{ 2-8 } { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا * وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا }
كثيرا ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبين كتابيهما وشريعتيهما لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتيهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين ،
ولهذا قال هنا : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } الذي هو التوراة { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } يهتدون به في ظلمات الجهل إلى العلم بالحق .
{ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا } أي : وقلنا لهم ذلك وأنزلنا إليهم الكتاب لذلك ليعبدوا الله وحده وينيبوا إليه ويتخذوه وحده وكيلا ومدبرا لهم في أمر دينهم ودنياهم ولا يتعلقوا بغيره من المخلوقين الذين لا يملكون شيئا ولا ينفعونهم بشيء .
هذا الإسراء آية من آيات الله . وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر . والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة . والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجها منها . فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية :
( آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ؛ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وكان وعدا مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبنين ، وجعلناكم أكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا . عسى ربكم أن يرحمكم ، وإن عدتم عدنا ، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) . .
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة . وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها ؛ ودالت دولتهم بها . وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها ، وفاقا لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها . وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها .
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى - التوراة - وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر - نوح - العبد الشكور ، وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة ، ولم يحمل معه إلا المؤمنون : ( وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ؛ ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ) . .
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل . وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم .
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب : ( هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) فلا يعتمدوا إلا على الله وحده ، ولا ليتجهوا إلا إلى الله وحده . فهذا هو الهدى ، وهذا هو الإيمان . فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلا .
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد ، صلوات الله وسلامه عليه{[17221]} ، عطف بذكر موسى عبده وكليمه [ عليه السلام ]{[17222]} أيضًا ، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام{[17223]} وبين ذكر التوراة والقرآن ؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة { وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب { هُدًى } أي هاديًا { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا } أي لئلا تتخذوا { مِنْ دُونِي وَكِيلا } أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني ؛ لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله{[17224]} أن يعبده وحده لا شريك له .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاّ تَتّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً وآتى موسى الكتاب ، وردّ الكلام إلى وآتَيْنا وقد ابتدأ بقوله أسرى لما قد ذكرنا قبل فيما مضى من فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب ، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه . وعنى بالكتاب الذي أوتى موسى : التوراة . وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ يقول : وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحقّ ، ودليلاً لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم ، وأمرهم به ، ونهاهم عنه .
وقوله : ألاّ تَتّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ألاّ تَتّخِذُوا بالتاء بمعنى : وآتينا موسى الكتاب بأن لا تتخذوا يا بني إسرائيل مِنْ دُونِي وَكيِلاً . وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة : «ألاّ يَتّخِذُوا » بالياء على الخبر عن بني إسرائيل ، بمعنى : وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ألا يتّخذ بنو إسرائيل ، من دوني وكيلاً ، وهما قراءتان صحيحتا المعنى ، متفقتان غير مختلفتين ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب ، غير أني أوثر القراءة بالتاء ، لأنها أشهر في القراءة وأشدّ استفاضة فيهم من القراءة بالياء . ومعنى الكلام : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي . وقد بينا معنى الوكيل فيما مضى . وكان مجاهد يقول : معناه في هذا الموضع : الشريك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ألاّ تَتّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً قال : شريكا .
وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئا سوى الله مقامه شريكا منه له ، ووكيلاً للذي أقامه مقام الله . وبنحو الذي قلنا في تأويل هذه الاَية ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وآتَيْنا مُوسَى الكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدًى لِبَنِي إسْرَائِيلَ جعله الله لهم هدى ، يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وجعله رحمة لهم .