{ ختامه } أي طينه ، { مسك } كأنه ذهب إلى هذا المعنى ، قال ابن زيد : ختامه عند الله مسك ، وختام خمر الدنيا طين . وقال ابن مسعود : { مختوم } أي ممزوج ختامه أي : آخر طعمه وعاقبته مسك ، فالمختوم الذي له ختام ، أي آخر ، وختم كل شيء الفراغ منه . وقال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك . وقراءة العامة { ختامه مسك } بتقديم التاء ، وقرأ الكسائي " خاتمه " وهي قراءة علي وعلقمة ، ومعناهما واحد ، كما يقال : فلان كريم الطابع والطباع والخاتم والختام ، آخر كل شيء . { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى الطاعة عز وجل . وقال مجاهد : فليعمل العاملون ، نظيره . قوله تعالى : { لمثل هذا فليعمل العاملون }( الصافات- 61 ) ، وقال مقاتل ابن سليمان : فليتنازع المتنازعون وقال عطاء : فليستبق المستبقون ، وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويريده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره ، أي يضن .
ذلك الشراب { خِتَامُهُ مِسْكٌ } يحتمل أن المراد مختوم عن أن يداخله شيء ينقص لذته ، أو يفسد طعمه ، وذلك الختام ، الذي ختم به ، مسك .
ويحتمل أن المراد أنه [ الذي ] يكون في آخر الإناء ، الذي يشربون منه الرحيق حثالة ، وهي المسك الأذفر ، فهذا الكدر منه ، الذي جرت العادة في الدنيا أنه يراق ، يكون في الجنة بهذه المثابة ، { وَفِي ذَلِكَ } النعيم المقيم ، الذي لا يعلم حسنه ومقداره إلا الله ، { فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } أي : يتسابقوا في المبادرة إليه بالأعمال الموصلة إليه ، فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس ، وأحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال .
ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية ! . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية ! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود !
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : ( ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ) . . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : ( تسنيم )التي ( يشرب بها المقربون ) . . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . . .
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب .
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين !
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وإن قوله ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه !
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود ! فأين مجال من مجال ? وأين غاية من غاية ? حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ? !
ألا إن السباق إلى هناك . . ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . .
وقال ابن مسعود في قوله : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي : خلطه مسك .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : طيب الله لهم الخمر ، فكان آخر شيء جعل فيها مسك ، خُتِم بمسك . وكذا قال قتادة والضحاك .
وقال إبراهيم والحسن : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي : عاقبته مسك .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة ، عن جابر ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي الدرداء : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال : شراب أبيض مثل الفضة ، يختمون به شرابهم . ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها ، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها{[29862]} .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال : طيبه مسك .
وقوله : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } أي : وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون ، وليتباهى ويكاثر{[29863]} ويستبق إلى مثله المستبقون . كقوله : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [ الصافات : 61 ] .
واختلف المتأولون في قوله : { ختامه مسك } فقال علقمة وابن مسعود معناه : خلطه ومزاجه ، فقال ابن عباس والحسن وابن جبير معناه : خاتمته أن يجد الرائحة عند خاتمته .
الشرب رائحة المسك ، وقال أبو علي : المراد لذاذة المقطع وذكاء الرائحة مع طيب الطعم ، وكذلك قوله : { كان مزاجها كافوراً }{[11690]} [ الإنسان : 5 ] ، وقوله تعالى : { زنجبيلاً }{[11691]} [ الإنسان : 17 ] أي يحذي اللسان ، وقد قال ابن مقبل : [ البسيط ]
مما يفتق في الحانوت ناطقها*** بالفلفل الجوز والرمان مختوم{[11692]}
قال مجاهد معناه : طينه الذي يختم به مسك بدل الطين الذي في الدنيا ، وهذا إنما يكون في الكؤوس لأن خمر الآخرة ليست في دنان إنما هي في أنهار ، وقرأ الجمهور : «ختامه » ، وقرأ الكسائي وعلي بن أبي طالب والضحاك والنخعي «خاتمه » ، وهذه بينة المعنى : أنه يراد بها الطبع على الرحيق ، وروي عنهم أيضاً كسر التاء ، ثم حرض تعالى على الجنة بقوله : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } ، والتنافس في الشيء المغالاة فيه وأن يتبعه كل واحد نفسه ، فكأن نفسيهما يتباريان فيه ، وقيل هو من قولك شيء نفسي ، فكان هذا يعظمه ثم يعظمه الآخر ويستبقان إليه