قوله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } ، ظهره .
قوله تعالى : { إلا متحرفاً لقتال } ، أي : منعطفاً يرى من نفسه الانهزام ، وقصده طلب الغرة ، وهو يريد الكرة .
قوله تعالى : { أو متحيزاً إلى فئة } ، أي : منضماً ، صائراً ، إلى جماعة من المؤمنين ، يريد العود إلى القتال ، ومعنى الآية : النهي عن الانهزام من الكفار والتولي عنهم ، إلا على نية التحرف للقتال ، والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال ، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد .
كما قال تعالى : { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } ، اختلف العلماء في هذه الآية فقال أبو سعيد الخدري : هذا في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن لهم فئة يتحيزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض ، فيكون الفار متحيزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك . قال يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله النار لمن فر يوم بدر ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } [ آل عمران :155 ] ، ثم كان يوم حنين بعده فقال { ثم وليتم مدبرين } [ التوبة :25 ] { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } [ التوبة :27 ] . وقال عبد الله : كنا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة فانهزمنا ، فقلنا : يا رسول الله نحن الفرارون ، قال : بل أنتم الكرارون ، أنا فئة المسلمين . وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إليّ كنت له فئة فأنا فئة كل مسلم . وقال بعضهم : حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزماً . جاء في الحديث : ( من الكبائر الفرار من الزحف ) . وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل : { الآن خفف الله عنكم } [ الأنفال : 66 ] فليس لقوم أن يفروا من مثليهم ، فنسخت تلك إلا في هذه العدة ، وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا أو أن يولوا ظهورهم إلا متحرفا لقتال ، أو متحيزا إلى فئة ، وإن كانوا أقل من ذلك جاز لهم أن يولوا ظهورهم وينحازوا عنهم ، قال ابن عباس : من فر من ثلاثة فلم يفر ، ومن فر من اثنين فقد فر .
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ أي : رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ أي : مقره جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ .
وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة وكما نص هنا على وعيده بهذا الوعيد الشديد .
ومفهوم الآية : أن المتحرف للقتال ، وهو الذي ينحرف من جهة إلى أخرى ، ليكون أمكن له في القتال ، وأنكى لعدوه ، فإنه لا بأس بذلك ، لأنه لم يول دبره فارا ، وإنما ولى دبره ليستعلي على عدوه ، أو يأتيه من محل يصيب فيه غرته ، أو ليخدعه بذلك ، أو غير ذلك من مقاصد المحاربين ، وأن المتحيز إلى فئة تمنعه وتعينه على قتال الكفار ، فإن ذلك جائز ، فإن كانت الفئة في العسكر ، فالأمر في هذا واضح ، وإن كانت الفئة في غير محل المعركة كانهزام المسلمين بين يدي الكافرين والتجائهم إلى بلد من بلدان المسلمين أو إلى عسكر آخر من عسكر المسلمين ، فقد ورد من آثار الصحابة ما يدل على أن هذا جائز ، ولعل هذا يقيد بما إذا ظن المسلمون أن الانهزام أحمد عاقبة ، وأبقى عليهم .
أما إذا ظنوا غلبتهم للكفار في ثباتهم لقتالهم ، فيبعد - في هذه الحال -أن تكون من الأحوال المرخص فيها ، لأنه - على هذا - لا يتصور الفرار المنهي عنه ، وهذه الآية مطلقة ، وسيأتي في آخر السورة تقييدها بالعدد .
17 - 19 فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ .
قال الله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة ) روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر . قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لأنحازوا إلى المشركين ، ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم . . وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد ، لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ، ولم يأمرهم النبي عليه السلام بالخروج ، ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال ، وإنما ظنوا أنها العير ، فخرج رسول الله [ ص ] فيمن خف معه . فقول أبي نضرة إنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وإنهم لو انحازوا ، انحازوا إلى المشركين ، غلط لما وصفنا . . وقد قيل : إنه لم يكن جائزاً لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله [ ص ] ولم يكن الانحياز جائزاً لهم عنه ، قال الله تعالى : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) : فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم [ ص ] وينصرفوا عنه ويسلموه ، وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس ، كما قال الله تعالى : ( والله يعصمك من الناس )وكان ذلك فرضاً عليهم ، قلت أعداؤهم أو كثروا ، وأيضاً فإن النبي [ ص ] كان فئة المسلمين يومئذ ، ومن كان بمنحاز عن القتال فإنما كان يجوز له الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة ، وكان النبي [ ص ] فئتهم يومئذ ، ولم تكن فئة غيره . قال ابن عمر : كنت في جيش ، فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة ، فقلنا : نحن الفرارون . فقال النبي [ ص ] : " أنا فئتكم " . فمن كان بالبعد من النبي [ ص ] إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي [ ص ] وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه ، فلم يكن يجوز لهم الفرار . وقال الحسن في قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره )قال : شددت على أهل بدر . وقال الله تعالى : ( إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا )وذلك لأنهم فروا عن النبي [ ص ] وكذلك يوم حنين فروا عن النبي [ ص ] فعاقبهم الله على ذلك في قوله تعالى : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم . فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ) . . فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي [ ص ] قل العدو أو كثر ، إذا لم يجد الله فيه شيئاً . . وقال الله تعالى في آية أخرى : ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا )وهذا - والله أعلم - في الحال التي لم يكن النبي [ ص ] حاضرا معهم ، فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين لا يهربوا عنهم ، فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً ، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله )فروي عن ابن عباس أنه قال : كتب عليكم ألا يفر واحد من عشرة : ثم قلت : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) . . . الآية . فكتب عليكم ألا يفر مئة من مئتين . وقال ابن عباس : إن فر رجل من رجلين فقد فر ، وإن فر من ثلاثة فلم يفر - قال الشيخ يعني بقوله : فقد فر : الفرار من الزحف المراد بالآية ، والذي في الآية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار ، فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة ، فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله )ولذلك قال النبي [ ص ] : " أنا فئة كل مسلم " . وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم : " رحم الله أبا عبيد ! لو انحاز إليّ لكنت له فئة " . فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال : " أنا فئة لكم " ولم يعنفهم . . وهذا الحكم عندنا [ يعني عند الحنفية ] ثابت ، ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفاً لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال ، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم ، ونحو ذلك ، مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب ، أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم . فإذا بلغوا اثني عشر ألفاً فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم ، وإن كثر عددهم ، ولم يذكر خلافاً بين أصحابنا فيه [ يعني الحنفية ] واحتج بحديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله ، أن ابن عباس قال : قال رسول الله [ ص ] : " خير الأصحاب أربعة . وخير السرايا أربع مائة . وخير الجيوش أربعة آلاف . ولن يؤتى اثنا عشر ألفاً من قلة ولن يغلبوا " وفي بعضها : " ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم " . وذكر الطحاوي أن مالكاً سئل ، فقيل له : أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها ? فقال مالك : إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف ، وإلا فأنت في سعة من التخلف . . وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر . وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن . والذي روي عن النبي [ ص ] في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب ، وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله [ ص ] " إذا اجتمعت كلمتهم " . وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم " . . . انتهى .
كذلك أورد " ابن العربي في أحكام القرآن " تعقيبا على الخلاف في المقصود بهذا الحكم قال :
" اختلف الناس : هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر ، أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة ?
" فروى ابن سعيد الخدري أن ذلك يوم بدر ، لم يكن لهم فئة إلا رسول الله ، وبه قال نافع ، والحسن ، وقتادة ، ويزيد بن حبيب ، والضحاك .
" ويروى عن ابن عباس وسائر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة ؛ وإنما شذ من شذ بخصوص ذلك يوم بدر بقوله : ( ومن يولهم يومئذ دبره )فظن قوم أن ذلك إشارة إلى يوم بدر . وليس به . وإنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف .
" والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال ، وانقضاء الحرب ، وذهاب اليوم بما فيه . وقد ثبت عن النبي [ ص ] حسبما قدمناه في الحديث الصحيح أن الكبائر كذا . . . وعدّ الفرار يوم الزحف . وهذا نص في المسألة يرفع الخلاف ، ويبين الحكم ، وقد نبهنا على النكتة التي وقع الإشكال فيها لمن وقع باختصاصه بيوم بدر " . .
ونحن نأخذ بهذا الذي ذكره ابن العربي من رأي " ابن عباس وسائر العلماء " . . ذلك أن التولي يوم الزحف على إطلاقه يستحق هذا التشديد لضخامة آثاره الحركية من ناحية ؛ ولمساسه بأصل الاعتقاد من ناحية . .
إن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخا ثابتا لا تهزمه في الأرض قوة ، وهو موصول بقوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده . . وإذا جاز أن تنال هذا القلب هزة - وهو يواجه الخطر - فإن هذه الهزة لا يجوز أنتبلغ أن تكون هزيمة وفرارا . والآجال بيد الله ، فما يجوز أن يولي المؤمن خوفا على الحياة . وليس في هذا تكليف للنفس فوق طاقتها . فالمؤمن إنسان يواجه عدوه إنسانا . فهما من هذه الناحية يقفان على أرض واحدة . ثم يمتاز المؤمن بأنه موصول بالقوة الكبرى التي لا غالب لها . ثم إنه إلى الله إن كان حياً ، وإلى الله إن كتبت له الشهادة . فهو في كل حالة أقوى من خصمه الذي يواجهه وهو يشاق الله ورسوله . . ومن ثم هذا الحكم القاطع :
( ومن يولهم يومئذ دبره - إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ) .
ولا بد أن نقف هنا عند التعبير ذاته ؛ وما فيه من إيماءات عجيبة : ( فلا تولوهم الأدبار ) . . ( ومن يولهم يومئذ دبره ) . . فهو تعبير عن الهزيمة في صورتها الحسية ، مع التقبيح والتشنيع ، والتعريض بإعطاء الأدبار للأعداء ! . . ثم : ( فقد باء بغضب من الله ) . . فالمهزوم مولٍّ ومعه ( غضب من الله ) يذهب به إلى مأواه : ( ومأواه جهنم وبئس المصير )
وهكذا تشترك ظلال التعبير مع دلالته في رسم الجو العام ؛ وتثير في الوجدان شعور الاستقباح والاستنكار للتولي يوم الزحف والفرار .
يقول تعالى متوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أي : تقاربتم منهم ودنوتم إليهم ، { فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } أي : تفروا وتتركوا أصحابكم ، { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } أي : يفر بين يدي قرنه مكيدة ؛ ليريه أنه [ قد ]{[12746]} خاف منه فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله ، فلا بأس عليه في ذلك . نص عليه سعيد بن جبير ، والسدي .
وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها .
{ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } أي : فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين ، يعاونهم ويعاونوه{[12747]} فيجوز له ذلك ، حتى [ و ]{[12748]} لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة - وكنت فيمن حاص - فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ؟ ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : " من القوم ؟ " فقلنا : نحن الفرارون . فقال : " لا بل أنتم العَكَّارون ، أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين " قال : فأتيناه حتى قَبَّلنا يده .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق عن يزيد بن أبي زياد{[12749]} وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه .
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن أبي زياد به . وزاد في آخره : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ }
قال أهل العلم : معنى قوله : " العَكَّارون " أي : العطافون . وكذلك قال عمر بن الخطاب . رضي الله عنه ، في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر : لو انحاز إليّ كنت له فئة . هكذا رواه محمد بن سيرين ، عن عمر{[12750]}
وفي رواية أبي عثمان النهدي ، عن عمر قال : لما قتل أبو عبيد قال عمر : يا أيها الناس ، أنا فئتكم .
وقال مجاهد : قال عمر : أنا فئة كل مسلم .
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن عمر : أيها الناس ، لا تغرنكم هذه الآية ، فإنما كانت يوم بدر ، وأنا{[12751]} فئة لكل مسلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، حدثنا نافع : أنه سأل ابن عمر قلت : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة : إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال : إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلت إن الله يقول : { إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ }{[12752]} فقال : إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر ، لا قبلها ولا بعدها .
وقال الضحاك في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } المتحيز : الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه .
فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب ، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزحف ، وقَذْفِ المحصنات الغافلات المؤمنات " {[12753]}
ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر ؛ ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ بَاءَ } أي : رجع { بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي : مصيره ومنقلبه يوم ميعاده : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، حدثنا جبلة بن سُحَيْم ، عن أبي المثنى العبدي ، سمعت السدوسي - يعني ابن الخصاصية ، وهو بشير بن معبد - قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فاشترط علي : " شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حَجَّة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله " . فقلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدُّبُر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت . والصدقة ، فوالله ما لي إلا غُنَيْمَةٌ وعشر ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أهلي وحَمُولتهم . فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حرك يده ، ثم قال : " فلا جهاد ولا صدقة ، فيم تدخل الجنة إذا ؟ " فقلت : يا رسول الله ، أنا أبايعك . فبايعته عليهنَّ كلهنَّ .
هذا حديث{[12754]} غريب{[12755]} من هذا الوجه{[12756]} ولم يخرجوه في الكتب الستة .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف " . {[12757]}
وقال الطبراني أيضا : حدثنا العباس بن الفضل الأسْفَاطِيّ ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الشَّنِّي ، حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت بلال بن يسار بن زيد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : سمعت أبي حدث عن جدي قال : قال رسول الله : " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فر من الزحف " .
وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، به . وأخرجه الترمذي ، عن البخاري ، عن موسى بن إسماعيل به . وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه{[12758]}
قلت : ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عنه سواه .
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة ؛ لأنه - يعني الجهاد - كان فرض عين عليهم . وقيل : على الأنصار خاصة ؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره . وقيل : [ إنما ]{[12759]} المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة ، يروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم .
وحجتهم في هذا : أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم : فإن انحاز إلى فئة أو مصر - أحسبه قال : فلا بأس عليه .
وقال ابن المبارك أيضا ، عن ابن لَهِيعَة : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ] }{[12760]} { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] ، ثم كان يوم حُنَيْن بعد ذلك بسبع سنين ، قال : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [ التوبة : 27 ] .
وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، ومستدرك الحاكم ، وتفسير ابن جرير ، وابن مَرْدُوَيه ، من حديث داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما{[12761]} أنزلت في أهل بدر{[12762]} وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب النزول فيهم ، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم ، من أن الفرار من الزحف من الموبقات ، كما هو مذهب الجماهير ، والله [ تعالى ]{[12763]} أعلم .
وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار ، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في ِمْثَلْي المؤمنين ، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم ، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة ، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب اله عز وجل : وهذا قول جمهور الأمة ، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة : يراعى أيضاً الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم ، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة ، لأنها بشعة على الفار ذامة له ، وقرأ الجمهور «دبُره » بضم الباء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «دبْره » بسكون الباء ، واختلف المتأولون في المشار إليه بقوله { يومئذ } فقالت فرقة الإشارة إلى يوم بدر وما وليه ، وفي ذلك اليوم وقع الوعيد بالغضب على من فر ، ونسخ بعد ذلك حكم الآية بآية الضعف{[5262]} ، وبقي الفرار من الزحف ليس بكبيرة وقد فر الناس يوم أحد فعفا الله عنهم ، وقال فيهم يوم حنين :
{ ثم وليتم مدبرين }{[5263]} ولم يقع على ذلك تعنيف .
