قوله تعالى : { ذلك } يعني : الذي ذكرت من اجتناب الرجس وقول الزور ، { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } قال ابن عباس ( شعائر الله ) البدن والهدي وأصلها : من الإشعار ، وهو إعلامها ليعلم أنها هدي ، وتعظيمها : استسمانها واستحسانها . وقيل ( شعائر الله ) أعلام دينه ، { فإنها من تقوى القلوب } أي : فإن تعظيمها من تقوى القلوب .
{ 32 - 33 } { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
أي : ذلك الذي ذكرنا لكم من تعظيم حرماته وشعائره ، والمراد بالشعائر : أعلام الدين الظاهرة ، ومنها المناسك كلها ، كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ومنها الهدايا والقربان للبيت ، وتقدم أن معنى تعظيمها ، إجلالها ، والقيام بها ، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد ، ومنها الهدايا ، فتعظيمها ، باستحسانها واستسمانها ، وأن تكون مكملة من كل وجه ، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب ، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه ، لأن تعظيمها ، تابع لتعظيم الله وإجلاله .
ثم يعود السياق من تعظيم حرمات الله باتقائها والتحرج من المساس بها . . إلى تعظيم شعائر الله - وهي ذبائح الحج - باستسمانها وغلاء أثمانها :
( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب . لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ، ثم محلها إلى البيت العتيق ) .
ويربط بين الهدى الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب ؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره . وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته . وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم - عليه السلام - وما تلاه . وهي ذكريات الطاعة والإنابة ، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة . فهي والدعاء والصلاة سواء .
يقول تعالى : هذا { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : أوامره ، { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس : تعظيمها : استسمانها واستحسانها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشجّ ، حدثنا حفص بن غياث ، عن ابن أبي ليلى ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام .
وقال أبو أمامة بن سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يُسمّنون . رواه البخاري{[20185]} .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " دم عفراءَ أحبّ إلى الله من دم سَوداوين " . رواه أحمد ، وابن ماجه{[20186]} .
قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضًا ليس بناصع ، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها يجزئ أيضا ؛ لما ثبت في صحيح البخاري ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين{[20187]} .
وعن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فَحيل{[20188]} يأكل في سواد ، وينظر في سواد ، ويمشي في سواد .
رواه أهل السنن ، وصححه الترمذي{[20189]} ، أي : بكبش أسود{[20190]} في هذه الأماكن .
وفي سنن ابن ماجه ، عن أبي رافع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين{[20191]} . قيل : هما الخَصِيَان . وقيل : اللذان رُضَّ خُصْياهما ، ولم يقطعهما{[20192]} ، والله أعلم .
وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين [ والموجوءين قيل : هما الخصيين ]{[20193]}-{[20194]} .
وعن علي رضي الله عنه ، قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وألا نضحي بمقابَلَة ، ولا مدابَرَة ، ولا شَرْقاء ، ولا خَرْقاء .
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي{[20195]} .
ولهم عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُضحي{[20196]} بأعضب القرن والأذن{[20197]} .
وقال سعيد بن المسيب : العضب : النصْف فأكثر .
وقال بعض أهل اللغة : إن كُسر قرنها الأعلى فهي قصماء ، فأما العَضْب فهو كسر الأسفل ، وعضب الأذن قطع بعضها .
وعند الشافعي أن التضحية بذلك مجزئة ، لكن تكره .
وقال [ الإمام ]{[20198]} أحمد : لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن ؛ لهذا الحديث .
وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ ، وإلا أجزأ ، والله أعلم .
وأما المقابلة : فهي التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة : من مؤخر أذنها . والشرقاء : هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي . والخرقاء : هي التي خَرَقت السّمَةُ أذنها خرقا مُدَوّرًا ، والله أعلم .
وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البيّن عَوَرها ، والمريضة البين مَرَضها ، والعرجاء البين ظَلَعها{[20199]} ، والكسيرة التي لا تُنقِي " .
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي{[20200]} .
