- انظر: المصدر السابق.
[13112]:- انظر: مجاز القرآن 1/136، وجامع البيان 5/198.
[13113]:- ما استبعده مكي هنا أقره واعتمده كتفسير وجيه في كتابه الإيضاح 195.
[13114]:- انظر: الناسخ لابن حزم والإيضاح في الناسخ 194 ونواسخ القرآن 133.
[13115]:- التوبة آية 5.
[13116]:- ساقط من (د).
[13117]:- انظر: جامع البيان 5/200-201.
[13118]:- (ج): فدخلوا فيهم.
[13119]:- (د): عن قتالهم.
[13120]:- (أ): عليكم.
[13121]:- (أ): فليست.
[13122]:- (ج): المجرات.
[13123]:- ساقط من (أ).
[13124]:- النمل آية 10.
[13125]:- (أ) (ج): المحابات وفي (د): للمجازات والكل خطأ، صوابه للمحاذاة كما ذكر في المحرر 4/203، وعلق أبو حيان على هذه التسمية بقوله: "وتسمية هذه اللام بلام المحاذاة، وللازدواج – تسمية غريبة لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل –يقصد ابن عطية- وعبارة مكي قبله: انظر: البحر 3/118 [والمقصود بها المجاورة] [المدقق].
[13126]:- النمل آية 21.
[13127]:- (د): عن قتالكم.
[13128]:- (د): ستسلم.
[13129]:- انظر: جامع البيان 5/199.
[13130]:- (ج): وديارهم.
[13131]:- التوبة آية 5.
[13132]:- النساء آية 90.
[13133]:- الممتحنة آية 8.
[13134]:- انظر: جامع البيان 5/200.
[13135]:- تقدم هذا فلا وجه لإعادته.
[13136]:- انظر: جامع البيان 5/200.
[13137]:- (أ) (ج): أجلاً.
[13138]:- اختلف النحاة في "حصرت صدورهم" على أربعة أقوال: ذكر مكي منها قولين، والثالث: أن تكون صفة لقوم أو مجرورين في أول الآية –إلا الذين يصلون إلى قوم- والرابع: أن تكون صفة لقوم مقدر ويكون التقدير: أو جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم، وسبب الخلاف في هذه المسألة هو هل يقع الفعل الماضي حالاً؟ ذهب الكوفيون إلى جواز ذلك وقال البصريون: إنه لا يجوز إلا إذا كانت معه قد، أو كان وصفاً لمحذوف. انظر: إعراب النحاس 1/443، والإنصاف 1/252.
[13139]:- انظر: المقتضب 4/121-124.
[13140]:- معاني الزجاج 2/89.
[13141]:- انظر: جامع البيان 5/198.
[13142]:- هي قراءة شاذة تنسب إلى الحسن ويعقوب. انظر: مختصر الشواذ: 25، ومشكل الإعراب 1/205، وزاد أبو حيان قتادة، انظر: البحر 3/317.
[13143]:- إن المبرد لم يستحسن هذه القراءة ولكنه عدها قراءة صحيحة وهذه جرأة منه. انظر: المقتضب 4/125.
[13144]:- انظر: إعراب النحاس 443.
[13145]:- ساقط من (ج).