قوله تعالى : { ولو جعلناه } أي : جعلنا هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس ، { قرآناً أعجميا } بغير لغة العرب ، { لقالوا لولا فصلت آياته } هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها ، { أأعجمي وعربي } يعني : أكتاب أعجمي ورسول عربي ؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار ، أي : أنهم كانوا يقولون : المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي . قال مقاتل : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار ، غلام عامر بن الحضرمي ، وكان يهودياً أعجمياً ، يعني أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده ، وقال : إنك تعلم محمداً ، فقال يسار : هو يعلمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { قل } يا محمد ، { هو } يعني القرآن ، { للذين آمنوا هدىً وشفاء } لما في القلوب ، وقيل : شفاء من الأوجاع . { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً } قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به ، { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي : أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون .
{ 44 } { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، حيث أنزل كتابا عربيًا ، على الرسول العربي ، بلسان قومه ، ليبين لهم ، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به ، والتلقي له والتسليم ، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا ، بلغة غير العرب ، لاعترض ، المكذبون وقالوا : { لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : هلا بينت آياته ، ووضحت وفسرت . { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : كيف يكون محمد عربيًا ، والكتاب أعجمي ؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر ، يكون فيه شبهة لأهل الباطل ، عن كتابه ، ووصفه بكل وصف ، يوجب لهم الانقياد ، ولكن المؤمنون الموفقون ، انتفعوا به ، وارتفعوا ، وغيرهم بالعكس من أحوالهم .
ولهذا قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم ، ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب .
{ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : صمم عن استماعه وإعراض ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يبصرون به رشدًا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالاً فإنهم إذا ردوا الحق ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيًّا إلى غيَّهم .
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون ، بمنزلة الذي ينادي ، وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا . والمقصود : أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرًا ، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم .
ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربياً بلسانهم ؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :
( ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ! أأعجمي وعربي ? ) . .
فهم لا يصغون إليه عربياً ، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم . فيقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ولو جعله الله قرآنا أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً ، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ! ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي ? ! فهو المراء والجدل والإلحاد .
والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل ، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء ، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته ، فتهتدي به وتشتفي . فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب ، فهو وقر في آذانهم ، وعمى ً في قلوبهم . وهم لا يتبينون شيئاً . لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه :
( قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ً ، أولئك ينادون من مكان بعيد ) . .
ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة . فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء ، ويحييها إحياء ؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها . وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم ، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى . وما تغير القرآن . ولكن تغيرت القلوب . وصدق الله العظيم .
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته ، وإحكامه في لفظه ومعناه ، ومع هذا لم يؤمن به المشركون ، نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت ، كما قال : { وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 198 ، 199 ] . وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم ، لقالوا على وجه التعنت والعناد : { لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : لقالوا : هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ، ولأنكروا ذلك وقالوا : أعجمي وعربي ؟ أي : كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه .
هكذا رُوي هذا المعنى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وغيرهم .
وقيل : المراد بقولهم : { لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : هلا أنزل بعضها بالأعجمي ، وبعضها بالعربي .
هذا قول الحسن البصري ، وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله { أَعْجَمِيٌّ } وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في [ التعنت و ] {[25744]} العناد أبلغ .
ثم قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : قل يا محمد : هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك {[25745]} والريب ، { وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : لا يفهمون ما فيه ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] .
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } قال مجاهد : يعني بعيد من قلوبهم .
قال ابن جرير : معناه : كأن من يخاطبهم يناديهم{[25746]} من مكان بعيد ، لا يفهمون ما يقول{[25747]} .
قلت : وهذا كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] .
وقال الضحاك : ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم .
وقال السدي : كان عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[25748]} جالسا عند رجل من المسلمين يقضي ، إذ قال : يا لبَّيكاه . فقال عمر : لِمَ تلبي ؟ هل رأيت أحدا ، أو دعاك أحد ؟ قال : دعاني داع من وراء {[25749]} البحر . فقال عمر : أولئك ينادون من مكان بعيد . رواه ابن أبي حاتم .
الأعجمي : هو الذي لا يفصح عربياً كان أو غير عربي ، والعجمي : الذي ليس من العرب فصيحاً كان أو غير فصيح ، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل الحروف التي وقعت في القرآن ، وهي مما عرِّب من كلام العجم : كالسجين والإستبرق ونحوه ، فقال عز وجل : ولو جعلنا هذا القرآن أعجمياً لا يبين لقالوا واعترضوا لولا بينت آياته .
واختلف القراء في قوله : { أأعجمي وعربي } فقراءة الجمهور على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والأعمش : «أأعجمي » بهمزتين ، وكأنهم كانوا ينكرون ذلك فيقولون : لولا بين أأعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن ، وتأول ابن جبير أن معنى قولهم : أتجيئنا عجمة ونحن عرب ؟ ما لنا وللعجمة ؟ وقرأ الحسن البصري وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما : «أعْجمي وعربي » دون استفهام وبسكون العين ، كأنهم قالوا عجمة وإعراب ، إن هذا لشاذ ، أو كأنهم قالوا لولا فصل فصلين ، فكان بعضه أعجمياً يفهمه العجم ، وبعضه عربياً يفهمه العرب ، وهذا تأويل لابن جبير أيضاً . وقرأ عمرو بن ميمون : «أعَجمي » بهمزة واحدة دون مد وبفتح العين ، فأخبر الله تعالى عنهم أنه لو كان على أي وجه تخيل لكان لهم قول واعتراض فاسد ، هذا مقصد الكلام .
وأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم : إن القرآن { هدى وشفاء } للمؤمنين المبصرين للحقائق ، وأنه على الذين لا يؤمنون ولا يصرفون نظرهم وحواسهم في المصنوعات عمي ، لأنهم { في آذانهم وقر } وعلى قلوبهم أقفال وعلى أعينهم غشاوة .
واختلف الناس في قوله : { وهو عليهم } فقالت فرقة : يريد ب { هو } القرآن . وقالت فرقة : { وهو } يريد به الوقر . والوقر : الثقل في الآذن المانع من السمع ، وهذه كلها استعارات ، أي هم لما لم يفهموا ولا حصلوا كالأعمى وصاحب الوقر .
وقرأ ابن عباس ومعاوية وعمرو بن العاصي : «وهو عليهم عمٍ » بكسر الميم وتنوينه . وقال يعقوب : لا أدري أنونوا أم فتحوا الياء على الفعل الماضي ؟ وبغير ياء رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتة عن ابن عباس .
وهذه القراءة أيضاً فيها استعارة{[10091]} ، وكذلك قوله تعالى : { أولئك ينادون } يحتمل معنيين ، وكلاهما مفعول للمفسرين : أحدهما أنها استعارة لقلة فهمهم ، شبههم بالرجل ينادى على بعد يسمع منه الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه ، وهذا تأويل مجاهد ، والآخر أن الكلام على الحقيقة وأن معناه أنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف ، فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب ، وهذا تأويل الضحاك بن مزاحم .