قوله تعالى :{ والله خلق كل دابة } قرأ حمزة والكسائي ، ( خالق كل ) بالإضافة ، وقرأ الآخرون ( خلق كل ) على الفعل ، { من ماء } يعني : من نطفة ، وأراد به كل حيوان يشاهد في الدنيا ، ولا يدخل فيه الملائكة ولا الجن ، لأنا لا نشاهدهم . وقيل : أصل جميع الخلق من الماء ، وذلك أن الله تعالى خلق ماء ثم جعل بعضه ريحاً فخلق منها الملائكة ، وبعضه ناراً فخلق منها الجن ، وبعضها طيناً فخلق منها آدم ، { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحيات والحيتان والديدان ، { ومنهم من يمشي على رجلين } مثل بني آدم والطير ، { ومنهم من يمشي على أربع } كالبهائم والسباع ، ولم يذكر من يمشي على أكثر من أربع مثل حشرات الأرض ، لأنها في الصورة كالتي يمشي على الأربع ، وإنما قال : من يمشي ، و " من " إنما تستعمل فيمن يعقل دون من لا يعقل من الحيات والبهائم ، لأنه ذكر كل دابة ، فدخل فيه الناس وغيرهم ، وإذا جمع اللفظ من يعقل ومن لا يعقل تجعل الغلبة لمن يعقل . { يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير* }
{ 45 } { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ينبه عباده على ما يشاهدونه ، أنه خلق جميع الدواب التي على وجه الأرض ، { مِنْ مَاءٍ } أي : مادتها كلها الماء ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }
فالحيوانات التي تتوالد ، مادتها ماء النطفة ، حين يلقح الذكر الأنثى . والحيوانات التي تتولد من الأرض ، لا تتولد إلا من الرطوبات المائية ، كالحشرات لا يوجد منها شيء ، يتولد من غير ماء أبدا ، فالمادة واحدة ، ولكن الخلقة مختلفة من وجوه كثيرة ، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية ونحوها ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } كالآدميين ، وكثير من الطيور ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كبهيمة الأنعام ونحوها . فاختلافها -مع أن الأصل واحد- يدل على نفوذ مشيئة الله ، وعموم قدرته ، ولهذا قال : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : من المخلوقات ، على ما يشاؤه من الصفات ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما أنزل المطر على الأرض ، وهو لقاح واحد ، والأم واحدة ، وهي الأرض ، والأولاد مختلفو الأصناف والأوصاف { وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
ويمضي السياق في عرض مشاهد الكون ، واستثارة تطلعنا إليها ؛ فيعرض نشأة الحياة ، من أصل واحد ، وطبيعة واحدة ، ثم تنوعها ، مع وحدة النشأة والطبيعة :
( والله خلق كل دابة من ماء . فمنهم من يمشي على بطنه ، ومنهم من يمشي على رجلين ، ومنهم من يمشي على أربع . يخلق الله ما يشاء . إن الله على كل شيء قدير ) . .
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة ، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء ، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعا ، وهو الماء ، وقد تعني ما يحاول العلم الحديث أن يثبته من أن الحياة خرجت من البحر ونشأت أصلا في الماء . ثم تنوعت الأنواع ، وتفرعت الأجناس . .
ولكننا نحن على طريقتنا في عدم تعليق الحقائق القرآنية الثابتة على النظريات العلمية القابلة للتعديل والتبديل . . لا نزيد على هذه الإشارة شيئا . مكتفين بإثبات الحقيقة القرآنية . وهي أن الله خلق الأحياء كلها من الماء . فهي ذات أصل واحد . ثم هي - كما ترى العين - متنوعة الأشكال . منها الزواحف تمشي على بطنها ، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين . ومنها الحيوان يدب على أربع . كل أولئك وفق سنة الله ومشيئته ، لا عن فلتة ولا مصادفة : يخلق الله ما يشاء غير مقيد بشكل ولا هيئة . فالنواميس والسنن التي تعمل في الكون قد اقتضتها مشيئته الطليقة وارتضتها : ( إن الله على كل شيء قدير ) .
وإن تملي الأحياء . وهي بهذا التنوع في الأشكال والأحجام ، والأصول والأنواع ، والشيات والألوان . وهي خارجة من أصل واحد ، ليوحي بالتدبير المقصود ، والمشيئة العامدة . وينفي فكرة الفلتة والمصادفة . وإلا فأي فلتة تلك التي تتضمن كل هذا التدبير ؛ وأية مصادفة تلك التي تتضمن كل هذا التقدير ? إنما هو صنع الله العزيز الحكيم الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . .
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في خلقه أنواع [ المخلوقات ]{[21291]} . على اختلاف أشكالها وألوانها ، وحركاتها وسكناتها ، من ماء واحد ، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية وما شاكلها ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كالأنعام وسائر الحيوانات ؛ ولهذا قال : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : بقدرته ؛ لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَاللّهُ خَلَق كُلّ دابّةٍ مِنْ ماءٍ فقرأته عامة قرّاء الكوفة غير عاصم : «وَاللّهْ خالِقُ كُلّ دَابّةٍ » . وقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وعاصم : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دابّةٍ بنصب «كلّ » ، و«خَلَقَ » على مثال «فَعَل » . وهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، وذلك أن الإضافة في قراءة من قرأ ذلك «خالق » تدلّ على أن معنى ذلك المضيّ ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وقوله : خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ مِنْ ماءٍ يعني : من نطفة . فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحياة وما أشبهها . وقيل إنما قيل : فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ والمشي لا يكون على البطن لأن المشي إنما يكون لما له قوائم ، على التشبيه ، وأنه لما خالط ما له قوائمُ ما لا قوائمَ له ، جاز ، كما قال : وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ كالبهائم .
فإن قال قائل : فكيف قيل : فمنهم من يمشي ، و«مَن » للناس ، وكلّ هذه الأجناس أو أكثرها لغيرهم ؟ قيل : لأنه تفريق ما هو داخل في قوله : وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَابّةٍ وكان داخلاً في ذلك الناس وغيرهم ، ثم قال : فمنهم لاجتماع الناس والبهائم وغيرهم في ذلك واختلاطهم ، فكنى عن جميعهم كنايته عن بني آدم ، ثم فسرهم ب«مَن » ، إذ كان قد كنى عنهم كناية بني آدم خاصة . يَخْلُقُ اللّهُ ما يَشاءُ يقول : يحدث الله ما يشاء من الخلق . إنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَديرٌ يقول : إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء غيره ، ذو قدرة لا يتعذّر عليه شيء أراد .
هذه آية اعتبار ، وقرأ حمزة والكسائي «والله خالق كل » على الإضافة ، وقرأ الجمهور «والله خلق كل » ، و «الدابة » كل من يدب من الحيوان أي تحرك منتقلاً أمامه قدماً ، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب ومنه قول الشاعر : «دبيب قطا البطحاء في كل منهل »{[8746]} ، ويدخل في الحوت وفي الحديث «دابة من البحر مثل الظرب »{[8747]} ، وقوله { من ماء } قال النقاش أراد أمنية الذكور ، وقال جمهور النظرة أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين ، وعلى هذا يتخرج قول النبي عليه السلام للشيخ الذي سأل في غزاة بدر ممن أنتما ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم «نحن من ماء . . . »{[8748]} الحديث ، و «المشي علي البطن » للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره ، و «على الرجلين » للإِنسان والطير إذا مشى ، و «الأربع » لسائر الحيوان ، وفي مصحف أبي بن كعب «ومنهم من يمشي على أكثر » فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع ، لكن قال النقاش : إنما اكتفى لقول بذكر ما { يمشي على أربع } عن ذكر ما يمشي على الأكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوام مشيه وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان وفي كلها تتحرك في تصرفه .