معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } عما لا يحل لهن { ويحفظن فروجهن } عمن لا يحل . وقيل أيضاً : يحفظن فروجهن يعني : يسترنها حتى لا يراها أحد . وروي عن أم سلمة : " أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه ، وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه ، فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه " قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن } يعني : لا يظهرن زينتهن لغير محرم ، وأراد بها الزينة الخفية ، وهما زينتان خفية وظاهرة ، فالخفية : مثل الخلخال ، والخضاب في الرجل ، والسوار في المعصم ، والقرط والقلائد ، فلا يجوز لها إظهارها ، ولا للأجنبي النظر إليها ، والمراد من الزينة موضع الزينة . قوله تعالى : { إلا ما ظهر منها } أراد به الزينة الظاهرة . واختلف أهل العلم في هذه الزينة الظاهرة التي استثناها الله تعالى : قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعي : هو الوجه والكفان . وقال ابن مسعود : هي الثياب بدليل قوله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } وأراد بها الثياب . وقال الحسن : الوجه والثياب . وقال ابن عباس : الكحل والخاتم والخضاب في الكف . فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبي النظر إليه إذا لم يخف فتنة وشهوة ، فإن خاف شيئاً منها غض البصر ، وإنما رخص في هذا القدر أن تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة يلزمها ستره . قوله عز وجل : { وليضربن بخمرهن } أي : ليلقين بمقانعهن ، { على جيوبهن } وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن وصدورهن وأعناقهن وأقراطهن . قالت عائشة : رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله عز وجل : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مروطهن فاختمرن بها . { ولا يبدين زينتهن } يعني : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب ، وهو ما عدا الوجه والكفين { إلا لبعولتهن } قال ابن عباس ومقاتل : يعني لا يضعن الجلباب ولا الخمار إلا لبعولتهن ، أي إلا لأزواجهن ، { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الباطنة ، ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة ، ويجوز للزوج أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره له النظر إلى فرجها . قوله تعالى : { أو نسائهن } أراد أنه يجوز للمرأة أن تنظر إلى بدن المرأة إلا ما بين السرة والركبة كالرجل المحرم ، هذا إذا كانت المرأة مسلمة ، فإن كانت كافرة فهل يجوز للمسلمة أن تنكشف لها ؟ اختلف العلم فيه ، فقال بعضهم : يجوز كما يجوز أن تنكشف للمرأة المسلمة لأنها من جملة النساء ، وقال بعضهم : لا يجوز لأن الله تعالى قال : أو نسائهن والكافرة ليست من نسائنا ولأنها أجنبية في الدين ، وكانت أبعد من الرجل الأجنبي . كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمام مع المسلمات . قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانهن } اختلفوا فيها ، فقال قوم : عبد المرأة محرم لها ، فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفاً ، وأن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة ، كالمحارم وهو ظاهر القرآن . وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة ، وروي ثابت عن أنس { عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقال قوم : هو كالأجنبي معها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقال : المراد من الآية الإماء دون العبيد . وعن ابن جريج أنه قال : ( أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن ) أنه لا يحل لامرأة مسلمة أن تتجرد بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون تلك المرأة المشركة أمةً لها . قوله عز وجل : { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو بكر غير بنصب الراء على القطع لأن التابعين معرفة وغير نكرة . وقيل : بمعنى إلا فهو استثناء ، معناه : يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم فإنهن لا يبدين زينتهن لمن كان منهم ذا إربة . وقرأ الآخرون بالجر على نعت التابعين والإربة والأرب : الحاجة . والمراد بالتابعين غير أولي الإربة هم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ، ولا حاجة لهم في النساء ، وهو قول مجاهد وعكرمة والشعبي . وعن ابن عباس أنه الأحمق العنين . وقال الحسن : هو الذي لا ينتشر ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن . وقال سعيد بن جبير : هو المعتوه ، وقال عكرمة : المجبوب . وقيل : هو المخنث . وقال مقاتل : الشيخ الهرم والعنين والخصي والمجبوب ونحوه .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أحمد بن الحسين الحيري ، أنبأنا محمد ابن أحمد بن محمد بن معقل بن محمد الميداني ، أنبأنا محمد بن يحيى ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا يدخلن عليكن هذا ، فحجبوه " . { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } أراد بالطفل الأطفال ، يكون واحداً وجمعاً ، أي : لم يكشفوا عن عورات النساء للجماع فيطلعوا عليها . وقيل : لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر ، وهو قول مجاهد . وقيل : لم يطيقوا أمر النساء . وقيل : لم يبلغوا حد الشهوة . { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كانت المرأة إذا مشت ضربت برجلها ليسمع صوت خلخالها أو يتبين خلخالها ، فنهيت عن ذلك . { وتوبوا إلى الله جميعاً } من التقصير الواقع في أمره ونهيه . وقيل : راجعوا طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من الآداب المذكورة في هذه السورة ، { أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } قرأ ابن عامر : ( آيه ) المؤمنون وبآية الساحر وآيه الثقلان بضم الهاء فيهن ، ويقف بلا ألف على الخط ، وقرأ الآخرون بفتح الهاءات على الأصل .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا وهب بن جرير ، أنبأنا شعبة عن عمرو بن مرة ، عن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في يوم مائة مرة " .

