واختلفوا في إرم فقال سعيد بن المسيب { إرم ذات العماد } دمشق ، وبه قال عكرمة . وقال القرظي هي الإسكندرية ، وقال مجاهد : هي أمة . وقيل : معناها : القديمة . وقال قتادة ، ومقاتل : هم قبيلة من عاد قال مقاتل : كان فيهم الملك ، وكانوا بمهرة ، وكان عاد أباهم ، فنسبهم إليه ، وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح . وقال محمد بن إسحاق : هو جد عاد ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح . وقال الكلبي : { إرم } هو الذي يجتمع إليه حسب عاد وثمود وأهل الجزيرة ، كان يقال : عاد إرم ، وثمود إرم ، فأهلك الله عاداً ثم ثمود ، وبقي أهل السواد والجزيرة ، وكانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا أهل جنان وزروع ، ومنازلهم بوادي القرى .
أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :
" ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ؟ وفرعون ذي الأوتاد ؟ . . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ؟ إن ربك لبالمرصاد " . .
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه ؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى " ربك " فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة . وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : " عاد إرم " وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد .
فقوله تعالى : { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } {[30039]} عطف بيان ؛ زيادة تعريف بهم .
وقوله : { ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشِّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم{[30040]} خلقة وأقواهم بطشا ، ولهذا ذكَّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم ، فقال : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] }{[30041]} [ الأعراف : 69 ] . وقال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] ، وقال هاهنا : { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أي : القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم ، لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم .
قال مجاهد : إرم : أمة قديمة . يعني : عادا الأولى ، كما قال قتادة بن دعامة ، والسُّدِّيُّ : إن إرم بيت مملكة عاد . وهذا قول حسن جيد قوي .
وقال مجاهد ، وقتادة ، والكلبي في قوله : { ذَاتِ الْعِمَادِ } كانوا أهل عمود لا يقيمون .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إنما قيل لهم : { ذَاتِ الْعِمَادِ } لطولهم .
واختلف الناس في { إرم } فقال مجاهد وقتادة : هي القبيلة بعينها ، وهذا على قول ابن الرقيات : [ المنسرح ]
مجداً تليداً بناه أوله . . . أدرك عاداً وقبله إرما{[11791]}
وآخرين ترى الماذي عدتهم . . . من نسج داود أو ما أورثت إرم{[11792]}
قال ابن إسحاق : { إرم } هو أبو عاد كلها ، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وقال : هو أحد أجدادها ، وقال جمهور المفسيرين : { إرم } مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدهر باليمن ، وقال محمد بن كعب : هي «الإسكندرية » ، وقال سعيد بن المسيب والمقبري{[11793]} : هي دمشق ، وهذان القولان ضعيفان ، وقال مجاهد { إرم } معناه القديمة ، وقرأ الجمهور «بعادٍ وإرمٍ » فصرفوا «عاداً » على إرادة الحي ونعت ب { إرم } بكسر الهمزة على أنها القبيلة بعينها ، ويؤيد هذا قول اليهود للعرب : سيخرج فينا نبي نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فهذا يقتضي أنها قبيلة ، وعلى هذه القراءة يتجه أن يكون { إرم } أباً لعاد أو جداً غلب اسمه على القبيل ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بعادَ إرمٍ » بترك الصرف في «عاد » وإضافتها إلى { إرم } ، وهذا يتجه على أن يكون { إرم } أباً أو جداً وعلى أن تكون مدينة ، وقرأ الضحاك «بعادَ أرَمَ » بفتح الدال والهمزة من «أرَمَ » وفتح الراء والميم على ترك الصرف في «عاد » والإضافة ، وقرأ ابن عباس والضحاك «بعاد إرمّ » بشد الميم على الفعل الماضي بمعنى بلى وصار رميماً ، يقال ارمّ العظم وأرم وأرمه الله تعدية رم بالهمزة ، وقرأ ابن عباس أيضاً : «ارم ذاتَ » بالنصب في التاء على إيقاع الإرمام عليها ، أي أبلاها ربك وجعلها رميماً ، وقرأ ابن الزبير : «أرِم ذات العماد » بفتح الهمزة وكسر الراء ، وهي لغة في المدينة ، وقرأ الضحاك بن مزاحم «أرْم » بسكون الراء وفتح الهمزة وهو تخفيف في «ارم » كفخذة وفخذ ، واختلف الناس في قوله تعالى : { ذات العماد } فمن قال { إرم } مدينة ، قال العماد أعمدة الحجارة التي بنيت بها ، وقيل القصور العالية والأبراج يقال لها عماد ، ومن قال { إرم } قبيلة قال { العماد } إما أعمدة بنيانهم وإما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها لأنهم كانوا أهل عمود ينتجعون البلاد ، قاله مقاتل وجماعة .
ووُصِفَتْ عادٌ ب { ذات العماد } ، و { ذاتُ } وصْف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة .
والعمادُ : عُود غليظ طويلٌ يُقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دَعامةً ، وهو هنا مستعار للقوة تشبيهاً للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد .
وإطلاق العِماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم "
ونَحن إذا عِمَادُ الحَيِّ خَرَّت *** على الأحْفاض نَمنع من يَلِينا
ويجوز أن يكون المراد ب { العماد } الأعلام التي بنوْها في طرُقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورةَ في قوله تعالى : { أتبنون بكل ريع آية تعبثون } [ الشعراء : 128 ] .
ووُصفت عاد ب { ذات العماد } لقوتها وشدتها ، أي قد أهلك الله قوماً هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى : { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم } [ محمد : 13 ] وقال : { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة } [ غافر : 21 ] .
و { التي } : صادق على « عاد » بتأويل القبيلة كما وصفت ب { ذات العماد } والعرب يقولون : تَغلِبُ ابنةُ وائل ، بتأويل تغلب بالقبيلة .