معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

قوله تعالى : { والمطلقات } . أي المخليات من حبال أزواجهن .

قوله تعالى : { يتربصن } . ينتظرن .

قوله تعالى : { بأنفسهن ثلاثة قروء } . فلا يتزوجن ، والقروء : جمع قرء ، مثل قرع ، وجمعه القليل أقرؤ ، والجمع الكثير أقراء ، واختلف أهل العلم في القرء فذهب جماعة إلى أنها الحيض ، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وبه قال الحسن ومجاهد ، وإليه ذهب الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة " دعي الصلاة أيام أقرائك " وإنما تدع الصلاة أيام حيضها . وذهب جماعة إلى أنها الأطهار ، وهو قول زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة ، وهو قول الفقهاء السبعة والزهري وبه قال ربيعة ومالك والشافعي ، واحتجوا بأن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : " مره فليراجعها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " . فأخبر أن زمان العدة هو الطهر ، ومن جهة اللغة .

قول الشاعر :

ففي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مورثة مالاً وفي الحي رفعةً *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وأراد به أنه كان يخرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن ، وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض ، وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة تنقضي عدتها على قول من يجعلها أطهاراً وتحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءاً .

قالت عائشة رضي الله عنها : إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ، وبرئ منها . ومن ذهب إلى أن الأقراء هي الحيض يقول : لا تنقصني عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة ، وهذا الخلاف من حيث أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض جميعاً ، يقال أقرأت المرأة : إذا حاضت وأقرأت : إذا طهرت ، فهي مقرئ ، واختلفوا في أصله فقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة : هو الوقت لمجيء الشيء وذهابه ، يقال : رجع فلان لقرئه ولقارئه ، أي لوقته الذي يرجع فيه وهذا قارئ الرياح ، أي وقت هبوبها .

قال مالك بن الحارث الهذلي :

كرهت العقر عقر بني شليل *** إذا هبت لقارئها الرياح

أي لوقتها ، والقرء يصلح للوجهين ، لأن الحيض يأتي لوقت ، والطهر مثله ، وقيل : هو من القرء وهو الحبس والجمع ، تقول العرب : ما قرأت الناقة سلأً قط ، أي لم تضم رحمها على ولد ، ومنه قريت الماء في المقرأة ، وهي الحوض : أي جمعته ، بترك همزها ، فالقرء هاهنا احتباس الدم واجتماعه ، فعلى هذا يكون الترجيح فيه للطهر ؛ لأنه يحبس الدم ويجمعه ، والحيض يرخيه ويرسله ، وجملة الحكم في العدد : أن المرأة إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل ، سواء وقعت الفرقة بينها وبين الزوج بالطلاق أو بالموت لقوله تعالى ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) فإن لم تكن حاملاً نظر : إن وقعت الفرقة بينهما بموت الزوج فعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر ، سواء مات الزوج قبل الدخول أو بعده ، وسواء كانت المرأة ممن تحيض ، أو لا تحيض لقول الله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) وإن وقعت الفرقة بينهما بالطلاق في الحياة نظر فإن كان قبل الدخول بها ، فلا عدة عليها ، لقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) . وإن كان بعد الدخول نظر : إن كانت المرأة ممن لم تحض قط أو بلغت في الكبر سن الآيسات فعدتها ثلاثة أشهر ، لقول الله تعالى : ( واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) . وإن كانت ممن تحيض فعدتها ثلاثة أقرؤ لقوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) وقوله " يتربصن بأنفسهن " لفظه خبر ، ومعناه أمر ، وعدة الأمة إن كانت حاملاً بوضع الحمل كالحرة ، وإن كانت حائلاً ففي الوفاة عدتها شهران وخمس ليال ، وفي الطلاق ، إن كانت ممن تحيض فعدتها قرءان ، وإن كانت ممن لا تحيض فشهر ونصف : وقيل شهران كالقرءين في حق من تحيض .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين ، فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهراً ونصفاً .

