قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } . قرأ حمزة " لما " بكسر اللازم ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الموصولة ، ومعناه الذي يريد للذي آتيتكم ، أي أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة ، وأنهم أصحاب الشرائع ، ومن فتح اللام فمعناه للذي آتيتكم ، بمعنى الخبر ، وقيل : بمعنى الجزاء ، أي " لئن آتيتكم " ومهما آتيتكم . وجواب الجزاء قوله
قوله ( لما آتيتكم ) قرأ نافع وأهل المدينة " آتيناكم " على التعظيم ، كما قال ( وآتينا داود زبورا ) ( وآتيناه الحكم صبياً ) وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ، ولقوله( وأنا معكم ) . واختلفوا في المعني بهذه الآية . فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين خاصة أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده ، وأن يصدق بعضهم بعضاً ، وأخذ العهود على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء ، وينصره إن أدركه ، فإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه . فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى ، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الآخرون : بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا اختلفوا فمنهم من قال : إنما أخذ الميثاق على أ هل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين ، وهذا قول مجاهد والربيع ، ألا ترى إلى قوله ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه : أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب . وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وإنما القراءة المعروفة ( وإذ اخذ الله ميثاق النبيين ) فأراد أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق إلى أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه ، وينصروه ، إن أدركوه . وقال بعضهم : أراد اخذ الله الميثاق على النبيين وأممهم جميعاً في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد على المتبوع عهد على الأتباع ، وهذا معنى قول ابن عباس ، وقال علي بن أبي طالب : لم يبعث الله نبياً ، آدم ومن بعده ، إلا أخذ عليه الميثاق والعهد في أمر محمد ، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه .
قوله تعالى : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { لتؤمنن به ولتنصرنه قال } يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج ، وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري } أي قبلتم على ذلكم عهدي ؟ والإصر : العهد الثقيل .
قوله تعالى : { قالوا أقررنا قال } الله تعالى .
قوله تعالى : { فاشهدوا } أي فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم .
قوله تعالى : { وأنا معكم من الشاهدين } عليكم وعليهم ، وقال ابن عباس : ( فاشهدوا ) أي فاعلموا ، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم ، كناية عن غير مذكور .
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل ، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال ، إنه إن بعث الله رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض ، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله ، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان ، فهم كالشيء الواحد ، فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم ، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته ، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم ، فهذه الآية الكريمة من أعظم الدلائل على علو مرتبته وجلالة قدره ، وأنه أفضل الأنبياء وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى { قالوا أقررنا } أي : قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين { قال } الله لهم : { فاشهدوا } على أنفسكم وعلى أممكم بذلك ، قال { وأنا معكم من الشاهدين } .
بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات ، على عهد من الله وميثاق ، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات ، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق :
( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا : أقررنا . قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟ ) . .
لقد أخذ الله - سبحانه - موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله . موثقا على كل رسول . أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة ، ثم جاء رسول بعده مصدقا لما معه ، أن يؤمن به وينصره ، ويتبع دينه . وجعل هذا عهدا بينه وبين كل رسول .
والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل ؛ ويجمعهم كلهم في مشهد . والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة : هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل :
( قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ ) . .
فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه :
( قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) :
هذا المشهد الهائل الجليل ، يرسمه التعبير ، فيجف له القلب ويجب ؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارىء الجليل ، والرسل مجتمعين . .
وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلا متساندا مستسلما للتوجيه العلوي ، ممثلا للحقيقة الواحدة التي شاء الله - سبحانه - أن تقوم عليها الحياة البشرية ، ولا تنحرف ، ولا تتعدد ، ولا تتعارض ، ولا تتصادم . . إنما ينتدب لها المختار من عباد الله ؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده ، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به . فما للنبي في نفسه من شيء ؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي ، ولا مجد ذاتي . إنما هو عبد مصطفىومبلغ مختار . والله - سبحانه - هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر ؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء .
ويخلص دين الله - بهذا العهد وبهذا التصور - من العصبية الذاتية . عصبية الرسول لشخصه . وعصبيته لقومه . وعصبية أتباعه لنحلتهم . وعصبيتهم لأنفسهم . وعصبيتهم لقوميتهم . . ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد ، الذي تتابع به وتوإلى ذلك الموكب السني الكريم .
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم ، عليه السلام ، إلى عيسى ، عليه السلام ، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة ، وبلغ أيّ مبلَغ ، ثم جاءه رسول من بعده ، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ؛ ولهذا قال تعالى وتقدس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي : لمهما أعطيتكم{[5258]} من كتاب وحكمة { ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي }
وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع ، وقتادة ، والسدي : يعني عهدي .
وقال محمد بن إسحاق : { إصري } أي : ثقل ما حمّلْتم من عهدي ، أي{[5259]} ميثاقي الشديد المؤكد .
{ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ } أي : عن هذا العهد والميثاق ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد [ صلى الله عليه وسلم ]{[5260]} وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه .
وقال طاووس ، والحسن البصري ، وقتادة : أخذ{[5261]} الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا .
وهذا لا يضاد ما قاله عليّ وابن عباس ولا ينفيه ، بل يستلزمه ويقتضيه . ولهذا رواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني{[5262]} مررتُ بأخٍ لي من قُرَيْظَة ، فكتب لي جَوَامعَ{[5263]} من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟ قال : فتغيَّرَ وَجْهُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن ثابت : قلت{[5264]} له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا - قال : فسُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عليه السلام ، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ، {[5265]} إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الأمَمِ ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ " {[5266]} .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر{[5267]} حدثنا إسحاق ، حدثنا حماد ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا ، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وإما أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ ، وَإِنَّه - واللهِ - لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي " {[5268]} .
وفي بعض الأحاديث [ له ]{[5269]} : " لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّينِ لَمَا وَسِعَهُما إلا اتِّباعِي " {[5270]} .
فالرسول محمد خاتم الأنبياء{[5271]} صلوات الله وسلامه عليه ، دائما إلى يوم الدين ، وهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو{[5272]} الواجب الطاعة المقدَّم على الأنبياء كلهم ؛ ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء{[5273]} لما اجتمعوا ببيت المقدس ، وكذلك هو الشفيع في يوم الحشر{[5274]} في إتيان الرب لِفَصْل القضاء ، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ، حتى تنتهي النوبة إليه ، فيكونَ هو المخصوص به .
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنَصُرُنَّهُ }
وقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } الآية ، المعنى واذكر يا محمد «إذ » ويحتمل أن يكون «أخذ » هذا الميثاق حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسماً ، ويحتمل أن يكون هذا الأخذ على كل نبي في زمنه ووقت بعثه ، ثم جمع اللفظ ، في حكاية الحال في هذه الآية ، والمعنى : أن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به ، الإيمان بمن أوتي بعده من الرسل ، الظاهرة براهينهم والنصرة له ، واختلف المفسرون في العبارة عن مقتضى ألفاظ هذه الآية ، فقال مجاهد والربيع : إنما أخذ ميثاق أهل الكتاب ، لا ميثاق النبيين ، وفي مصحف أبي بن كعب وابن مسعود : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » ، قال مجاهد : هكذا هو القرآن ، وإثبات «النبيين » خطأ من الكتاب .
قال الفقيه الإمام : وهذا لفظ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان رضي الله عنه ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : إنما { أخذالله ميثاق النبيين } على قومهم ، فهو أخذ لميثاق الجميع ، وقال طاوس : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما بعث الله نبياً ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره بأخذه على قومه ، ثم تلا هذه الآية ، وقاله السدي : وروي عن طاوس أنه قال : صدر الآية أخذ الميثاق على النبيين وقوله : { ثم جاءكم } مخاطبة لأهل الكتاب بأخذ الميثاق عليهم .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : حكاه الطبري وهو قول يفسده إعراب الآية{[3289]} ، وهذه الأقوال كلها ترجع إلى ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ، لأن الأخذ على الأنبياء أخذ على الأمم . وقرأ حمزة وغيره سوى السبعة : «لما » بكسر اللام ، وهي لام الجر ، والتقدير لأجل ما أتيناكم ، إذ أنتم القادة الرؤوس ، ومن كان بهذه الحال فهو الذي يؤخذ ميثاقه ، و «ما » في هذه القراءة بمعنى الذي الموصولة ، والعائد إليها من الصلة تقديره آتيناكموه ، و «من » لبيان الجنس ، وقوله ، { ثم جاءكم } الآية ، جملة معطوفة على الصلة ، ولا بد في هذه الجملة من ضمير يعود على الموصول ، فتقديره عند سيبويه : رسول به مصدق لما معكم ، وحذف تخفيفاً كما حذف الذي في الصلة بعينها لطول الكلام ، كما قال تعالى :
{ أهذا الذي بعث الله رسولاً }{[3290]} [ الفرقان : 41 ] والحذف من الصلات كثير جميل ، وأما أبو الحسن الأخفش ، فقال قوله تعالى : { لما معكم } هو العائد عنده على الموصول ، إذ هو في المعنى بمنزلة الضمير الذي قدر سيبويه ، وكذلك قال الأخفش في قوله تعالى : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }{[3291]} لأن المعنى لا يضيع أجرهم ، إذ المحسنون هم من يتقي ويصبر ، وكذلك قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً }{[3292]} وكذلك ما ضارع هذه الآيات ، وسيبويه رحمه الله لا يرى أن يضع المظهر موقع المضمر ، كما يراه أبو الحسن ، واللام في { لتؤمِننَّ } ، هي اللام المتعلقة للقسم الذي تضمنه أخذ الميثاق وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور وذلك جائز .
وقرأ سائر السبعة : «لَما » بفتح اللام ، وذلك يتخرج على وجهين ، أحدهما أن تكون «ما » موصولة في موضع رفع بالابتداء ، واللام لام الابتداء ، وهي متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق } وخبر الابتداء قوله { لتؤمنن } ، و { لتؤمنن } متعلق بقسم محذوف ، والمعنى والله لتؤمنن ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، وفيه من جهة المعنى نظر ، إذا تأملت على أي شيء وقع التحليف لكنه متوجه بأن الحلف يقع مرتين تأكيداً فتأمل ، والعائد الذي في الصلة ، والعائد الذي في الجملة المعطوفة على الصلة هنا في هذه القراءة هما على حد ما ذكرناهما في قراءة حمزة ، أما أن هذا التأويل يقتضي عائداً من الخبر الذي هو { لتؤمنن } فهو قوله تعالى : { به } فالهاء من { به } عائدة على «ما » ، ولا يجوز أن تعود على { رسول } فيبقى الموصول حينئذ غير عائد عليه من خبره ذكر ، والوجه الثاني الذي تتخرج عليه قراءة القراء «لما » بفتح اللام ، هو أن تكون «ما » للجزاء شرطاً ، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي بعدها وهو مجزوم و{ جاءكم } معطوف في موضع جزم ، واللام الداخلة على «ما » ليست المتلقية للقسم ، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم ، فهي بمنزلة اللام في قوله تعالى :
{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض }{[3293]} لانها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله ، لنغرينك بهم وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله : { لتؤمِننَّ } وهذه اللام الداخلة على «أن » لا يعتمد القسم عليها ، فلذلك جاز حذفها تارة وإثباتها تارة ، كما قال تعالى : { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم }{[3294]} . قال الزجاج : لأن قولك ، والله لئن جئتني لأكرمنك ، إنما حلف على فعلك{[3295]} ، لأن الشرط معلق به ، فلذلك دخلت اللام على الشرط ، وما في هذا الوجه من كونها جزاء لا تحتاج إلى عائد لأنها مفعولة والمفعول لا يحتاج إلى ذكر عائد .
والضمير في قوله تعالى : { لتؤمِننَّ به } عائد على { رسول } ، وكذلك هو على قراءة من كسر اللام ، وأما الضمير في قوله { ولَتنصرنَه } فلا يحتمل بوجه إلا العود على رسول ، قال أبو علي في الإغفال : وجزاء الشرط محذوف{[3296]} بدلالة قوله { لتؤمنن } عليه ، قال سيبويه : سألته ، يعني الخليل عن قوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم } فقال : «ما » هنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما دخلت على إن ، حين قلت : لئن فعلت لأفعلن ، ثم استمر يفسر وجه الجزاء قال أبو علي : أرد الخليل بقوله : هي بمنزلة الذي ، أنها اسم كما أن الذي اسم ولَم يرد أنها موصولة كالذي ، وإنما فرّ من أن تكون «ما » حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله تعالى : { وإن كلاًّ لما ليوفينهم ربك أعمالهم }{[3297]} وفي قوله { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا }{[3298]} ، والله المستعان ، وحكى المهدوي ومكي عن سيبويه والخليل ، : أن خبر الابتداء فيمن جعل «ما » ابتداء على قراءة من فتح اللام هو في قوله : { من كتاب وحكمة } ولا أعرف من أين حكياه لأنه مفسد لمعنى الآية لا يليق بسيبويه ، والخليل ، وإنما الخبر في قوله ، { لتؤمنن } كما قال أبو علي الفارسي ومن جرى مجراه كالزجاج وغيره ، وقرأ الحسن : «لمّا آتيناكم » بفتح اللام وشدها قال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون اللام تؤول إلى الجزاء ، كما تقول لما جئتني أكرمتك .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ويظهر أن «لما » هذه هي الظرفية أي لما كنتم بهذه الحال ، رؤساء الناس وأماثلهم ، أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة ، وذهب ابن جني{[3299]} في «لما » في هذه الآية إلى أن أصلها «لمن ما » ، وزيدت «من » في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت ، كما يجب في مثل هذا ، فجاء لهما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى فبقي «لما » ، وتتفسر هذه القراءة على هذا التوجيه المحلق تفسر «لما » بفتح الميم مخففة ، وقد تقدم ، وقرأ نافع وحده ، «آتيناكم » بالنون ، وقرأ الباقون ، «آتيتكم » بالتاء ، و{ رسول } في هذه الآية اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين : الإشارة بذلك إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف ابن مسعود : «مصدقاً » بالنصب على الحال .
{ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }
هذه الآية هي وصف توقيف الأنبياء على إقرارهم بهذا الميثاق والتزامهم له وأخذ عهد الله فيه ، وذلك يحتمل موطن القسم ، ويحتمل أن يراد بهذه العبارة الجامعة وصف ما فعل مع كل نبي في زمنه ، { وأخذتم } في هذه الآية عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتاب والحكمة فمن حيث أخذ عليهم أخذوا هم ايضاً وقال الطبري : { أخذتم } في هذه الآية معناه : قبلتم ، و«الإصر » ، العهد ، لا تفسير له في هذا الموضع إلا لذلك ، وقوله تعالى { فاشهدوا } يحتمل معنيين : أحدهما فاشهدوا على أممكم المؤمنين بكم ، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد ، هذا قول الطبري وجماعة ، والمعنى الثاني ، بثوا الأمر عند أممكم واشهدوا به ، وشهادة الله تعالى هذا التأويل ، وهي التي في قوله { وأنا معكم من الشاهدين } هي إعطاء المعجزات وإقرار نبوءاتهم ، هذا قول الزجّاج وغيره .
قال القاضي أبو محمد : فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها ، والقول الثاني هو الأمر بأدائها .