وهذه العيوب تنقص اللحم ، لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي ؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى ، فلهذا لا تجزئ التضحية{[20201]} بها عند الشافعي وغيره من الأئمة ، كما هو ظاهر الحديث .
واختلف قول الشافعي في المريضة مرضًا يسيرًا ، على قولين .
وروى أبو داود ، عن عُتبة بن عبد السّلَمي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرَةِ ، والمستأصَلَة ، والبَخْقاء ، والمشيَّعة ، والكسراء{[20202]}-{[20203]} .
فالمصفرة قيل : الهزيلة . وقيل : المستأصلة الأذنُ . والمستأصلة : المكسورة القرن . والبخقاء : هي العوراء . والمشيعة : هي التي لا تزال تُشَيَّع خَلفَ الغنم ، ولا تَتْبَع لضعفها . والكسراء : العرجاء .
فهذه العيوب كلها مانعة [ من الإجزاء ، فإن طرأ العيب ]{[20204]} بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة .
وقد روى الإمامُ أحمد ، عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية . فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ضَحِّ به " {[20205]} ولهذا [ جاء ]{[20206]} في الحديث : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . أي : أن تكون
الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نَجيبًا ، فأعطى بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أهديت نجيبًا ، فأعطِيتُ بها ثلاثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدْنًا ؟ قال : " لا انحرها إياها " {[20207]} .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : البدن من شعائر الله .
وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والبدن والحلق : من شعائر الله .
{ ذلك ومن يعظم شعائر الله } دين الله أو فرائض الحج ومواضع نسكه ، أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده ، وتعظيمها أن تختارها حسانا سمانا عالية الأثمان . روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفة برة من ذهب ، وأن عمر رضي الله تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار { فإنها من تقوى القلوب } فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما .
التقدير في هذا الموضع الأمر ذلك ، و «الشعائر » جميع شعيرة وهي كل لله تعالى ، فيه أمر أشعر به وأعلم ، قال فرقة : قصد ب «الشعائر » في هذه الآية للهدي والأنعام المشعرة ، ومعنى تعظيمها تسميتها والاهتبال بأمرها والمغالاة بها قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة ، وعود الضمير في { إنها } على التعظمة والفعلة التي يتضمنها الكلام ، وقرأ «القلوبُ » بالرفع على أنها الفاعلة بالمصدر الذي هو { تقوى } .
قال مالك قال الله عز وجل: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} عرفات والمزدلفة والصفا والمروة، فمجمل الشعائر في البيت العتيق.
فإذا كانت الضحايا إنما هو دم يتقرب به إلى الله تعالى، فخير الدماء أحب إلي، وقد زعم بعض المفسرين أن قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُّعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ} استسمان الهدي واستحسانه. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟ فقال: « أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها». والعقل مضطر إلى أن يعلم أن كل ما يتقرب به إلى الله تعالى إذا كان نفيسا، كلما عظمت رزيته على المتقرب به إلى الله تعالى كان أعظم لأجره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذا الذي ذكرت لكم أيها الناس وأمرتكم به من اجتناب الرجس من الأوثان واجتناب قول الزور، حنفاء لله، وتعظيم شعائر الله، وهو استحسان البُدن واستسمانها وأداء مناسك الحجّ على ما أمر الله جلّ ثناؤه، من تقوى قلوبكم...