قال القاضي أبو محمد : وقال الجمهور من الأمة : الإشارة ب { يومئذ } إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله { إذا لقيتم } وحكم الآية باق لى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أخرى ، وليس في الآية نسخ ، وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم وفرارهم عنه ، وأما يوم حنين فكذلك من فر إنما انكشف أمام الكثرة ، ويحتمل أن عفو الله عمن فر يوم أحد كان عفواً عن كبيرة ، و { متحرفاً لقتال } يراد به الذي يرى أن فعله ذلك أنكى للعدو وأعود عليه بالشر ، ونصبه على الحال ، وكذلك نصب متحيز ، وأما الاستثناء فهو من المولين الذين يتضمنهم { من } ، وقال قوم : الاستثناء هو من أنواع التولي .
قال القاضي أبو محمد : ولو كان ذلك لوجب أن يكون إلا تحرفاً وتحيزاً ، والفئة ها هنا الجماعة من الناس الحاضرة للحرب ، هذا على قول الجمهور في أن الفرار من الزحف كبيرة ، وأما على القول الآخر فتكون ( الفئة ) :المدينة والإمام وجماعة المسلمين حيث كانوا ، روي هذا القول عن عمر رضي الله عنه وأنه قال : أنا فئتكم أيها المسلمون{[5264]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا منه على جهة الحيطة على المؤمنين إذ كانوا في ذلك الزمن يثبتون لأضعافهم مراراً ، وفي مسند ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجماعة فرت في سرية من سراياه : «أنا فئة المسلمين »{[5265]} حين قدموا عليه ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اتقوا السبع الموبقات » وعدد فيها الفرار من الزحف{[5266]} ، و { باء } بمعنى نهض متحملاً للثقل المذكور في الكلام غضباً كان أو نحوه ، والغضب من صفات الله عز وجل إذا أخذ بمعنى الإرادة فهي صفات ذات ، وإذا أخذ بمعنى إظهار أفعال الغاضب على العبد فهي صفة فعل ، وهذا المعنى أشبه بهذه الآية ، والمأوى الموضع الذي يأوي إليه الإنسان .
ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فِئَة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها .
والمستثنى يجوز أن يكون ذاتاً مستثنى من الموصول في قوله { ومن يولهم } والتقدير : إلاّ رَجلاً مُتحرفاً لقتال ، فحذف الموصوف وبقيت الصفة ، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلاّ في حال تحرفه لقتال .
و ( التحرف ) الانصراف إلى الحَرْف ، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدولُ إلى أحد جوانبه ، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه .
واللام للتعليل أي إلاّ في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال ، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم ، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر ، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني ، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفَرّ لأجل الكرّ فإن الحرب كرّ وفرّ ، وقال عمرو بن معديكرب :
ولقد أجمَعُ رِجليَّ بها *** حذَر الموت وإني لفـرور
ولقد أعْطِفها كارهـة *** حينَ للنفس من الموت هَرِير
كل ما ذلك مني خُلُق *** وبكلٍ أنا في الروْع جـدير
والتحيز طلب الحَيْز فَيْعِل من الحَوْز ، فأصل إحدى ياءيْه الواو ، فلما اجتمعت الواو والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواوُ ياء وأدغمت الياء في الياء ، ثم اشتقوا منه تَحَيّز ، فوزنه تَفَيْعَل وهو مختار صاحب « الكشاف » جرياً على القياس بقدر الإمكان ، وجوّز التفتازاني أن يَكون وزنه تَفَعّل بناء على اعتباره مشتقاً من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغامُ وهي الحَيز ، ونظّره بقولهم : « تَدَيُّر » بمعنى الإقامة في الدار ، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جُمعت على دُور ، إلاّ أنه لما كثر في جمعها دِيَار ودِيرَة عوملت معاملة ما عينه ياء ، فقالوا من ذلك تَدَيّرَ بمعنى أقام في الدار وهو تَفعّل من الدار ، واحتَج بكلام ابن جني والمرزوقي في « شرح الحماسة » ، يعني ما قال ابن جني في « شرح الحماسة » عند قول جابر بن حريش :
إِذْ لا تخاف حُدُوجُنا قذْفَ النّوى *** قبلَ الفساد إِقامةً وتديرا
التدير تفَعُّل من الدار وقياسه تدور إلاّ أنه لما كثر استعمالهم ديار أَنِسوا بالياء ووجدوا جانبها أوطا حسّاً وألين مسّاً فاجتروا عليها فقالوا تدير » وما قال المرزوقي « الأصل في تَدَير الواو ولكنهم بنوه على دِيَارِ لإلفِهم له بكثرة تردده في كلامهم » .
فمعنى { متحيزاً إلى فئة } أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم .
والفِئَة الجماعة من الناس ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 249 ) في قوله : { كم من فئةٍ قليلةَ } وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها مَن يحتاج إلى إصلاح أمره أو مَن عَرض له ما يَمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم ، فهو تولَ لمقصد القتال ، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار ، ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى ، وكذلك القفول إلى مقر أمير المِصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أميرُ الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء ، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية ، وقتل هو ومن معه من المسلمين ، قال عمر بن الخطاب : هلاّ تَحيّز إليّ فأنا فِئتُهْ .
و{ باء } رجع . والمعنى أن الله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابساً لغضب الله تعالى عليه . ومناسبة ( باء ) هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البَوْء الذي باءه . وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا ، ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم ، وهذا يدل على أن توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة .
فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف .
والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة ، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال ، ولو كانوا أقل من جيش المشركين ، فإمّا أن ينتصروا ، وإمّا أن يتشهدوا ، وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولاً ، فإن وقت المجالدة يضيق عن التدبير ، فعلى الجيش النظر في عَدده وعُدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم ، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات ، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو ، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم ، فإمّا أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو ، وإمّا أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة إفريقية الأولى ، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى : { إذا لقيتم فئة فاثبُتوا } [ الأنفال : 45 ] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال : " يأيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين . وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش ، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترككِ قتالهم ، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره ، إذا أمن أن يلحق به العدو ، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به ، فذلك لا يسمى تولية أدبار ، بل هو رأي ومصلحة ، وهذا عندي هو محمل ما رَوَى أبو داود والترمذي ، عن عبد الله بن عمر : أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فحاصَ الناسُ حَيْصة فكنت فيمن حَاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبُؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا ، وإن كان غير ذلك ذهبنا قال « فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون ، فأقبل إلينا فقال لا بل أنتم العكّارون ( أي الذين يكُرون يعني أن فراركم من قبيل الفرّ للكر ، يقال للرجل إذا ولّى عن الحرب ثم كرّ راجعاً إليها عَكرَ أوْ اعتكر ) وأنا فئة المسلمين » يَتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى : { أو متحيزاً إلى فئة } قال ابن عمر { فدنونا فقبلنا يده } فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين ، ولكنه كان انسلالاً لينحازوا إلى المدينة فتلك فِئَتُهم .
وإنما حرم الله الفرار في وقت مناجزة المشركين ومجالدتهم وهو وقت اللقاء ؛ لأن الفرار حينئذٍ يوقع في الهزيمة الشنيعة والتقتيل ، وذلك أن الله أوجب على المسلمين قتال المشركين فإذا أقدم المسلمون على القتال لم يكن نصرهم إلا بصبرهم وتأييد الله إياهم ، فلو انكشفوا بالفرار لأعمل المشركون الرماح في ظهورهم فاستأصلوهم ، فلذلك أمرهم الله ورسوله بالصبر والثبات ، فيكون ما في هذه الآية هو حكم الصبر عند اللقاء ، وبهذا يكون التقييد بحال الزحف للإحتراز عن اللقاء في غير تلك الحالة . وأما آية { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] فقد بينت حكم العَدد الذين عليهم طلب جهاد المشركين بنسبة عددهم إلى عدد المشركين ، ولعل هذا مراد ابن العربي من قوله : { لأنه ظاهر الكتاب والحديث } فيما نقله ابن الفرس .