قوله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } . قال عكرمة : يعني الحيض وهو أن يريد الرجل مراجعتها فتقول : قد حضت الثلاثة وقال ابن عباس وقتادة : يعني الحمل ، ومعنى الآية : لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض ، والحمل لتبطل حق الزوج من الرجعة والولد .

قوله تعالى : { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } . معناه أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة في هذا الحكم سواء ، كما تقول : أدّ حقي إن كنت مؤمناً ، يعني أداء الحقوق من فعل المؤمنين .

قوله تعالى : { وبعولتهن } . يعني أزواجهن جمع بعل ، كالفحولة جمع فحل ، سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمور زوجته وأصل البعل السيد والمالك .

قوله تعالى : { أحق بردهن } . أولى برجعتهن إليهم .

قوله تعالى : { في ذلك } . أي في حال العدة .

قوله تعالى : { إن أرادوا إصلاحا } . أي إن أرادوا بالرجعة الصلاح وحسن العشرة لا الإضرار ، كما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإذا قرب انقضاء عدتها راجعها ، ثم تركها مدة ، ثم طلقها ، ثم إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها .

قوله تعالى : { ولهن } . أي للنساء على الأزواج مثل الذي عليهن للأزواج بالمعروف . قال ابن عباس في معناه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما تحب امرأتي أن تتزين لي لأن الله تعالى قال : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر ابن طرفة الشجري ، أنا أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسه ، أنا أبو داود السجستاني ، أنا موسى بن إسماعيل ، أنا حماد أنا أبو قزعة سويد ابن حجر الباهلي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال : " قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وأن تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا محمد بن الحجاج ، أنا أبو بكر بن أبي شيبة ، أنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه قال : دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسرد قصة حجة الوداع إلى أن ذكر خطبته يوم عرفة قال : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده ، كتاب الله ، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ونصحت ، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات " .

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب ابن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن يحيى ، أنا يعلى بن عبيد ، أنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائكم " .

قوله تعالى : { وللرجال عليهن درجة } . قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال ، وقال قتادة : بالجهاد ، وقيل بالعقل ، وقيل بالشهادة ، وقيل بالميراث ، وقيل بالدية وقيل بالطلاق ، لأن الطلاق بيد الرجال ، وقيل بالرجعة ، وقال سفيان و زيد بن أسلم : بالإمارة وقال القتيبي : ( وللرجال عليهن درجة ) معناه فضيلة في الحق .

قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى بن البرني ، أنا حذيفة أنا سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثم رجع ، فرأى رجالاً يسجد بعضهم لبعض ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي : النساء اللاتي طلقهن أزواجهن { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } أي : ينتظرن ويعتددن مدة { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } أي : حيض ، أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك ، مع أن الصحيح أن القرء ، الحيض ، ولهذه العدةِ عِدّةُ حِكَمٍ ، منها : العلم ببراءة الرحم ، إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء ، علم أنه ليس في رحمها حمل ، فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب ، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وحرم عليهن ، كتمان ذلك ، من حمل أو حيض ، لأن كتمان ذلك ، يفضي إلى مفاسد كثيرة ، فكتمان الحمل ، موجب أن تلحقه بغير من هو له ، رغبة فيه واستعجالا لانقضاء العدة ، فإذا ألحقته بغير أبيه ، حصل من قطع الرحم والإرث ، واحتجاب محارمه وأقاربه عنه ، وربما تزوج ذوات محارمه ، وحصل في مقابلة ذلك ، إلحاقه بغير أبيه ، وثبوت توابع ذلك ، من الإرث منه وله ، ومن جعل أقارب الملحق به ، أقارب له ، وفي ذلك من الشر والفساد ، ما لا يعلمه إلا رب العباد ، ولو لم يكن في ذلك ، إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه ، وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة ، وهي الزنا لكفى بذلك شرا .

وأما كتمان الحيض ، بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة ، ففيه من انقطاع حق الزوج عنها ، وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر ، كما ذكرنا ، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض ، لتطول العدة ، فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه ، بل هي سحت عليها محرمة من جهتين :

من كونها لا تستحقه ، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة ، وربما راجعها بعد انقضاء العدة ، فيكون ذلك سفاحا ، لكونها أجنبية عنه ، فلهذا قال تعالى : { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }

فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر ، وإلا فلو آمن بالله واليوم الآخر ، وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ، لم يصدر منهن شيء من ذلك .

وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة ، عما تخبر به عن نفسها ، من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها ، كالحيض والحمل ونحوه{[141]} .

ثم قال تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } أي : لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة ، أن يردوهن إلى نكاحهن { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } أي : رغبة وألفة ومودة .

ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح ، فليسوا بأحق بردهن ، فلا يحل لهم أن يراجعوهن ، لقصد المضارة لها ، وتطويل العدة عليها ، وهل يملك ذلك ، مع هذا القصد ؟ فيه قولان .

الجمهور على أنه يملك ذلك ، مع التحريم ، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح ، لا يملك ذلك ، كما هو ظاهر الآية الكريمة ، وهذه حكمة أخرى في هذا التربص ، وهي : أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها ، فجعلت له هذه المدة ، ليتروى بها ويقطع نظره .

وهذا يدل على محبته تعالى ، للألفة بين الزوجين ، وكراهته للفراق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " وهذا خاص في الطلاق الرجعي ، وأما الطلاق البائن ، فليس البعل بأحق برجعتها ، بل إن تراضيا على التراجع ، فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط .

ثم قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة .

ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف ، وهو : العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة ، والأحوال ، والأشخاص والعوائد .

وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة ، والمعاشرة ، والمسكن ، وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف ، فهذا موجب العقد المطلق .

وأما مع الشرط ، فعلى شرطهما ، إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا .

{ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : رفعة ورياسة ، وزيادة حق عليها ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }

ومنصب النبوة والقضاء ، والإمامة الصغرى والكبرى ، وسائر الولايات مختص بالرجال ، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور ، كالميراث ونحوه .

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : له العزة القاهرة والسلطان العظيم ، الذي دانت له جميع الأشياء ، ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه .

ويخرج من عموم هذه الآية ، الحوامل ، فعدتهن وضع الحمل ، واللاتي لم يدخل بهن ، فليس لهن عدة ، والإماء ، فعدتهن حيضتان ، كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم ، وسياق الآيات{[142]}  يدل على أن المراد بها الحرة .


[141]:- في ب: ونحوهما.
[142]:- في ب: الآية.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

221

والآن وقد انتهى السياق إلى الطلاق ، فإنه يأخذ في تفصيل أحكام الطلاق ؛ وما يتبعه من العدة والفدية والنفقة والمتعة . . إلى آخر الآثار المترتبة على الطلاق . .

ويبدأ بحكم العدة والرجعة :

)والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن - إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر - وبعولتهن أحق بردهن في ذلك - إن أرادوا إصلاحا - ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ، والله عزيز حكيم ) . .

يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - أي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف .

يتربصن بأنفسهن . . لقد وقفت أمام هذا التعبير اللطيف التصوير لحالة نفسية دقيقة . . إن المعنى الذهني المقصود هو أن ينتظرن دون زواج جديد حتى تنقضي ثلاث حيضات ، أو حتى يطهرن منها . . ولكن التعبير القرآني يلقي ظلالا أخرى بجانب ذلك المعنى الذهني . . إنه يلقي ظلال الرغبة الدافعة إلى استئناف حياة زوجية جديدة . رغبة الأنفس التي يدعوهن إلى التربص بها ، والإمساك بزمامها ، مع التحفز ، والتوفز . الذي يصاحب صورة التربص . وهي حالة طبيعية ، تدفع إليها رغبة المرأة في أن تثبت لنفسها ولغيرها أن إخفاقها في حياة الزوجية لم يكن لعجز فيها أو نقص ، وأنها قادرة على أن تجتذب رجلا آخر ، وأن تنشىء حياة جديدة . . هذا الدافع لا يوجد بطبيعته في نفس الرجل ، لأنه هو الذي طلق ؛ بينما يوجد بعنف في نفس المرأة لأنها هيالتي وقع عليها الطلاق . . وهكذا يصور القرآن الحالة النفسية من خلال التعبير ؛ كما يلحظ هذه الحالة ويحسب لها حسابا . .

يتربصن بأنفسهن هذه الفترة كي يتبين براءة أرحامهن من آثار الزوجية السابقة ؛ قبل أن يصرن إلى زيجات جديدة :

( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر )

لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من حمل أو من حيض . . ويلمس قلوبهن بذكر الله الذي يخلق ما في أرحامهن ، ويستجيش كذلك شعور الإيمان بالله واليوم الآخر . فشرط هذا الإيمان ألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن . . وذكر اليوم الآخر بصفة خاصة له وزنه هنا . فهناك الجزاء . . هناك العوض عما قد يفوت بالتربص ، وهناك العقاب لو كتمن ما خلق الله في أرحامهن ، وهو يعلمه لأنه هو الذي خلقه ، فلا يخفى عليه شيء منه . . فلا يجوز كتمانه عليه - سبحانه - تحت تأثير أي رغبة أو هوى أو غرض من شتى الأغراض التي تعرض لنفوسهن .

هذا من جهة . ومن الجهة الأخرى ، فإنه لا بد من فترة معقولة يختبر فيها الزوجان عواطفهما بعد الفرقة . فقد يكون في قلوبهما رمق من ود يستعاد ، وعواطف تستجاش ، ومعان غلبت عليها نزوة أو غلطة أو كبرياء ! فإذا سكن الغضب ، وهدأت الشرة ، واطمأنت النفس ، استصغرت تلك الأسباب التي دفعت إلى الفراق ، وبرزت معان أخرى واعتبارات جديدة ، وعاودها الحنين إلى استئناف الحياة ، أو عاودها التجمل رعاية لواجب من الواجبات . والطلاق أبغض الحلال إلى الله ، وهو عملية بتر لا يلجأ إليها إلا حين يخيب كل علاج . . [ وفي مواضع أخرى من القرآن تذكر المحاولات التي ينبغي أن تسبق إيقاع الطلاق . كما أن إيقاع الطلاق ينبغي أن يكون في فترة طهر لم يقع فيها وطء . وهذا من شأنه أن يوجد مهلة بين اعتزام الطلاق وإيقاعه في أغلب الحالات . إذ ينتظر الزوج حتى تجيء فترة الطهر ثم يوقع الطلاق . . إلى آخر تلك المحاولات ] . .

والطلقة الأولى تجربة يعلم منها الزوجان حقيقة مشاعرهما . فإذا اتضح لهما في أثناء العدة أن استئناف الحياة مستطاع ، فالطريق مفتوح :

( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ) . .

في ذلك . . أي في فترة الانتظار والتربص وهي فترة العدة . . إن أرادوا إصلاحا بهذا الرد ؛ ولم يكن القصد هو اعنات الزوجة ، وإعادة تقييدها في حياة محفوفة بالأشواك ، انتقاما منها ، أو استكبارا واستنكافا أن تنكح زوجا آخر .

ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف . .

وللمطلقات من الحقوق في هذه الحالة مثل الذي عليهن من الواجبات ، فهن مكلفات أن يتربصن وألا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، وأزواجهن مكلفون بأن تكون نيتهم في الرجعة طيبة لا ضرر فيها عليهن ولا ضرار . وذلك إلى ما سيأتي من أمر النفقة في مقابل الاحتباس للعدة .

( وللرجال عليهن درجة ) . .

أحسب أنها مقيدة في هذا السياق بحق الرجال في ردهن إلى عصمتهم في فترة العدة . وقد جعل هذا الحق في يد الرجل لأنه هو الذي طلق ؛ وليس من المعقول أن يطلق هو فيعطي حق المراجعة لها هي ! فتذهب إليه . وترده إلى عصمتها ! فهو حق تفرضه طبيعة الموقف . وهي درجة مقيدة في هذا الموضع ، وليست مطلقة الدلالة كما يفهمها الكثيرون ، ويستشهدون بها في غير موضعها .

ثم يجيء التعقيب :

( والله عزيز حكيم ) . .

مشعرا بقوة الله الذي يفرض هذه الأحكام وحكمته في فرضها على الناس . وفيه ما يرد القلوب عن الزيغ والانحراف تحت شتى المؤثرات والملابسات .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي : بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ، ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة إذا طُلِّقت ، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين ، لأنها على النصف من الحرة ، والقُرْء لا يتبعض فكُمّل لها قرءان . ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني ، عن القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " .

رواه أبو داود ، والترمذي وابن ماجة . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية . وقال الحافظ الدارقطني وغيره : الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه .

ورواه ابن ماجة من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا . قال الدارقطني : والصحيح ما رواه سالم ونافع ، عن ابن عمر قوله . وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب . قالوا : ولم يعرف بين الصحابة خلاف . وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء ، والله أعلم ، حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر ، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر ، وضعفه .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن عَيّاش - عن عمرو بن مهاجر ، عن أبيه : أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدة ، فأنزل الله ، عز وجل ، حين طلقت أسماء العدة للطلاق ، فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق ، يعني : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } .

هذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو ؟ على قولين :

أحدهما : أن المراد بها : الأطهار ، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر ، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، قال الزهري : فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق عروة . وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : " ثلاثة قروء " فقالت عائشة : صدقتم ، وتدرون ما الأقراءُ ؟ إنما الأقراء : الأطهارُ .

وقال مالك : عن ابن شهاب ، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك ، يريد قول عائشة . وقال مالك : عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها . وقال مالك : وهو الأمر عندنا . ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وأبان بن عثمان ، وعطاء ابن أبي رباح ، وقتادة ، والزهري ، وبقية الفقهاء السبعة ، وهو مذهب مالك ، والشافعي [ وغير واحد ، وداود وأبي ثور ، وهو رواية عن أحمد ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي : في الأطهار . ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ؛ ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان ] .

واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر - وهو الأعشى - :

ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة *** تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا

مُوَرَّثة عدَّا ، وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قُروء نسائكا

يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام ، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها .

والقول الثاني : أن المراد بالأقراء : الحيض ، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون : وتغتسل منها . وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة . قال الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فجاءته امرأة فقالت : إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [ وقد وضعت مائي ] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي . فقال عمر لعبد الله - يعني ابن مسعود - [ ما ترى ؟ قال ] : أراها امرأته ، ما دون أن تحل لها الصلاة . قال [ عمر : ] وأنا أرى ذلك .

وهكذا روي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأبي الدرداء ، وعبادة بن الصامت ، وأنس بن مالك ، وابن مسعود ، ومعاذ ، وأبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، والشعبي ، والربيع ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، ومكحول ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، أنهم قالوا : الأقراء : الحيض .

وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عنه الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء الحيض . وهو مذهب الثوري ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والحسن بن صالح بن حي ، وأبي عبيد ، وإسحاق بن راهويه .

ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ، من طريق المنذر بن المغيرة ، عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " دعي الصلاة أيام أقرائك " . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض ، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم : مجهول ليس بمشهور . وذكره ابن حبان في الثقات .

وقال ابن جرير : أصلُ القرء في كلام العرب : " الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم " . وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض [ العلماء ] الأصوليين فالله أعلم . وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت . وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض : قُرْءًا ، وتسمي الطهر : قرءا ، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا : قرءا . وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين .

وقوله : { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } أي : من حَبَل أو حيض . قاله ابن عباس ، وابن عُمَر ، ومجاهد ، والشعبي ، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغير واحد .

وقوله : { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } تهديد لهن على قول خلاف الحق . ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين ، وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك ، فردّ الأمر إليهن ، وتُوُعِّدْنَ فيه ، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في تطويلها ، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .

وقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } أي : وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير . وهذا في الرجعيات . فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن . وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين ، من استشهادهم على مسألة عود الضمير - هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا ؟ - بهذه الآية الكريمة ، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه ، والله أعلم .

وقوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته ، في حجة الوداع : " فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " . وفي حديث بهز بن حكيم ، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري ، عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا ؟

قال : " أن تطعمها إذا طعمْتَ ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تُقَبِّح ، ولا تهجر إلا في البيت " . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة ؛ لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .

وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : في الفضيلة في الخُلُق ، والمنزلة ، وطاعة الأمر ، والإنفاق ، والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .

وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (228)

{ والمطلقات } يريد بها المدخول بهن من ذوات الإقراء لما دلت عليه الآيات والأخبار أن حكم غيرهن خلاف ما ذكر { يتربصن } خبر بمعنى الأمر ، وتغيير العبارة للتأكيد والإشعار بأنه مما يجب أن يسار إلى امتثاله ، وكأن المخاطب قصد أن يمتثل الأمر فيخبر عنه كقولك في الدعاء : رحمك الله ، وبناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد . { بأنفسهن } تهييج وبعث لهن على التربص ، فإن نفوس النساء طوامح إلى الرجال ، فأمرن بأن يقمعنها ويحملنها على التربص . { ثلاثة قروء } نصب على الظرف ، أو المفعول به . أي يتربصن مضيها . و{ قروء } جمع قرء وهو يطلق للحيض ، كقوله عليه الصلاة والسلام " دعي الصلاة أيام أقرائك " وللطهر الفاصل بين الحيضتين كقول الأعشى :

مورثة مالا وفي الحي رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض ، وهو المراد به في الآية لأنه الدال على براءة الرحم لا الحيض ، كما قاله الحنفية لقوله تعالى ؛ { فطلقوهن لعدتهن } أي وقت عدتهن . والطلاق المشروع لا يكون في الحيض ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان " فلا يقاوم ما رواه الشيخان في قصة ابن عمر " مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء " . وكان القياس أن يذكر بصيغة القلة التي هي الأقراء ، ولكنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ، ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة فحسن بناؤها . { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } من الولد ، أو الحيض استعجالا في العدة وإبطالا لحق الرجعة ، بل التنبيه على أنه ينافي الإيمان ، وأن المؤمن لا يجترئ عليه ولا ينبغي له أن يفعل . { وبعولتهن } أي أزواج المطلقات . { أحق بردهن } إلى النكاح والرجعة إليهن ، ولكن إذا كان الطلاق رجعيا للآية التي تتلوها فالضمير أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه ، كما لو كرر الظاهر وخصصه . والبعولة جمع بعل والتاء لتأنيث الجمع كالعمومة والخؤلة ، أو مصدر من قولك حسن البعولة نعت به ، أو أقيم مقام المضاف المحذوف أي وأهل بعولتهن ، وأفعل ههنا بمعنى الفاعل . { في ذلك } أي في زمان التربص { إن أرادوا إصلاحا } بالرجعة لا لإضرار المرأة ، وليس المراد منه شرطية قصد الإصلاح للرجعة بل التحريض عليه والمنع من قصد الضرار . { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } أي ولهن حقوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنس . { وللرجال عليهن درجة } زيادة في الحق وفضل فيه ، لأن حقوقهم في أنفسهم وحقوقهن المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها ، أو شرف وفضيلة لأنهم قوام عليهن وحراص لهن يشاركوهن في غرض الزواج ويخصمون بفضيلة الرعاية والإنفاق { والله عزيز } يقدر على الانتقام ممن خالف الأحكام . { حكيم } يشرعها لحكم ومصالح .