إن الله تعالى ذكره أخبر أن تعظيم شعائره، وهي ما جعله أعلاما لخلقه فيما تعبّدهم به من مناسك حجهم، من الأماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها والأعمال التي ألزمهم عملها في حجهم: من تقوى قلوبهم، لم يخصص من ذلك شيئا، فتعظيم كلّ ذلك من تقوى القلوب، كما قال جلّ ثناؤه، وحقّ على عباده المؤمنين به تعظيم جميع ذلك. وقال:"إنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ" وأنّث ولم يقل: «فإنه»، لأنه أريد بذلك، فإن تلك التعظيمة مع اجتناب الرجس من الأوثان من تقوى القلوب، كما قال جلّ ثناؤه: "إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ". وعني بقوله: "فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ "فإنها من وجل القلوب من خشية الله، وحقيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تأويله، والله أعلم، أن من يعظم شعائر الله بالجوارح، فذلك التعظيم من تقوى القلوب. وهكذا الأمر الظاهر في الناس أنه إذا كان في القلب شيء من تقوى أو خير ظهر ذلك في الجوارح. وكذلك الشر أيضا إذا كان في القلب ظهر في الجوارح...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... شعائر الله: الهدي والبُدن، وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فيه إشارة لطيفة، وذلك أن أصل شراء البدن ربما يحمل على فعل ما لا بد منه، فلا يدل على الإخلاص، فإن عظمها مع حصول الإجزاء بما دونه فلا يظهر له محمل إلا تعظيم الشرع، وهو من تقوى القلوب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تعظيم الشعائر -وهي الهدايا، لأنها من معالم الحجّ -: أن يختارها عظام الأجرام حساناً سماناً غالية الأثمان... وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل في أنفه برّة من ذهب [جل الأحاديث أنها من فضة]. وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدّق بلحومها وبجلالها، ويعتقد أن طاعة الله في التقرّب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بدّ أن يقام به ويسارع فيه... {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب... وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{فَإِنَّهَا من تَقْوَى الْقُلُوبِ}: يُرِيدُ فَإِنَّ حَالَةَ التَّعْظِيمِ إذَا كَسَتْ الْعَبْدَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَأَصْلُهُ تُقَاةُ الْقَلْبِ بِصَلَاحِ السِّرِّ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ من أَفْعَالِ الْقَلْبِ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِتَعْظِيمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ.
وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه. ولكن لما كان قلبه خاليا عنها لا جرم لا يكون مجدا في أداء الطاعات، أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ومن يعظم شعائر الله "الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومنه شعار القوم في الحرب، أي علامتهم التي يتعارفون بها. ومنه إشعار البدنة وهو الطعن في جانبها الأيمن حتى يسيل الدم فيكون علامة، فهي تسمى شعيرة بمعنى المشعورة. فشعائر الله أعلام دينه لا سيما ما يتعلق بالمناسك.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال عليه الصلاة والسلام:"التقوى ههنا" وأشار إلى صدره.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها. فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه، لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره. وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم -عليه السلام- وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة. فهي والدعاء والصلاة سواء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الشعائر: جمع شعيرة: المَعْلم الواضح مشتقة من الشعور. جمع شعيرة بمعنى: مُشعِرة بصيغة اسم الفاعل أي معلمة بما عينه الله. فمضمون جملة {ومن يعظم شعائر الله} الخ... أخص من مضمون جملة {ومن يعظم حرمات الله} [الحج: 30] وذكر الأخص بعد الأعم للاهتمام. وتقدم ذكرها في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} في [سورة البقرة: 158]. فكل ما أمر الله به بزيارته أو بفعل يوقع فيه فهو من شعائر الله، أي مما أشعر الله الناس وقرره وشهره. فالتقدير: فقد حلّت التقوى قلبه بتعظيم الشعائر لأنها من تقوى القلوب، أي لأنّ تعظيمها من تقوى القلوب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الإشارة إلى الحج، والفاصل كان متعلقا بالحج، فقد كان فيه الأمر باجتناب رجس الأوثان، والكذب على الله بقول الزور والأمر بأن تكون الذبيحة لله، وأن يكون البعد عن الإشراك، وكل هذا إن لم يكن من الحج ليس بعيدا عنه، ولذا كان الاعتراض بما هو تتميم للحج، فالمعنى ذلك الحج بما فيه من حرمات، وإذا كانت حرمات الله تعالى يجب أن تكون مصونة غير معتدى عليها، فكذلك شعائر الله تعالى يجب أن تكون مصونة معظمة...
{ومن يعظم شعائر الله} وكانت الشعائر من تقوى القلوب لأن تخصيصها لفقراء الحرم، والاتجاه بها في العبادة مظهر حسي يدل على تقوى القلوب، وهي بمقصدها وغايتها نابعة من التقوى، وهي استشعار خشية الله تعالى والشعور بضيافته، ويلتقي بالناس متساويا معهم فقيرا وغنيا، ومعينا لفقيرهم، ومكرما لضيوف الرحمن من الحجيج، وأضيفت التقوى إلى القلوب، لأن القلب هو مكان التقوى...
الشعائر: جمع شعيرة، وهي المعالم التي جعلها الله لعباده لينالوا ثوابه بتعظيمها... وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من فعله، أو أدائه، أو عمله، عظم الشعائر يعني: أداها بحب وعشق وإخلاص، وجاء بها على الوجه الأكمل، وربما زاد على ما طلب منه...
ومثالنا في ذلك: خليل الله إبراهيم، عندما أمره الله أن يرفع قواعد البيت: كان يكفيه أن يبني على قدر ما تطوله يده، وبذلك يكون قد أدى ما أمر به، لكنه عشق هذا التكليف وأحبه فاحتال للأمر ووضع حجرا على حجر ليقف عليه، ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه...
إذن: الهدف أن نؤدي التكاليف بحب وعشق يوصلنا إلى حب الله عز وجل، لذلك نجد من أهل المعرفة من يقول: رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا...
{فإنها من تقوى القلوب} ليست من تقوى الجوارح، بل تقوى قلب لا تقوى قالب، فالقلب هو محل نظر الله إليك، ومحل قياس تعظيمك لشعائر الله...
وأنت تستطيع أن ترغم من هو أضعف منك على أي شيء يكرهه، إن شئت سجد لك، لكن لا تملك أن تجعل في قلبه حبا أو احتراما لك، لماذا؟ لأنك تجبر القالب، أما القلب فلا سلطة لك عليه بحال...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وفي هذه الآية حديث عن تعظيم شعائر الله التي تمثل العلامات البارزة في الخط الطويل الذي رسمه الله للإنسان في مسيرته إليه، وحدد له فيه مفردات العبادة والمعاملة والعلاقة والانتماء. فقد جعل الله في كل موقعٍ من مواقع الحياة علامةً على أوامره ونواهيه، في ما يصلح أمر الإنسان أو يبعده عن الفساد، ليكون التزامه بتلك الأوامر والنواهي دليلاً على طاعة الله، حيث يلتقي الإنسان به عند كل حكم من أحكامه، في مظهر حيٍّ من مظاهر الطاعة التي تتجسد في تعظيم الشعائر الدينية، تعظيماً لله.. ويتمثل ذلك في اهتمام الحاج بأن تكون الذبائح التي يقدّمها أضحيةً أو قرباناً لله لجهة شكلها وحجمها وطبيعتها، واحترامه لحدود الله عند ذبحها لتكون كاملةً غير منقوصة.. وفي ذلك دليل على التقوى التي تكمن في عمق الإنسان الذي يستشعر عظمة الله ويخشع له في حركة العبادة في الداخل، لتتحول إلى تقوى في العمل الذي هو التجسيد الحيّ للمعنى الإيمانيّ الروحي في الخارج.. وبذلك كانت العبادة في الإسلام معنًى لا يتحدد في الشكل، بما يمثله من صورةٍ ظاهرة ذات ملامح خاصة، بل يمتد إلى المعنى الداخلي الذي يعيش في المضمون على مستوى التصور في الفكر، والخشوع في الشعور، والخفقة في الروح،... ليتعمّق الحضور الإلهي في وعي الإنسان، بالإضافة إلى حضوره في حركة الواقع، ليجتمع له تقوى القلب والجسد، وليتكامل الموقف من خلالهما في تقوى الحياة كلها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إلاّ أنّ من الواضح مع كلّ هذا احتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية، ولا دليل على اختصاصها فقط بالأضاحي، أو جميع مناسك الحجّ... إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب... حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم وإحترام. كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضاً، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة، يحدث كثيراً أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلاّ أنّ ذلك لا قيمة له، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر اجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه، ومنه ينفذ إلى الجسد. لهذا نقول: إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة.