السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

ولما استدل تعالى أولاً بأحوال السماء والأرض وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات بقوله تعالى : { والله } أي : الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة { خلق كل دابة } أي : حيوان { من ماء } وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وكسر لام كل والباقون بفتح اللام والخاء ولا ألف بينهما ونصب لام كل .

فإن قيل : كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عدداً ، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى : { خلقه من تراب } [ آل عمران ، 59 ] وخلق عيسى من الريح ، كما قال تعالى : { فنفخنا فيه من روحنا } [ التحريم ، 12 ] ونرى كثيراً من الحيوانات يتوالد لا من نطفة ؟ أجيب : بوجوه ؛ أحسنها : ما قال القفال : إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق . والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى ، ثانيها : إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي «أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب » ، والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة ، فكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى ، ثالثها : المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك ، فتخرج الملائكة والجن ، رابعها : لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلاً للغالب منزلة الكل .

فإن قيل : لم نكر الماء في قوله تعالى { من ماء } وعرفه في قوله تعالى { من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء ، 30 ] ؟ أجيب : بأنه جاء هاهنا منكراً لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة ، وعرفه في قوله تعالى : { من الماء كل شيء حيّ } ؛ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أن ذلك الجنس . ينقسم إلى أنواع كثيرة { فمنهم } أي : الدواب { من يمشي على بطنه } . كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي { ومنهم من يمشي على رجلين } أي : فقط كالآدمي والطير { ومنهم من يمشي على أربع } أي : من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن ؟ أجيب : بأن هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقاً بالعدم ، وقال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر من أربع ؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوائم مشيه وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها وبأن قوله تعالى : { يخلق الله ما يشاء } كالتنبيه على سائر الأقسام فإن قيل : لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب ؟ .

أجيب : بأنه قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع .

تنبيه : إنما أطلق من على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصل بمن ، وهو كل دابة وكان التعبير بمن أولى ليوافق اللفظ ، ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر وكانوا منكرين له أكد ذلك بقوله تعالى : { إن الله } أي : الذي له الكمال المطلق { على كل شيء } من ذلك وغيره { قدير } لأنه القادر على الكل والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها ، وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها ؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء ، ولا يمنعه منه مانع .