أخبرنا أبو الحسن عن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن حريم الشاشي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن حميد الليثي ، حدثني ابن أبي شيبة ، أنبأنا عبد الله بن تمير ، عن مالك بن مغول ، عن محمد بن سوقة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : " إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول : رب اغفر لي ، وتب علي ، إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة " . وجملة الكلام في بيان العورات : أنه لا يجوز للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل ، وعورته ما بين السرة والركبة ، وكذلك المرأة مع المرأة ، ولا بأس بالنظر إلى سائر البدن إذا لم يكن خوف فتنة . وقال مالك وابن أبي ذئب : الفخذ ليس بعورة لما روي عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال : " أجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم فرساً في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم " . وأكثر أهل العلم على أن الفخذ عورة .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفضل الحزقي ، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنبأنا علي بن حجر ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن أبي كثير ، عن محمد بن جحش قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان ، قال : يا معمر غط فخذيك ، فإن الفخذين عورة " وروي عن ابن عباس وجرهد بن خويلد ، كان من أصحاب الصفة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الفخذ عورة " . قال محمد بن إسماعيل : وحديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط . أما المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبيةً حرةً : فجميع بدنها في حق الأجنبي عورة ، ولا يجوز النظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين ، وإن كانت أمة : فعورتها مثل عورة الرجل ، ما بين السرة إلى الركبة ، وكذلك المحارم بعضهم مع بعض . والمرأة في النظر إلى الرجل الأجنبي كهو معها . ويجوز للرجال أن ينظر إلى جميع بدن امرأته وأمته التي تحل له ، وكذلك هي منه إلا نفس الفرج فإنه يكره النظر إليه ، وإذا زوج الرجل أمته حرم عليه النظر إلى عورتها كالأمة الأجنبية ، وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظرن إلى ما دون السرة وفوق الركبة " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

لما أمر المؤمنين بغض الأبصار وحفظ الفروج ، أمر المؤمنات بذلك ، فقال : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } عن النظر إلى العورات والرجال ، بشهوة ونحو ذلك من النظر الممنوع ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } من التمكين من جماعها ، أو مسها ، أو النظر المحرم إليها . { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } كالثياب الجميلة والحلي ، وجميع البدن كله من الزينة ، ولما كانت الثياب الظاهرة ، لا بد لها منها ، قال : { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : الثياب الظاهرة ، التي جرت العادة بلبسها إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها ، { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } وهذا لكمال الاستتار ، ويدل ذلك على أن الزينة التي يحرم إبداؤها ، يدخل فيها جميع البدن ، كما ذكرنا . ثم كرر النهي عن إبداء زينتهن ، ليستثني منه قوله : { إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } أي : أزواجهن { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } يشمل الأب بنفسه ، والجد وإن علا ، { أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن } ويدخل فيه الأبناء وأبناء البعولة مهما نزلوا { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ } أشقاء ، أو لأب ، أو لأم . { أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ } أي : يجوز للنساء أن ينظر بعضهن إلى بعض مطلقا ، ويحتمل أن الإضافة تقتضي الجنسية ، أي : النساء المسلمات ، اللاتي من جنسكم ، ففيه دليل لمن قال : إن المسلمة لا يجوز أن تنظر إليها الذمية .

{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } فيجوز للمملوك إذا كان كله للأنثى ، أن ينظر لسيدته ، ما دامت مالكة له كله ، فإن زال الملك أو بعضه ، لم يجز النظر . { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } أي : أو الذين يتبعونكم ، ويتعلقون بكم ، من الرجال الذين لا إربة لهم في هذه الشهوة ، كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك ، وكالعنين الذي لم يبق له شهوة ، لا في فرجه ، ولا في قلبه ، فإن هذا لا محذور من نظره .

{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } أي : الأطفال الذين دون التمييز ، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب ، وعلل تعالى ذلك ، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء ، أي : ليس لهم علم بذلك ، ولا وجدت فيهم الشهوة بعد ودل هذا ، أن المميز تستتر منه المرأة ، لأنه يظهر على عورات النساء .

{ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } أي : لا يضربن الأرض بأرجلهن ، ليصوت ما عليهن من حلي ، كخلاخل وغيرها ، فتعلم زينتها بسببه ، فيكون وسيلة إلى الفتنة .

ويؤخذ من هذا ونحوه ، قاعدة سد الوسائل ، وأن الأمر إذا كان مباحا ، ولكنه يفضي إلى محرم ، أو يخاف من وقوعه ، فإنه يمنع منه ، فالضرب بالرجل في الأرض ، الأصل أنه مباح ، ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة ، منع منه .

ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة ، ووصى بالوصايا المستحسنة ، وكان لا بد من وقوع تقصير من المؤمن بذلك ، أمر الله تعالى بالتوبة ، فقال : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ } لأن المؤمن يدعوه إيمانه إلى التوبة ثم علق على ذلك الفلاح ، فقال : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة ، وهي الرجوع مما يكرهه الله ، ظاهرا وباطنا ، إلى : ما يحبه ظاهرا وباطنا ، ودل هذا ، أن كل مؤمن محتاج إلى التوبة ، لأن الله خاطب المؤمنين جميعا ، وفيه الحث على الإخلاص بالتوبة في قوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } أي : لا لمقصد غير وجهه ، من سلامة من آفات الدنيا ، أو رياء وسمعة ، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

27

30

( وقل للمؤمنات : يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) . .

فلا يرسلن بنظراتهن الجائعة المتلصصة ، أو الهاتفة المثيرة ، تستثير كوامن الفتنة في صدور الرجال . ولا يبحن فروجهن إلا في حلال طيب ، يلبي داعي الفطرة في جو نظيف ، لا يخجل الأطفال الذين يجيئون عن طريقه عن مواجهة المجتمع والحياة !

( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) . .

والزينة حلال للمرأة ، تلبية لفطرتها . فكل أنثى مولعة بأن تكون جميلة ، وأن تبدو جميلة . والزينة تختلف من عصر إلى عصر ؛ ولكن أساسها في الفطرة واحد ، هو الرغبة في تحصيل الجمال أو استكماله ، وتجليته للرجال .

والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية ؛ ولكنه ينظمها ويضبطها ، ويجعلها تتبلور في الاتجاه بها إلى رجل واحد - هو شريك الحياة - يطلع منها على ما لا يطلع أحد سواه . ويشترك معه في الاطلاع على بعضها ، المحارم والمذكورون في الآية بعد ، ممن لا يثير شهواتهم ذلك الاطلاع .

