{ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم } هذا استثناء من قوله : فخذوهم واقتلوهم ، والوصول هنا : البلوغ إلى قوم .
وقيل : معناه ينتسبون قاله أبو عبيدة .
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل *** وبكر سبتها والأنوف رواغم
وقال النحاس : هذا غلط عظيم ، لأنه ذهب إلى أنه تعالى حظر أن يقاتلَ أحدُ بينه وبين المسلمين نسب والمشركون قد كان بينهم وبين المسلمين السابقين أنساب .
يعني : وقد قاتل الرسول ومن معه من انتسب إليهم بالنسب الحقيقي ، فضلاً عن الانتساب .
قال النحاس : وأشد من هذا الجهل قول من قال : إنه كان ثم نسخ ، لأن أهل التأويل مجمعون على أنّ الناسخ له براءة ، وإنما نزلت بعد الفتح ، وبعد أن انقطعت الحروب ، ووافقه على ذلك الطبري .
وقال القرطبي : حمل بعض أهل العلم معنى ينتسبون على الأمان ، أو أن ينتسب إلى أهل الأمان ، لا على معنى النسب الذي هو القرابة انتهى .
قال عكرمة : إلى قوم هم قوم هلال بن عويمر الأسلمي ، وادع الرسول على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن لجأ إليهم فله مثل ما لهلال .
وروي عن ابن عباس : أنهم بنو بكر بن زيد مناة .
والجمهور على أنّهم خزاعة وذو خزاعة .
وقال مقاتل : خزاعة وبنو مدلج .
وقال ابن عطية : كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل كرهط هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بني جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، فقضت هذه الآية أنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد ، ودخل في عدادهم ، وفعل فعلهم من الموادعة ، وفعل فعلهم من الموادعة ، فلا سبيل عليه .
قال عكرمة والسدي وابن زيد : ثمّ لما تقوى الإسلام وكثر ناصره نسخت هذه الآية والتي بعدها بما في سورة براءة انتهى .
وقيل : هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناف .
والذين حصرت صدورهم هم ، بنو مدلج ، اتصلوا بقريش .
وبه وعن ابن عباس : إنهم قوم من الكفار اعتزلوا المسلمين يوم فتح مكة ، فلم يكونوا مع الكافرين ، ولا مع المسلمين ، ثم نسخ ذلك بآية القتال .
وأصل الاستثناء أن يكون متصلاً ، وظاهر الآية وهذه الأقوال التي تقدّمت : أنه استثناء متصل .
والمعنى : إلا الكفار الذين يصلون إلى قوم معاندين ، أو يصلون إلى قوم جاؤوكم غير مقاتلين ولا مقاتلي قومهم .
إن كان جاؤوكم عطفاً على موضع صفة قوم ، وكلا العطفين جوز الزمخشري وابن عطية ، إلا أنهما اختارا العطف على الصلة .
قال ابن عطية بعد أن ذكر العطف على الصلة قال : ويحتمل أن يكون على قوله : بينكم وبينهم ميثاق ، والمعنى في العطفين مختلف انتهى .
واختلافه أنّ المستثنى إمّا أن يكونا صنفين واصلاً إلى معاهد ، وجائياً كافاً عن القتال .
أو صنفاً واحداً يختلف باختلاف من وصل إليه من معاهد أو كاف .
قال ابن عطية : وهذا أيضاً حكم ، كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام ، فكان المشرك إذا جاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه ، لا سبيل عليه .
وهذه نسخت أيضاً بما في براءة انتهى .
وقال الزمخشري : الوجه العطف على الصلة لقوله : { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } الآية بعد قوله : فخذوهم واقتلوهم ، فقرر أنّ كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم ، وترك الإيقاع بهم .
( فإن قلت ) : كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء ، واستحقاق ترك التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين ، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قومٍ ، ويكونَ قوله : فإن اعتزلوكم تقريراً لحكم اتصالهم بالكافين ، واختلاطهم فيهم ، وجريهم على سننهم ؟ ( قلت ) : هو جائز ، ولكنَّ الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام انتهى .
وإنما كان أظهروا وأجرى على أسلوب الكلام لأنّ المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثنى منه .
وإذا عطفت على الصلة كان محدثاً عنه ، وإذا عطفت على الصفة لم يكن محدثاً عنه ، إنما يكون ذلك تقييداً في قوم الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها ، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى ، وبين أن تكون تقييدية ، كان حملُها على الإسنادية أولى للاستثقال الحاصل بها ، دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية .
وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين من المعنى ، فإنه يكون تركهم القتال سبباً لترك التعرّض لهم ، وهو سبب قريب ، وذلك على العطف على الصلة ، ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم ، وهو سبب بعيد ، وذلك على العطف على الصفة .
ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة البعيد .
وعلى أن الاستثناء متصل من مفعول : فخذوهم واقتلوهم ، والمعنى : أنه تعالى أوجب قتل الكافر إلا إذا كان معاهداً أو داخلاً في حكم المعاهد ، أو تاركاً للقتال ، فإنه لا يجوز قتلهم .
وقول الجمهور : إن المستثنين كفار .
وقال أبو مسلم : إنه تعالى لما أوجبَ الهجرة على كل من أسلم ، استثنى مَن له عذر فقال : { إِلا الذين يصلون } وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول بالهجرة والنصرة ، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقاً إليه خوفاً من أولئك الكفار ، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد ، وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص ، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول وإلى الصحابة ، لأنه يخاف الله فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضاً لأنهم أقاربه ، أو لأنه بقي أزواجه وأولاده بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه .
فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم ، وإن كان لم توجد منهم الهجرة ، ولا مقاتلة الكفار انتهى .
وعلى قول أبي مسلم : يكون استثناء منقطعاً ، لأن المؤمنين لم يدخلوا تحت قوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } .
وقال الماتريدي : إلا الذين يصلون أي : إن لحق المنافقون بمن لا ميثاق بينكم وبينهم فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا ، وإن لحقوا بأهل الميثاق فلا تقاتلوهم ، أو جاؤوكم حصرت صدورهم هذا صفة لمن سبق ذكرهم ، فيكون الاستثناء عن الذين يصلون إلى أهل العهد ، إذا كان وصفهم أنْ تضيق صدورهم عن مقاتلة المؤمنين والكفار جميعاً ، إما لنفار طباعهم ، وإما لوفاء العهد ، وإما لكونهم في مهلة النظر ليتبينوا الحق من الباطل ، وعلى هذا وصف الله جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد : أنهم إنما قبلوا العهد والذمة لما تعذر عليهم قتال المسلمين وأبت نفوسهم معاونة المسلمين على قومهم ، فلم يسلموا حقيقة ، ولكن سالموا لقبول العهد انتهى .
وقال القفال بعد ذكر من دخل في عهد مَن كان داخلاً في عهدكم ، فهو أيضاً داخل في العهد ، قال : وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرت الرسول عليه السلام ، فيتعذر عليهم ذلك المطلوب ، فيلجوا إلى قوم بينهم وبين الرسول عهد ، إلى أن يجدوا السبيل إليه انتهى .
وفي مصحف أُبي وقراءته : ميثاق جاؤوكم بغير واو .
قال الزمخشري : ووجهه أن يكون جاؤوكم بياناً ليصلون ، أو بدلاً ، أو استئنافاً ، أو صفة بعد صفة لقوم انتهى .
وهي وجوه محتملة ، وفي بعضها ضعف .
وهو البيان والبدل ، لأن البيان لا يكون في الأفعال ، ولأن البدل لا يتأتى لكونه ليس إياه ، ولا بعضاً ، ولا مشتملاً .
ومعنى حصرت : ضاقت ، وأصل الحصر في المكان ، ثم توسع فيه حتى صار في القول .
ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا *** حصراً بسرك يا أميم ضنينا
والمعنى : كرهوا قتالكم مع قومهم معكم .
وقيل : معناه أنهم لا يقاتلونكم ولا يقاتلون قومهم معكم ، فيكونون لا عليكم ولا لكم .
وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب : حصرة على وزن نبقة ، وكذا قال المهدوي عن عاصم في رواية حفص .
وحكى عن الحسن أنه قرأ : حصرات .
وقرئ : حصرة بالرفع على أنه خبر مقدم ، أي : صدورهم حصرة ، وهي جملة اسمية في موضع الحال .
فأما قراءة الجمهور فجمهور النحويين على أنَّ الفعل في موضع الحال .
فمَن شرط دخول قد على الماضي إذا وقع حالاً زعم أنها مقدرة ، ومن لم ير ذلك لم يحتج إلى تقديرها ، فقد جاء منه ما لا يحصى كثرة بغير قد .
ويؤيد كونه في موضع الحال قراءة من قرأ ذلك اسماً منصوباً ، وعن المبرد قولان : أحدهما : أنّ ثم محذوفاً هو الحال ، وهذا الفعل صفته أي : أو جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم .
والآخر : أنه دعاء عليهم ، فلا موضع له من الإعراب .
ورد الفارسي على المبرد في أنه دعاء عليهم بأنا أمرنا أن نقول : اللهم أوقع بين الكفار العداوة ، فيكون في قوله : أو يقاتلوا قومهم ، نفي ما اقتضاه دعاء المسلمين عليهم .
قال ابن عطية : ويخرج قول المبرد على أنّ الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم ، أي : هم أقل وأحقر ، ويستغني عنهم كما تقول إذا أردت هذا المعنى : لا جعل الله فلاناً علي ولا معي ، بمعنى : استغنى عنه ، واستقل دونه .
وقال غير ابن عطية : أو تكون سؤالاً لموتهم ، على أنّ قوله : قومهم ، قد يعبر به عن من ليسوا منهم ، بل عن معاديهم .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حصرت في موضع جر صفة لقوم ، وأو جاؤوكم معترض .
قال : يدل عليه قراءة من أسقط أو ، وهو أبي .
وأجاز أيضاً أن يكون حصرت بدلاً من جاؤوكم ، قال : بدل اشتمال ، لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره .
وقال الزجاج : حصرت صدورهم خبر بعد خبر .
قال ابن عطية : يفرق بين تقدير الحال ، وبين خبر مستأنف في قولك : جاء زيد ركب الفرس ، إنك إن أردت الحال بقولك : ركب الفرس ، قدرت قد .
وإن أردت خبراً بعد خبر لم نحتج إلى تقديرها .
وقال الجرجاني : تقديره إن جاؤوكم حصرت ، فحذف إنْ ، وما ادعاه من الإضمار لا يوافق عليه ، أن يقاتلوكم تقديره : عن أن يقاتلوكم .
{ ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } هذا تقرير للمؤمنين على مقدار نعمته تعالى عليهم .
أي : لو شاء لقواهم وجرأهم عليكم ، فإذا قد أنعم عليكم بالهدنة فاقبلوها .
وهذا إذا كان المستثنون كفاراً ، فأما على قول من قال : إنهم مؤمنون ، فالمعنى أنه تعالى أظهر نعمته على المسلمين ، وأنه تعالى لو لم يهدهم لكانوا في جملة المسلطين عليكم .
قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين ما كان مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم ؟ ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه ، فكانوا مسلطين مقاتلين غير كافين ، فذلك معنى التسليط انتهى .
وهذا الذي قاله الزمخشري قاله أبو هاشم قبله .
قال : أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء أن يفعل ، وتسليط الله المشركين على المؤمنين ليس بأمر منه ، وإنما هو بإزالة خوف المسلمين من قلوبهم ، وتقوية أسباب الجرأة عليهم .
والغرض بتسليطهم عليهم لأمور ثلاثة : أحدها : تأديباً لهم وعقوبة لما اجترحوا من الذنوب .
الثاني : ابتلاء لصبرهم واختباراً لقوة إيمانهم وإخلاصهم كما قال : { ولنبلونكم } الآية .
الثالث : لرفع درجاتهم وتكثير حسناتهم .
أو المجموع وهو أقرب للصواب انتهى .
وأمّا غيرهما من المعتزلة فقال الجبائي : قد بينا أن القوم الذين استثنوا مؤمنون لا كافرون ، وعلى هذا معنى الآية .
ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتهم على مقاتلتهم على سبيل الظلم .
وقال الكعبي : إنه تعالى أخبر أنه لو شاء فعل ، وهذا لا يفيد ، إلا أنه قادر على الظلم ، وهذا مذهبنا إلا أنا نقول : إنه تعالى لا يفعل الظلم ، وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده ، انتهى كلامه .
وقال أهل السنة : في هذه الآية دليل على أنه تعالى لا يقبح منه تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه .
وقرأ الجمهور : فيقاتلوكم بألف المفاعلة .
وقرأ مجاهد وطائفة : فلقتلوكم على وزن ضربوكم .
وقرأ الحسن والجحدري : فلقتلوكم بالتشديد ، واللام في لقاتلوكم لام جواب لو ، لأن المعطوف على الجواب جواب ، كما لو قلت : لو قام زيد لقام عمرو ولقام بكر .
وقال ابن عطية : واللام في لسلطهم جواب لو ، وفي فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج ، لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول : لقاتلوكم انتهى .
وتسميته هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة ، لم أر ذلك إلا في عبارة هذا الرجل ، وعبارة مكي قبله .
{ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } إذا كان المستثنون كفاراً فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول : إذا اعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم .
وقيل : أراد بالاعتزال هنا المهادنة ، وسميت اعتزالاً لأنها سبب الاعتزال عن القتال .
والسلم هنا الانقياد قاله : الحسن ، أو الصلح قاله : الربيع ومقاتل ، أو الإسلام قاله : الحسن أيضاً .
وأما على من قال : إن المستثنين مؤمنون ، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم وأظهروا الإسلام فاتركوهم ، فعلى هذا تكون في « الذين أسلموا ولم يستحكم إيمانهم » والمعنى : سبيلاً إلى قتلهم ومقاتلتهم .
وقرأ الجحدري : السلم بسكون اللام .