غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (45)

35

ثم ذكر دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان فقال { والله خلق كل دابة من ماء } قال علماء المعاني : التنكير في { ماء } للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة . وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر . وإنما عرّف في قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء . وعن القفال أن قوله { من ماء } صفة { دابة } لا صلة خلق . والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل : نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش إلا بالماء . ثم بين أن أصلهم وإن كان واحداً إلا أن خلقتهم مختلفة { فمنهم من يمشي على بطنه } وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا ، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء . وسمي الزحف على البطن مشياً على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله " فلان لا يتمشى له أمر " وقد يوجد من الدواب ذوات أرجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له أربع وأربعون رجلاً المسمى " دخال الأذن " . وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن . ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على أربع فقط .

وقيل : إن في قوله تعالى { يخلق الله ما يشاء } تنبيهاً على سائر الأقسام ، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر ، إلا أنا نذكر طرفاً من ذلك تذكيراً لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول : الاختلاف بين الحيوانات إما في جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان ، وكذا السمك فله فلوس والقنفذ له شوك ، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللبن ، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب إلى الصدر من يدي الفرس ، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير ، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات برياً وبحرياً أو برياً فقط أو بحرياً فقط ، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك ، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع ، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من البر والبحر . فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر ، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة . ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط ، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضاً ، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير السود وكالخفاش ، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء . وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير ، ومنها ما يختار الاجتماع كالكراكي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب . وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم ، ومنها ما يتعايش زوجاً كالقطا والإنسان من الحيوانات الذي لا يمكنه أن يعيش وحده ، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها . ومنها آكل لحم ، ومنها لاقط حب ، ومنها آكل عشب وزهر ، ومنه النحل ، ومن الحيوانات ما هو إنسيّ كالإنسان ، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق ، أو بالقهر كالفهد . ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطئ استئناسه كالأسد . ومن الحيوان ما لا صوت له ومنه ما له صوت ، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتاً حتى الإنسان . ومنه ما له شبق يسفد كل وقت كالديك ، ومنه عفيف له وقت معين ، ومنه ولود ومنه بيوض ، وكل ولود أذون ، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش . ومنه هادئ الطبع قليل الغضب كالبقر ، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل ، ومنه محتال مكار كالثعلب ، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب ، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل ، ومنه حسود تياه كالطاوس ، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه . وفي قوله { إن الله على كل شيء قدير } إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار .

/خ50