فأما ما ظهر من الزينة في الوجه واليدين ، فيجوز كشفه . لأن كشف الوجه واليدين مباح لقوله [ صلى الله عليه وسلم ] لأسماء بنت أبي بكر : " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض ، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا - وأشار إلى وجهه وكفيه " .

( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) . .

والجيب فتحة الصدر في الثوب . والخمار غطاء الرأس والنحر والصدر . ليداري مفاتنهن ، فلا يعرضها للعيون الجائعة ؛ ولا حتى لنظرة الفجاءة ، التي يتقي المتقون أن يطيلوها أو يعاودوها ، ولكنها قد تترك كمينا في أطوائهم بعد وقوعها على تلك المفاتن لو تركت مكشوفة !

إن الله لا يريد أن يعرض القلوب للتجربة والابتلاء في هذا النوع من البلاء !

والمؤمنات اللواتي تلقين هذا النهي . وقلوبهن مشرقة بنور الله ، لم يتلكأن في الطاعة ، على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال . وقد كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة ! - تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء . وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها ، وأقرطة أذنيها . فلما أمر الله النساء أن يضربن بخمرهن على جيوبهن ، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ، كن كما قالت عائشة رضي الله عنها - : " يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )شققن مروطهن فاختمرن بها . . وعن صفية - بنت شيبة قالت : بينما نحن عند عائشة . قالت : فذكرن نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة - رضي الله عنها - إن لنساء قريش لفضلا . وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، وأشد تصديقا لكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل . لما نزلت في سورة النور : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن )انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ؛ ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابته . فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه . فأصبحن وراء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان " .

لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي ، وطهر إحساسه بالجمال ؛ فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب ، بل الطابع الإنساني المهذب . . وجمال الكشف الجسدي جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان ؛ مهما يكن من التناسق والاكتمال . فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف ، الذي يرفع الذوق الجمالي ، ويجعله لائقا بالإنسان ، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال .

وكذلك يصنع الإسلام اليوم في صفوف المؤمنات . على الرغم من هبوط الذوق العام ، وغلبة الطابع الحيواني عليه ؛ والجنوح به إلى التكشف والعري والتنزي كما تتنزى البهيمة ! فإذا هن يحجبن مفاتن أجسامهن طائعات ، في مجتمع يتكشف ويتبرج ، وتهتف الأنثى فيه للذكور حيثما كانت هتاف الحيوان للحيوان !

هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة . . ومن ثم يبيح القرآن تركه عندما يأمن الفتنة . فيستثني المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة ولا تثور شهواتهم وهم :

الآباء والأبناء ، وآباء الأزواج وأبناؤهم ، والإخوة وأبناء الإخوة ، وأبناء الأخوات . . كما يستثني النساء المؤمنات : ( أو نسائهن )فأما غير المسلمات فلا . لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوتهن ، وأبناء ملتهن مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها . وفي الصحيحين : " لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه يراها " . . أما المسلمات فهن أمينات ، يمنعهن دينهن أن يصفن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها . . ويستثني كذلك ( ما ملكت أيمانهن )قيل من الإناث فقط ، وقيل : ومن الذكور كذلك . لأن الرقيق لا تمتد شهوته إلى سيدته . والأول أولى ، لأن الرقيق إنسان تهيج فيه شهوة الإنسان ، مهما يكن له من وضع خاص ؛ في فترة من الزمان . . ويستثني ( التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) . . وهم الذين لا يشتهون النساء لسبب من الأسباب كالجب والعنة والبلاهة والجنون . . وسائر ما يمنع الرجل أن تشتهي نفسه المرأة . لأنه لا فتنة هنا ولا إغراء . . ويستثني ( الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) . . وهم الأطفال الذين لا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالجنس . فإذا ميزوا ، وثار فيهم هذا الشعور - ولو كانوا دون البلوغ - فهم غير داخلين في هذا الاستثناء .

وهؤلاء كلهم - عدا الأزواج - ليس عليهم ولا على المرأة جناح أن يروا منها ، إلا ما تحت السرة إلى تحت الركبة . لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء . فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء .

ولما كانت الوقاية هي المقصودة بهذا الإجراء ، فقد مضت الآية تنهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة ، وتهيج الشهوات الكامنة ، وتوقظ المشاعر النائمة . ولو لم يكشفن فعلا عن الزينة :

( ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) . .

وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها . فإن الخيال ليكون أحيانا أقوى في إثارة الشهوات من العيان . وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها ، أو حليها ، أكثر مما تثيرها رؤية جسد المرأة ذاته . كما أن كثيرين يثيرهم طيف المرأة يخطر في خيالهم ، أكثر مما يثيرهم شخص المرأة بين أيديهم - وهي حالات معروفة عند علماء الأمراض النفسية اليوم - وسماع وسوسة الحلى أو شمام شذى العطر من بعيد ، قد يثير حواس رجال كثيرين ، ويهيج أعصابهم ، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردا . والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله . لأن منزله هو الذي خلق ، وهو الذي يعلم من خلق . وهو اللطيف الخبير .

وفي النهاية يرد القلوب كلها إلى الله ؛ ويفتح لها باب التوبة مما ألمت به قبل نزول هذا القرآن :

( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .

بذلك يثير الحساسية برقابة الله ، وعطفه ورعايته ، وعونه للبشر في ضعفهم أمام ذلك الميل الفطري العميق ، الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله ، وبتقواه . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

هذا{[21055]} أمْرٌ من الله تعالى للنساء المؤمنات ، وغَيْرَة{[21056]} منه لأزواجهنّ ، عباده المؤمنين ، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات . وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيَّان قال : بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حَدَّث : أن " أسماء بنت مُرْشدَة " كانت في محل لها في بني حارثة ، فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتَأزّرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل ، وتبدو صدورهن وذوائبهن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا . فأنزل الله : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الآية .

فقوله تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } أي : عما حَرَّم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن . ولهذا ذهب [ كثير من العلماء ]{[21057]} إلى أنه : لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا . واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي ، من حديث الزهري ، عن نبهان - مولى أم سلمة - أنه حدثه : أن أم سلمة حَدَّثته : أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة ، قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابنُ أمّ مكتوم ، فدخل عليه ، وذلك بعدما أُمِرْنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتجبا منه " فقلت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أو عمياوان{[21058]} أنتما ؟ ألستما تبصرانه " {[21059]} .

ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة ، كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد ، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه ، وهو يسترها منهم حتى مَلَّت ورجعت{[21060]} .

وقوله : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } قال سعيد بن جُبَيْر : ، عن الفواحش . وقال قتادة وسفيان : عما لا يحل لهن . وقال مقاتل : ، عن الزنى . وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج ، فهو من الزنى ، إلا هذه الآية : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ألا يراها أحد .

وقال{[21061]} : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : لا يُظهرْنَ شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه .

وقال ابن مسعود : كالرداء والثياب . يعني : على ما كان يتعاطاه نساء العرب ، من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه ؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه . [ ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن إخفاؤه . وقال ]{[21062]} بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم .

وقال الأعمش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال : وجهها وكفيها والخاتم . ورُوي عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم - نحوُ ذلك . وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها ، كما قال أبو إسحاق السَّبيعي ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله قال في قوله : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } : الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة . وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال : الزينة زينتان : فزينة لا يراها إلا الزوج : الخاتم والسوار ، [ وزينة يراها الأجانب ، وهي ]{[21063]} الظاهر من الثياب .

وقال الزهري : [ لا يبدو ]{[21064]} لهؤلاء الذين سَمَّى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم .

وقال مالك ، عن الزهري : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الخاتم والخلخال .

ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه :

حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد ، عن سعيد بن بَشِير ، عن قتادة ، عن خالد بن دُرَيك ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : " يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم

يصلح أن يُرَى منها إلا هذا " وأشار إلى وجهه وكفيه{[21065]} .

لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي : هذا مرسل ؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة ، فالله أعلم .

وقوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } يعني : المقانع يعمل لها صَنفات ضاربات على صدور النساء ، لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية ، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك ، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها ، لا يواريه شيء ، وربما أظهرت{[21066]} عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها . فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن ، كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59 ] . وقال في هذه الآية الكريمة : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } والخُمُر : جمع خِمار ، وهو ما يُخَمر به ، أي : يغطى به الرأس ، وهي التي تسميها الناس المقانع .

قال سعيد بن جبير : { وَلْيَضْرِبْن } : وليشددن { بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } يعني : على النحر والصدر ، فلا يرى منه شيء .

وقال البخاري : وقال أحمد بن شَبِيب{[21067]} : حدَّثنا أبي ، عن يونس ، عن{[21068]} ابن شِهَاب ، عن عُرْوَةَ ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شقَقْنَ مُرُوطهن فاختمرن به{[21069]}- {[21070]} .

وقال أيضا : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن الحسن بن مسلم ، عن صَفيّة بنت شيبة ؛ أن عائشة ، رضي الله عنها ، كانت تقول{[21071]} : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } : أخذن أزرهن فَشَقَقنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها{[21072]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثني الزنجيّ بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة ، قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن . فقالت عائشة ، رضي الله عنها : إن لنساء قريش لفضلا وإني - والله - وما رأيت أفضلَ من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب الله ، ولا إيمانًا بالتنزيل . لقد أنزلت سورة النور : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابة{[21073]} ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل فاعتجرت به ، تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحْنَ وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان .

ورواه أبو داود من غير وجه ، عن صفية بنت شيبة ، به{[21074]} .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أن قُرَّةَ بن عبد الرحمن أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقّقن أكثَف مروطهن فاختمرن به . ورواه أبو داود من حديث ابن وهب ، به{[21075]} .

وقوله : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ } يعني : أزواجهن ، { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } كل هؤلاء محارم المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ، ولكن من غير اقتصاد وتبهرج{[21076]} .

وقال ابن المنذر : حدثنا موسى - يعني : ابن هارون - حدثنا أبو بكر - يعني ابن أبي شيبة - حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا داود ، عن الشعبي وعِكْرمَة في هذه الآية : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } - حتى فرغ منها قال : لم يذكر العم ولا الخال ؛ لأنهما ينعَتان{[21077]} لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله ، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره .

وقوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } يعني : تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة ؛ لئلا تصفهن لرجالهن ، وذلك - وإن كان محذورًا في جميع النساء - إلا أنه في نساء أهل الذمة أشدّ ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع ، وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تباشر المرأةَ المرأةَ ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها " . أخرجاه في الصحيحين ، عن ابن مسعود{[21078]} .

وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن هشام بن الغاز ، عن عبادة بن نُسَيّ ، عن أبيه ، عن الحارث بن قيس قال : كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة : أما بعد ، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك ، فانْهَ مَنْ قِبَلَك فلا{[21079]} يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها{[21080]} .

وقال مجاهد في قوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قال : نساؤهن المسلمات ، ليس المشركات من نسائهن ، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي المشركة .

وروى عَبد في تفسيره{[21081]} عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } ، قال : هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية ، وهو النَّحْر والقُرْط والوٍشَاح ، وما لا يحل أن يراه إلا محرم .

وروى سعيد : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة ؛ لأن الله تعالى يقول : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } فليست{[21082]} من نسائهن .

وعن مكحول وعبادة بن نُسَيّ : أنهما كرها أن تقبل النصرانيةُ واليهودية والمجوسية المسلمة .

فأما ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عمير ، حدثنا ضَمْرَة قال : قال ابن عطاء ، عن أبيه : ولما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس ، كان قَوَابل نسائهم اليهوديات والنصرانيات فهذا - إن صح - مَحمولٌ على حال الضرورة ، أو أن ذلك من باب الامتهان ، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد ، والله أعلم .

وقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } قال ابن جُرَيج{[21083]} : يعني : من نساء المشركين ، فيجوز لها أن تظهر [ زينتها لها وإن كانت مشركة ؛ لأنها أمتها . وإليه ذهب سعيد بن المسيَّب . وقال الأكثرون : بل يجوز لها أن تظهر ]{[21084]} على رقيقها من الرجال والنساء ، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود :

حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار ، عن ثابت ، عن أنس ، أن النبي{[21085]} صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها . قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قَنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : " إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك " {[21086]} .

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه [ في ]{[21087]} ترجمة حُدَيْج الخَصِيّ - مولى معاوية - أن عبد الله بن مَسْعَدَة الفزاري كان أسود شديد الأدمة ، وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة ، فربته ثم أعتقته ، ثم قد كان بعد ذلك كله مع معاوية أيام صفين ، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه{[21088]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن الزهري ، عن نَبْهَان ، عن أم سلمة ، ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان لإحداكن مُكَاتَب ، وكان له ما يؤدي ، فلتحتجب منه " .

ورواه أبو داود ، عن مُسَدَّد ، عن سفيان ، به{[21089]} .

وقوله : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } يعني : كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء ، وهم مع ذلك في عقولهم وَله وخَوَث{[21090]} ، ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن .

قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له .

وقال مجاهد : هو الأبْلَه .

وقال عكرمة : هو المخَنَّث الذي لا يقوم زُبُّه . وكذلك قال غير واحد من السلف .

وفي الصحيح من حديث الزهري ، عن عُرْوَةَ ، عن عائشة ؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ينَعت امرأة : يقول إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا يدخلَنّ عليكُنَ " فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة يستطعم{[21091]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عُرْوَةَ ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة قالت : دخل عليها [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[21092]} وعندها مخنث ، وعندها [ أخوها ]{[21093]} عبد الله بن أبي أمية [ والمخنث يقول لعبد الله : يا عبد الله بن أبي أمية ]{[21094]} إن فتح الله عليكم الطائف غدًا ، فعليك بابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر{[21095]} بثمان . قال : فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة : " لا يدخلن هذا عليك " .

أخرجاه في الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، به{[21096]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يَعُدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة . فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ؟ لا يدخلَنَّ عليكم هذا " فحجبوه .

ورواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي من طريق عبد الرزاق ، به{[21097]} .

وقوله : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } يعني : لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن{[21098]} الرخيم ، وتعطفهن في المشية وحركاتهن ، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك ، فلا بأس بدخوله على النساء . فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه ، بحيث يعرف ذلك ويدريه ، ويفرق بين الشوهاء والحسناء ، فلا يمكن من الدخول على النساء . وقد ثبت في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم والدخول على النساء " . قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت الحَمْو ؟ قال : " الحَمْو الموت " .

وقوله : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت{[21099]} تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت - لا يسمع صوته - ضربت برجلها الأرض ، فيعلم الرجال طنينه ، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك . وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا ، فتحركت بحركة لتظهر{[21100]} ما هو خفي ، دخل في هذا النهي ؛ لقوله تعالى : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } : ومن ذلك أيضا أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ{[21101]} الرجال طيبها ، فقد قال أبو عيسى الترمذي :

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد القَّطَّان ، عن ثابت بن عُمَارة الحنفي ، عن غُنَيْم بن قيس ، عن أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا " يعني زانية{[21102]} .

قال : وفي الباب ، عن أبي هريرة ، وهذا حسن صحيح .

رواه أبو داود والنسائي ، من حديث ثابت بن عمارة ، {[21103]} به .

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم بن{[21104]} عبيد الله ، عن عبيد مولى أبي رُهْم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لقيتْه امرأة وجد منها ريح الطيب ، ولذيلها إعصار فقال : يا أمة الجبار ، جئت من المسجد ؟ قالت : نعم . قال لها : [ وله ]{[21105]} تَطَيَّبتِ ؟ قالت : نعم . قال : إني سمعت حبي أبا القاسم{[21106]} صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يقبل الله صلاة امرأة تَطَيبت لهذا المسجد ، حتى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة " .

ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان - هو ابن عيينة -{[21107]} به .

وروى الترمذي أيضًا من حديث موسى بن عُبَيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن ميمونة بنت سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها " {[21108]} .

ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن المشي في وسط الطريق ؛ لما فيه من التبرج . قال أبو داود :

حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد - عن{[21109]} أبي اليمان ، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد - وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : " استأخرن ، فإنه ليس لكن أن تَحْققْن{[21110]} الطريق ، عليكن بحافات الطريق " ، فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار ، من لصوقها به{[21111]} .

وقوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة ، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ، فإن الفَلاح كل الفَلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله ، وترك ما نهيا{[21112]} عنه ، والله تعالى هو المستعان [ وعليه التكلان ]{[21113]} .


[21055]:- في ف ، أ : "وهذا".
[21056]:- في أ : "وعزة".
[21057]:- زيادة من ف ، أ.
[21058]:- في أ : "أفعمياوان".
[21059]:- سنن أبي داود برقم (4112) وسنن الترمذي برقم (2778).
[21060]:- صحيح البخاري برقم (454).
[21061]:- في أ : "وقوله".
[21062]:- زيادة من ف ، أ.
[21063]:- زيادة من ف ، أ.
[21064]:- زيادة من ف ، أ.
[21065]:- سنن أبي داود برقم (4104).
[21066]:- في ف : "ظهرت".
[21067]:- في هـ : "حدثنا أحمد بن شبيب" وفي ف ، أ : "حدثنا أحمد بن شبيب قال" والمثبت من البخاري.
[21068]:- في ف ، أ : "قال".
[21069]:- في ف : "بها" وفي أ : "بهن".
[21070]:- صحيح البخاري برقم (4758).
[21071]:- في هـ ، ف : "رضي الله عنها قالت : لما" ، والمثبت من البخاري.
[21072]:- صحيح البخاري برقم (4759).
[21073]:- في ف : "قرابته".
[21074]:- سنن أبي داود برقم (4100 ، 4101).
[21075]:- تفسير الطبري (18/94) وسنن أبي داود برقم (4102).
[21076]:- في أ : "بهرج".
[21077]:- في أ : "يتبعان".
[21078]:- صحيح البخاري برقم (5241).
[21079]:- في ف ، أ : "فإنه لا".
[21080]:- ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/95) من طريق سعيد بن منصور ، به.
[21081]:- في ف : "تفسير".
[21082]:- في ف : "فليس" ، وفي أ : "فلسن".
[21083]:- في أ : "جرير".
[21084]:- زيادة من ف ، أ.
[21085]:- في ف : "نبي الله".
[21086]:- سنن أبي داود برقم (4106).
[21087]:- زيادة من ف ، أ.
[21088]:- تاريخ دمشق (4/278 "المخطوط").
[21089]:- المسند (6/289) وسنن أبي داود برقم (3928).
[21090]:- في ف ، أ : "وحوب".
[21091]:- صحيح مسلم برقم (2181) وزيادة : "فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة.... الحديث" أخرجها أبو داود في السنن برقم (4109) من طريق الزهري ، به ، وليست في صحيح مسلم.
[21092]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[21093]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[21094]:- زيادة من ف ، أ ، والمسند.
[21095]:- في ف ، أ : "وتذهب".
[21096]:- المسند (6/290) وصحيح البخاري برقم (5887) وصحيح مسلم برقم (2180).
[21097]:- المسند (6/152) وصحيح مسلم برقم (2181) وسنن أبي داود برقم (4108) والنسائي في السنن الكبرى (9247).
[21098]:- في ف : "كلامهم".
[21099]:- في ف : "كانت المرأة إذا كانت في الجاهلية".
[21100]:- في ف : "ليظهر".
[21101]:- في أ : "ليشم".
[21102]:- سنن الترمذي برقم (2786).
[21103]:- سنن أبي داود برقم (4173) وسنن النسائي (8/153).
[21104]:- في ف : "عن".
[21105]:- زيادة من ف ، أ ، وأبي داود.
[21106]:- في ف : "رسول الله".
[21107]:- سنن أبي داود برقم (4174) وسنن ابن ماجه برقم (4002).
[21108]:- سنن الترمذي برقم (1167) وقال الترمذي : "وهذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه وهو صدوق ، وقد رواه بعضهم عن موسى بن عبيدة ولم يرفعه".
[21109]:- في ف : "ابن".
[21110]:- في ف : "تحتضن" ، وفي أ : "تختص".
[21111]:- سنن أبي داود برقم (5272).
[21112]:- في أ : "ما نهاه".
[21113]:- زيادة من ف ، أ.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

{ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من الرجال . { ويحفظن فروجهن } بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لأن النظر بريد الزنا . { ولا يبدين زينتهن } كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له . { إلا ما ظهر منها } عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم فإن في سترها حرجا ، وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ، والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة . { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } سترا لأعناقهن . وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وهشام بضم الجيم . { ولا يبدين زينتهن } كرره لبيان من يحل الإبداء ومن لا يحل له . { إلا لبعولتهن } فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج بكره . { أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن } لكثرة مداخلتهم عليهن واحتياجهن إلى مداخلتهم وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب ، ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وإنما لم يذكر الأعمام والأخوال لأنهم في معنى الإخوان أولان الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم { أو نسائهن } يعني المؤمنات فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال أو النساء كلهن ، وللعلماء في ذلك خلاف ، { أو ما ملكت أيمانهن } يعم الإماء والعبيد ، لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد وهبه لها وعليها ثوب ، إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال عليه الصلاة والسلام إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " . وقيل المراد بها الإماء وعبد المرأة كالأجنبي منها . { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } أي أولي الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الهم والممسوحون ، وفي المحبوب والخصي خلاف وقيل البله الذين يتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر غير بالنصب على الحال . { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع ، أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف . { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } ليتقعقع خلخالخها فيعلم أنها ذات خلخال فإن ذلك يورث ميلا في الرجال ، وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة وأدل على المنع من رفع الصوت . { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون } إذ لا يكاد يخلو أحد منكم من تفريط سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية فإنه وإن جب بالإسلام لكنه يجب الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر ، وقرأ ابن عامر " آيه المؤمنون " وفي " الزخرف " { يا أيه الساحر } وفي " الرحمن " { أيه الثقلان } بضم الهاء في الوصل في الثلاثة والباقون بفتحها ، ووقف أبو عمرو والكسائي عليهن بالألف ، ووقف الباقون بغير الألف { لعلكم تفلحون } بسعادة الدارين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِنَّ وَيَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡيَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّۖ وَلَا يُبۡدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَآئِهِنَّ أَوۡ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآئِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ إِخۡوَٰنِهِنَّ أَوۡ بَنِيٓ أَخَوَٰتِهِنَّ أَوۡ نِسَآئِهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيۡرِ أُوْلِي ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يَظۡهَرُواْ عَلَىٰ عَوۡرَٰتِ ٱلنِّسَآءِۖ وَلَا يَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِيُعۡلَمَ مَا يُخۡفِينَ مِن زِينَتِهِنَّۚ وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (31)

وقوله تعالى : { وقل للمؤمنات } الآية أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بغض البصر عن كل ما يكره من جهة الشرع النظر إليه ، «وفي حديث أم سلمة قالت : كنت أنا وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي عليه السلام » احتجبن «فقلنا : أعمى ، فقال النبي عليه السلام » أفعمياوان أنتما ؟{[8676]} «و { من } تحتمل ما تقدم في الأولى ، و » حفظ الفروج «يعم الفواحش وستر العورة وما دون ذلك مما فيه حفظ ، وأمر الله تعالى بأن { لا يبدين زينتهن } للناظرين إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية ، ثم استثنى ما يظهر من الزينة ، فاختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود ظاهر الزينة هو الثياب ، وقال سيعد ين جبير الوجه والثياب ، وقال سعيد بن جبير أيضاً وعطاء والأوزاعي الوجه والكفان والثياب ، وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة{[8677]} ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الذراع والِقَرَطة والفتخ{[8678]} ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس ، وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8679]} وذكر آخر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8680]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر لي في محكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه فغالب الأمر أن الوجه بما فيه والكفين يكثر فيهما الظهور ، وهو الظاهر في الصلاة ، ويحسن{[8681]} بالحسنة الوجه ان تستره إلا من ذي حرمة «محرمة » ويحتمل لفظ الآية أن الظاهر من الزينة لها أن تبديه ولكن يقوي ما قلناه الاحتياط ومراعاة فساد الناس فلا يظن أن يباح للنساء من إبداء الزينة إلا ما كان بذلك الوجه والله الموفق للصواب برحمته ، وقرأ الجمهور «ولْيضربن » بسكون اللام التي هي للأمر ، وقرأ أبو عمر في رواية عباس عنه و «لِيضربن » بكسر اللام على الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر في «ليذهب وليضرب » ، وإنما تسكينها كتسكين عضد وفخذ{[8682]} ، وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر قال النقاش كما يصنع النبط فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك فأمر الله تعالى ب «الخمار على الجيوب » وهيئة ذلك [ أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها ]{[8683]} يستر جميع ما ذكرناه ، وقالت عائشة رضي الله عنها : رحم الله المهاجرات الأول لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكثف المروط فشققنها أخمرة وضربن بها على الجيوب . ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك فشقته عليها وقالت إنما يضرب بالكثيف الذي يستر ، ومشهور القراءة ضم الجيم من «جُيوبهن » وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء كقراءتهم ذلك في بيوت وشيوخ ذكره الزهراوي .

{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ }

المعنى في هذه الآية ولا يقصدن ترك الإخفاء للزينة الباطنة كالخلخال والأقراط ونحوه ويطرحن مؤونة التحفظ إلا مع من سمي وبدأ تعالى ب «البعولة » وهو الأزواج لأن إطلاعهم يقع على أعظم من هذا ، ثم ثنى به المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكنهم تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر ، فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها ، وتختلف مراتب ما يبدي لهم فيبدي للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج ، وقوله { أو نسائهن } يعني جميع المؤمنات فكأنه قال أو صنفهن ، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم ، وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة : «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة{[8684]} .

قال فعند ذلك قام أبو عبيدة فابتهل وقال : أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه . وقوله : { أو ما ملكت أيمانهن } يدخل فيه الإماء الكتابيات{[8685]} ويدخل فيه العبيد عند جماعة من أهل العلم ، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما ، وقال ابن عباس وجماعة من العلماء لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرها ونحو ذلك إلا أن يكون وغداً ، فمنعت هذه الفرقة الكشف بملك اليمين وأباحته بأن يكون من { التابعين غير أولي الإربة } وفي بعض المصاحف «ملكت أيمانكم » فيدخل فيه عبدالغير ، وقوله { أو التابعين } يريد الأتباع الذين يدخلون ليطعموا الفضول من الرجال الذين لا إربة لهم في الوطء ، فهي شرطان ، ويدخل في هذه الصفة المجبوب{[8686]} والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته{[8687]} ونحو هذا هو الغالب في هذه الأصناف ، ورب مخنث لا ينبغي أن يكشف ، ألا ترى إلى حديث هند ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كشفه على النساء لما وصف بادنة بنت غيلان بن معتب{[8688]} ، وتأمل ما روي في أخبار الدلال المخنث وكذلك الحمقى والمعتوهون فيهم من لا ينبغي أن يكشف ، والذي «لا إربة له » من الرجال قليل و { الإربة } الحاجة إلى الوطء{[8689]} ، وعبر عن هذا بعض المفسرين ، قال هو الذي يتبعك لا يريد إلا الطعام وما تؤكله ، وقرأ عاصم{[8690]} وابن عامر «غيرَ » بالنصب وهو على الحال من الذكر الذي في { التابعين } ، وقرأ الباقون «غيرِ » بالخفض على النعت ل { التابعين } والقول فيها كقول في { غير المغضوب }{[8691]} [ الفاتحة : 7 ] وقوله { أو الطفل } اسم جنس بمعنى الجمع{[8692]} ويقال طفل ما لم يراهق الحلم ، و { يظهروا } معناه يطلعون بالوطء{[8693]} ، والجمهور على سكون الواو من «عوْرات » ، وروي عن ابن عامر فتح الواو ، وقال الزجاج الأكثر سكون الواو ، كجوزات وبيضات لثقل الحركة على الواو والياء ، ومن قرأ بالفتح فعلى الأصل في فعلة وفعلات .

{ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه قال : زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين{[8694]} من فضة واتخذت جزعاً{[8695]} فجعلت في ساقيها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية ، وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها ، ذكره الزجاج ، قال مكي رحمه الله ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع ، وقرأ عبد الله بن مسعود «ليعلم ما سر من زينتهن »{[8696]} ثم أمر عز وجل بالتوبة مطلقة وقد قيد توبة الكفار بالإخلاص وبالانتهاء في آية أخرى{[8697]} ، وتوبة أهل الذمة بالتبيين ، يريد لأمر محمد عليه السلام{[8698]} وأمر بهذه التوبة مطلقة عامة من كل شيء صغير وكبير ، وقرأ الجمهور «أيُّهَ » بفتح الهاء ، وقرأ ابن عامر «أيُّهَ » بضم الهاء ووجهه أن تجعل الهاء كأنها من نفس الكلمة فيكون إعراب المنادى فيها ، وضعف أبو علي ذلك جداً{[8699]} ، وبعضهم يقف «أية » وبعضهم يقف «أيها » بالألف ، وقوى أبو علي الوقف بالألف لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على

{ محلي } [ المائدة : 1 ] من قوله { غير محلي الصيد }{[8700]} [ المائدة : 1 ] ، والاختلاف الذي ذكرناه في { أيه المؤمنون } كذلك هو في { أيه الساحر }{[8701]} [ الزخرف : 49 ] و { أيه الثقلان }{[8702]} [ الرحمن : 31 ] .


[8676]:أخرجه أبو داود في اللباس، والترمذي في الأدب، وأحمد في مسنده (6 ـ 296). ولكن في مسند أحمد عن الزهري أن نبهان حدثه أن أم سلمة حدثته قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وميمونة. بدلا من عائشة كما هو هنا.
[8677]:هو المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، له ولأبيه صحبة، مات سنة 64 للهجرة.
[8678]:الفتخ بفتحتين: جمع الفتخة وهي خواتيم كبار تلبس في الأيدي. وقيل: الفتخة حلقة من ذهب أو فضة لا فص لها تلبس في البنصر. والقرطة: جمع قرط وهو ما يعلق في الأذن.
[8679]:ونصه: قال قتادة: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج يدها إلا إلى ها هنا، وقبض نصف الذراع).
[8680]:أخرجه ابن جرير عن ابن جريح عن عائشة رضي الله عنها، وهو: وقالت عائشة: القلب والفتخة، قالت عائشة: دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، فقالت عائشة: يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية، فقال: إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا، وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى، وأشار به أبو علي. ومعنى: عركت تعرك: حاضت. أما القلب فهو السوار يكون نظما واحدا.
[8681]:في بعض النسخ: (ويخصص) بدلا من (ويحسن).
[8682]:إذ يقال فيهما: عضد وفخذ.
[8683]:ما بين العلامتين زيادة عن القرطبي، فقد نقل كلام ابن عطية هنا من أول قوله: وسبب هذه الآية...إلى هنا"، ووردت فيه هذه الزيادة، ونعتقد أنها سقطت من النساخ. والجيب هو فتحة الثوب على الصدر.
[8684]:يعني: ما يعرى منها ويكشف.
[8685]:هو من مكاتبة العبيد، وهي أن يكاتب العبد على نفسه بثمنه، فإذا سعى وعمل وأدى هذا الثمن عتق.
[8686]:المجبوب: المقطوع الذكر، وفي بعض النسخ: "المجنون" بدلا من المجبوب.
[8687]:الزمن: المريض مرضا يدوم طويلا، والموقوذ: الشديد المرض المشرف على الموت.
[8688]:حديث هيت أخرجه مسلم، وأبو داود، ومالك في الموطأ، وعبد بن حميد، وعبد الرزاق، والنسائي، وان جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أرى هذا يعرف ما ها هنا، لا يدخلن عليكم)، فحجبوه، وفي رواية لابن مردويه أن اسمه هيت، وقد ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا هذا قال لعبد الله بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة رضي الله عنها، قال له في بيت أخته: إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت، وإن تكلمت تغنت الخ، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله، ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى. ـ هذا وبادية بالياء، ويقال لها بادنة بالنون، والصواب بالياء، ومعنى (تقبل بأربع وتدبر بثمان): تقبل بأربع طيات من لحم جسمها وتدبر بثمان منها. وتبنت: صارت كالمبناة لسمنها.
[8689]:أي في هذا الموضع، أما في غير ذلك فإن الإربة هي الحاجة، ومثلها الأرب والمأربة والإرب، والجمع مآرب، قال تعالى: {ولي فيها مآرب أخرى}.
[8690]:أي في رواية أبي بكر عنه، أما رواية حفص عنه فهي بالخفض كما هو ثابت في المصحف.
[8691]:من الآية (7) من سورة (الفاتحة).
[8692]:بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {الذين لم يطهروا}. فإن [الذين] نعت للطفل، والضمير في [يظهروا] ضمير جمع.
[8693]:يعني لم يكشفوا عن عورات النساء لهذا الغرض بسبب صغر السن.
[8694]:مثنى "برة" بضم الباء وفتح الراء خفيفة: وهي الخلخال، وقيل: هي كل حلقة من سوار وقرط وخلخال، قال الشاعر: (وقعقعن الخلاخل والبرينا). قال أبو علي: أصل البرة: بروة؛ لأنها جمعت على برى قرية.
[8695]:الجزع: ضرب من العقيق يعرف بخطوط متوازية مستديرة مختلفة الألوان.
[8696]:في بعض النسخ: "ليعلم ما يسترن من زينتهن". أما كلمة "سر" فلعلها فهي بمعنى: أخفي وستر.
[8697]:هي قوله تعالى في الآية (146) من سورة النساء: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله}.
[8698]:جاء ذلك في الآية (160) من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم}.
[8699]:قال: لأن آخر الاسم هو الياء الثانية من "أي"، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز هنا أن نضم الهاء لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم من "اللهم" لاقترانها بالكلمة أيضا، وعلق العلماء على ذلك فقالوا: إذا ثبتت القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا حجة للغوي بعد ذلك، فإن القرآن هو الحجة، وبه تصبح اللغة صحيحة.
[8700]:من الآية (1) من سورة (المائدة).
[8701]:من الآية (49) من سورة (الزخرف).
[8702]:من الآية (31) من سورة (الرحمن). هذا وقد قال ابن خالويه في كتاب (الحجة في القراءات السبع): "والحجة لمن حذف وأسكن الهاء أنه اتبع خط السواد، واحتج بأن النداء مبني على الحذف، وإنما فتحت الهاء لمجيء ألف بعدها، فلما ذهبت الألف عادت الهاء إلى السكون، وإنما يوقف على مثل هذا اضطرار لا اختيارا".