{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي : ظاهرون على الأرض ، قد اجتمعوا في صعيد واحد لا عوج ولا أمت فيه ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر .
{ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } لا من ذواتهم ولا من أعمالهم ، ولا من جزاء تلك الأعمال .
{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } أي : من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للأولين والآخرين ، أهل السماوات وأهل الأرض ، الذي انقطعت فيه الشركة في الملك ، وتقطعت الأسباب ، ولم يبق إلا الأعمال الصالحة أو السيئة ؟ الملك { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : المنفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، فلا شريك له في شيء منها بوجه من الوجوه . { الْقَهَّارِ } لجميع المخلوقات ، الذي دانت له المخلوقات وذلت وخضعت ، خصوصًا في ذلك اليوم الذي عنت فيه الوجوه للحي القيوم ، يومئذ لا تَكَلَّمُ نفس إلا بإذنه .
ثم هو اليوم الذي يبرزون فيه بلا ساتر ولا واق ولا تزييف ولا خداع :
( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ) . .
والله لا يخفى عليه منهم شيء في كل وقت وفي كل حال . ولكنهم في غير هذا اليوم قد يحسبون أنهم مستورون ، وأن أعمالهم وحركاتهم خافية ، أما اليوم فيحسون أنهم مكشوفون ، ويعلمون أنهم مفضوحون ؛ ويقفون عارين من كل ساتر حتى ستار الأوهام !
ويومئذ يتضاءل المتكبرون ، وينزوي المتجبرون ، ويقف الوجود كله خاشعاً ، والعباد كلهم خضعاً . ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسطان . وهو سبحانه متفرد به في كل آن . فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان ، بعد انكشافه للجنان . ويعلم هذا كل منكر ويستشعره كل متكبر . وتصمت كل نأمة وتسكن كل حركة . وينطلق صوت جليل رهيب يسأل ويجيب ؛ فما في الوجود كله يومئذ من سائل غيره ولا مجيب :
وقوله : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي : ظاهرون بادون كلهم ، لا شيء يكنهم ولا يظلهم ولا يسترهم . ولهذا قال : { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي : الجميع في علمه على السواء .
وقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } قد تقدم في حديث ابن عمر : أنه تعالى {[25470]} يطوي السموات والأرض بيده ، ثم يقول : أنا الملك ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ .
وفي حديث الصور : أنه تعالى إذا قبض أرواح جميع خلقه ، فلم يبق سواه وحده لا شريك له ، حينئذ يقول : لمن الملك اليوم ؟ ثلاث مرات ، ثم يجيب نفسه قائلا { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : الذي هو وحده قد قَهَر كل شيء وغلبه {[25471]} .
وقد قال {[25472]} ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن غالب الدقاق ، حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا معتمر ، عن أبيه ، حدثنا أبو نَضْرة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] {[25473]} قال : ينادي مناد بين يدي الساعة : يا أيها الناس ، أتتكم الساعة . فيسمعها الأحياء والأموات ، قال : وينزل الله [ عز وجل ] {[25474]} إلى سماء الدنيا ويقول : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } .
{ يوم هم بارزون } خارجون من قبورهم أو ظاهرون لا يسترهم شيء أو ظاهرة نفوسهم لا تحجبهم غواشي الأبدان ، أو أعمالهم وسرائرهم . { لا يخفى على الله منهم شيء } من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم ، وهو تقرير لقوله { هم بارزون } وإزاحة لنحو ما يتوهم في الدنيا . { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به ، أو لما دل عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط ، وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما .
و{ يَوْمَ هُم بارزون } بدل من { يَوْمَ التَّلاَقي } . و { هم بارزون } جملة اسمية ، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير .
وضمير الغيبة عائد إلى { الكافِرُونَ } من قوله : { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ غافر : 14 ] .
وجملة { لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ } بيان لجملة { هُم بارزون } والمعنى : أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم : { مِنْهم شَيءٌ } .
وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله : { على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ } ، ولأن الأظهر أن ضمير { ليُنذِر } عائد إلى { مَن يَشَاء } .
ومعنى { مِنهُم } من مجموعهم ، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم ، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام ، وأوثر أيضاً لفظ { شَيْءٌ } لتوغله في العموم ، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد ، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ ، أي من أجزاء جسمه ، فالمعنى : لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها .
{ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار }
مقول لقول محذوف ، وحذف القول من حديث البحر . والتقدير : يقول الله لمن الملك اليوم ، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال ، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله .
والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء ، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة ، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة ، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللاتِ لثقيف ، وذي الخَلَصة لدوْس ، ومناةَ للأوس والخزرج . وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون : { ما علمت لكم من إله غيري } [ القصص : 38 ] وقولِه : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزخرف : 51 ] ، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب : ملك الملوك ( شاهنشاه ) ، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا ( شاه جهان ) . ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر « ثم يقول الله أنا المَلِك أين ملوك الأرض » استفهاماً مراداً منه تخويفهم من الظهور يومئذٍ ، أي أين هم اليوم لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم .
ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن ، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير ، وقريب منه : { وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان } [ البقرة : 186 ] .
و { اليوم } المعرف باللام هو اليوم الحاضر ، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه ، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام .
وجملة { لله الواحد القَهَّار } يجوز أن تكون من بقية القول المقدر الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملاً في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه ، ونظيره قوله تعالى : { عَمَّ يتساءَلُون عَننِ النبإ العَظِيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] . ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف ، أي فيقول المسؤولون : { لله الواحد القهَّار } إقراراً منهم بذلك ، والتقدير : فيقول البارزون لله الواحد القهار ، فتكون معترضة .
وذكر الصفتين { الواحد القَهَّار } دون غيرهما من الصفات العُلَى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله : { لِمَننِ المُلْكُ اليَوْمَ } حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين .