الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{خِتَٰمُهُۥ مِسۡكٞۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلۡيَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَٰفِسُونَ} (26)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وأما قوله:"خِتامُهُ مِسْكٌ "فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: ممزوج مخلوط، مِزاجه وخِلطه مِسك...

وقال آخرون: عُنِي بقوله: مَخْتُومٍ مُطَيّن "خِتامُهُ مِسْكٌ" طينه مسك...

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: آخره وعاقبته مسك: أي هي طيبة الريح، إن ريحها في آخر شربهم، يختم لها بريح المسك.

وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة، لأنه لا وجه للختم في كلام العرب إلا الطبع، والفراغ كقولهم: ختم فلان القرآن: إذا أتى على آخره، فإذا كان لا وجه للطبع على شراب أهل الجنة، يفهم إذا كان شرابهم جاريا جري الماء في الأنهار، ولم يكن مُعتقا في الدنان، فيُطَيّن عليها وتختم، تعين أن الصحيح من ذلك الوجه الآخر، وهو العاقبة والمشروب آخرا، وهو الذي ختم به الشراب. وأما الختم بمعنى المزج، فلا نعلمه مسموعا من كلام العرب.

وقوله: "وفِي ذَلكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ" يقول تعالى ذكره: وفي هذا النعيم الذي وصف جلّ ثناؤه أنه أعطى هؤلاء الأبرار في القيامة، فلينتافس المتنافسون. والتنافس: أن ينَفِس الرجل على الرجل بالشيء يكون له، ويتمنى أن يكون له دونه، وهو مأخوذ من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس، وتطلبه وتشتهيه، وكان معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه، وإليه فليستبقوا في طلبه، ولتحرص عليه نفوسهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فجائز أن يكون راجعا إلى حال الإناء الذي كانوا يؤثرونه في الدنيا، وأخبر أن ختامه بأنفس شيء عرفوه في الدنيا، وهو المسك ليس كالختام في الدنيا، لأنهم يختمون أوانيهم في الدنيا بالشيء الرذل وبما لا قدر له عندهم. وجائز أن يكون منصرفا إلى الشاربين: إنهم لا يشربون أبدا، بل يكون له ختم، ولكن لا تنقطع لذة الشراب عنهم، بل أبدا يجدون من ذلك ريح المسك. وقوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} فجائز أن يكون أراد به الشراب الذي وصفه في قوله: {رحيق مختوم} والتنافس حرف يستعمل في الخيرات؛ كأنه يقول: فليرغبوا في الشراب الذي هذا وصفه الذي {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} [الصافات: 47] لا في الشراب الذي يذهب بالعقول، ويضعف الأبدان، ويتلف الأموال. أو فليتنافسوا في النعيم الذي وصف ههنا لا في النعيم [الذي] ينقطع، ولا يدوم؛ فكأنه يقول: فليرغبوا في ما يعقب لهم النعيم الدائم والشراب الذي لا تنقطع لذته. وقيل: {ختامه مسك} ما بقي في الكأس من البقية يكون ذلك مسكا. والتنافس إنما يكون في المسارعة في الخيرات وترك الإتباع للشهوات والانتهاء عن المعاصي، وهو كقوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون} [الصافات: 61] أي فليكن عملهم لما يثمر لهم ما ذكر من النعيم، لا في الذي ينقطع، ويكون عقباه النار...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وفي ذلك} أي الأمر العظيم البعيد المتناول وهو العيش والنعيم والشراب الذي هذا وصفه {فليتنافس} أي فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار {المتنافسون} أي الذين من شأنهم المنافسة وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره لأنه نفيس جداً، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه. والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحات- والنيات الخالصة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك، قد يفيد أنه معد في أوانيه، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة، تفض عند الشراب، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية!. كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض. فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود! وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين: (ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون).. أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة: (تسنيم) التي (يشرب بها المقربون).. قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع، وبهذا التوجيه: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)... لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها. ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه! إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله. وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود. ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر. وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود! فأين مجال من مجال؟ وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟!...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

فختامه ليس كختوم أهل الدنيا التي تلوث الأيدي، وأقل ما فيها أنّها في حال فتحها ترمى في سلة الأوساخ، بل هو شراب طاهر مختوم، وإذا ما فتح ختمه فتفوح رائحة المسك منه! وقيل: «ختامه» يعني (نهايته)، فعندما ينتهي من شرب الرحيق، ستفوح من فمه رائحة المسك، على خلاف أشربة أهل الدنيا، التي لا تترك في الفم إلاّ المرارة والرائحة الكريهة، ولكنّه بعيد بملاحظة الآية السابقة...

. وعلى آية حال، فدقّة تعبير الآية وشفافيته، من أجمل تعابير التشجيع للوصول إلى النعيم الخالد، من خلال ترسيخ الإيمان في قلوب وتجسيد الأعمال الصالحة على سوح الواقع، والآية قطعة بلاغية رائعة...