وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . قال : إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها ، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة .
قوله تعالى : { لها ما كسبت } . أي للنفس ما عملت من الخير ، لها أجره وثوابه .
قوله تعالى : { وعليها ما اكتسبت } . من الشر وعليها وزره .
قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } . أي لا تعاقبنا .
قوله تعالى : { إن نسينا } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو ، قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به ، أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) .
قوله تعالى : { أو أخطأنا } . قيل معناه القصد والعمد ، يقال : أخطأ فلان إذا تعمد ، قال الله تعالى ( إن قتلهم كان خطأً كبيراً ) قال عطاء : { إن نسينا أو أخطأنا } يعني : أن جهلنا أو تعمدنا ، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو ، لأن ما كان عمداً من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله ، والخطأ معفو عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } . أي عهداً ثقيلاً وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه .
قوله تعالى : { كما حملته على الذين من قبلنا } . يعني اليهود ، فلم يقوموا به فعذبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة يدل عليه قوله تعالى ( وأخذتم على ذلكم إصري ) أي عهدي ، وقيل معناه : لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال والأغلال ، وهذا يعني قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة يدل عليه قوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وقيل : الإصر ذنب لا توبة له ، معناه أعصمنا من مثله ، والأصل في العقل والإحكام .
قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه ، وقيل هو حديث النفس والوسوسة . حكي عن مكحول أنه قال : هو الغلمة ، قيل : الغلمة : شدة الشهوة ، وعن إبراهيم قال : هو الحب ، وعن محمد بن عبد الوهاب قال : العشق ، وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء ، وقيل : هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها .
قوله تعالى : { واعف عنا } . أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا .
قوله تعالى : { واغفر لنا } . استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا .
قوله تعالى : { وارحمنا } . فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك .
قوله تعالى : { أنت مولانا } . ناصرنا وحافظنا وولينا .
قوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غفرانك ربنا ) قال الله تعالى قد غفرت لكم وفي قوله ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : لا أوأخذكم ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ) قال : لا أحمل عليكم إصراً { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : لا أحملكم { واعف عنا } إلى آخره قال قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين . وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
لما نزل قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به ، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي : أمرا تسعه طاقتها ، ولا يكلفها ويشق عليها ، كما قال تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس ، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان ، وحمية عن الضرر ، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا ، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل ، إما بإسقاطه عن المكلف ، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم ، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير ، وعليها ما اكتسبت من الشر ، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره ، وفي الإتيان ب " كسب " في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى ب " اكتسب " في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه ، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله ، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان ، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا ، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال : قد فعلت . إجابة لهذا الدعاء ، فقال { ربَّنا لا تؤاخذْنا إن نَّسينا أو أخطأنا } والفرق بينهما : أن النسيان : ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا ، والخطأ : أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله : فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا ، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب ، أو نجس ، أو قد نسي نجاسة على بدنه ، أو تكلم في الصلاة ناسيا ، أو فعل مفطرا ناسيا ، أو فعل محظورا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا ، فإنه معفو عنه ، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا ، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم ، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف ، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر . { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } أي : تكاليف مشقة { كما حملته على الذين من قبلنا } وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وقد فعل وله الحمد { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا } فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور ، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور { أنت مولانا } أي : ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات ، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها ، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين ، الذين كفروا بك وبرسلك ، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك ، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان ، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر ، والحمد لله رب العالمين . تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم .
ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا ، لا حيوانا ولا حجرا ، ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو ، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدرا ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته ؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .
ثم الشطر الثاني من هذا التصور :
( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .
فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !
وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه ؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .
( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم ؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله [ ص ] : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .
( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) . .
وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم( السبت )أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم ، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) . . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول [ ص ]( ونيسرك لليسرى ) .
على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !
إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .
ودعاء المؤمنون : ( ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .
( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) . .
وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .
ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :
( واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ) .
فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله [ ص ] : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .
وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي إراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :
( أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين ) . .
إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم عن جابر قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك ، فسل تُعْطه .
فسأل : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } إلى آخر الآية
وقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : لا يكلف أحدًا فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة ، في قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه } أي : هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك{[4712]} الشخص دفعه ، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها ، فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان .
وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي : من خير ، { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } أي : من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف ، ثم قال{[4713]} تعالى مرشدًا عباده إلى سؤاله ، وقد تكفل لهم بالإجابة ، كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ [ نَسِينَا ]{[4714]} } أي : إن تركنا فرضًا على جهة النسيان ، أو فعلنا حرامًا كذلك ، { أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : الصوابَ في العمل ، جهلا منا بوجهه الشرعي .
وقد تقدم في صحيح مسلم لحديث أبي هريرة : " قال الله : نعم " ولحديث{[4715]} ابن عباس قال الله : " قد فعلت " .
وروى ابن ماجة في سننه ، وابن حبان في صحيحه{[4716]} من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، عن عطاء - قال ابن ماجة في روايته : عن ابن عباس . وقال الطبراني وابن حبان : عن عطاء ، عن عبيد بن عُمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع{[4717]} عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " . وقد روي من طُرُق أخَرَ وأعله{[4718]} أحمد وأبو حاتم{[4719]} والله أعلم . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن شهر ، عن أم الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : عن الخطأ ، والنسيان ، والاستكراه " قال أبو بكر : فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل ، أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }{[4720]} .
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } أي : لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به ، من الدين الحنيف السهل السمح .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : نعم " .
وعن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله : قد فعلت " . وجاء الحديث من طرق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بعثت بالحَنيفيَّة السمحة " {[4721]} .
وقوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : من التكليف والمصائب والبلاء ، لا تبتلينا بما لا قبل لنا به .
وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : الغرْبة والغلمة ، رواه{[4722]} ابن أبي حاتم ، " قال الله : نعم " وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : { وَاعْفُ عَنَّا } أي : فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، { وَاغْفِرْ لَنَا } أي : فيما بيننا وبين عبادك ، فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، { وَارْحَمْنَا } أي : فيما يُسْتَقبل ، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره . وقد تقدم في الحديث أن الله قال : نعم . وفي الحديث الآخر : " قال الله : قد فعلت " .
وقوله : { أَنْتَ مَوْلانَا } أي : أنت ولينا وناصرنا ، وعليك توكلنا ، وأنت المستعان ، وعليك التّكلان ، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك{[4723]} { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي : الذين جحدوا دينك ، وأنكروا وحدانيتك ، ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك ، وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم ، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة ، قال الله : نعم . وفي الحديث الذي رواه مسلم ، عن ابن عباس : " قال الله : قد فعلت " .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى بن إبراهيم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، أن معاذًا ، رضي الله عنه ، كان إذا فرغ من هذه السورة{[4724]} { فانصرنا على القوم الكافرين } قال : آمين{[4725]} .
ورواه وَكِيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل ، عن معاذ بن جبل : أنه كان إذا ختم البقرة قال : آمين{[4726]} .
{ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } فيتعبدها إلا بما يسعها ، فلا يضيق عليها ، ولا يجهدها . وقد بينا فيما مضى قبل أن الوسع اسم من قول القائل : وسعني هذا الأمر مثل الجُهْد والوُجْد من جهدني هذا الأمر ووجدت منه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } قال : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله جل ثناؤه : { وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } وقال : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ } وَقالَ : { اتّقُوا اللّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لما نزلت ضجّ المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا رسول الله هذا ، نتوب من عمل اليد والرجل واللسان ، كيف نتوب من الوسوسة ، كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } وسعها : طاقتها ، وكان حديث النفس مما لا يطيقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ } .
يعني بقوله جل ثناؤه لها : للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها ، يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير¹ وعليها : يعني وعلى كل نفس ما اكتسبت : ما عملت من شرّ . كما :
حدثنا بشر بن يزيد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ } أي من خير { وَعَلَيْها ما اكْتَسْبَتْ } أي من شرّ ، أو قال : من سوء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } يقول : ما عملت من خير ، { وَعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ } يقول : وعليها ما عملت من شرّ .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } عمل اليد والرجل واللسان .
فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها ، فلا يجهدها ، ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا } .
( وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما يقولون في دعائهم إياه . ومعناه : قولوا : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله ، أو أخطأنا في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } إن نسينا شيئا مما افترضته علينا ، أو أخطأنا شيئا مما حرّمته علينا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : { رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ تَجَاوَزَ لِهَذِهِ الأُمّةِ عَنْ نِسْيانِها وَما حَدّثَتْ بِهِ أنْفُسَهَا » .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال له جبريل صلى الله عليه وسلم فقل ذلك يا محمد .
إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن يؤاخذ الله عزّ وجلّ عباده بما نسوا أو أخطئوا فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك ؟ قيل : إن النسيان على وجهين : أحدهما : على وجه التضييع من العبد والتفريط¹ والاَخر : على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ، ووكل به وضعف عقله عن احتماله ، فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط ، فهو ترك منا لما أمر بفعله ، فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عزّ وجلّ في تركه مؤاخذته به ، وهو النسيان الذي عاقب الله عزّ وجل به آدم صلوات الله عليه ، فأخرجه من الجنة ، فقال في ذلك : { وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما } وهو النسيان الذي قال جلّ ثناؤه : { فالْيَوْمُ نَنْسَاهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } فرغبة العبد إلى الله عزّ وجلّ بقوله : { رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا ، كفرا بالله عزّ وجلّ ، فإن ذلك إذا كان كفرا بالله فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة ، لأن الله عزّ وجلّ قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به ، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله خطأ ، وإنما يكون مسألته المغفرة فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه ، وعن قراءته ، ومثل نسيانه صلاة أو صياما ، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما . وأما الذي العبد به غير مؤاخذ لعجز بنيته عن حفظه ، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته ، فإن ذلك من العبد غير معصية ، وهو به غير آثم ، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له ، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب ، وذلك مثل الأمر يغلب عليه ، وهو حريص على تذكره وحفظه ، كالرجل يحرص على حفظ القرآن بجدّ منه ، فيقرؤه ، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه ، ولكن بعجز بنيته عن حفظه وقلة احتمال عقله ، ذكر ما أودع قلبه منه ، وما أشبه ذلك من النسيان ، فإن ذلك مما لا يجوز مسألة الربّ مغفرته ، لأنه لا ذنب للعبد فيه ، فيغفر له باكتسابه . وكذلك للخطأ وجهان : أحدهما : من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة ، فذلك خطأ منه ، وهو به مأخوذ ، يقال منه : خَطىء فلان وأخطأ فيما أتى من الفعل ، وأثم إذا أتى ما يتأثم فيه وركبه ، ومنه قول الشاعر :
النّاس يَلْحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُ *** خَطِئُوا الصّوَابَ وَلا يُلامُ المُرْشَدُ
يعني : أخطأوا الصواب . وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه ، إلا ما كان من ذلك كفرا . والاَخر منهما : ما كان عنه على وجه الجهل به والظنّ منه ، بأن له فعله ، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلاً ، وهو يحسب أن الفجر لم يطلع ، أو يؤخر صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل ، فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد الذي وضع الله عزّ وجلّ عن عباده الإثم فيه ، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن يؤاخذه به ، وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى ، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة ، فأما على وجه مسألته الصفح ، فما لا وجه له عندهم وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قولوا : ربنا لا تحمل علينا إصرا : يعني بالإصر : العهد ، كما قال جل ثناؤه : { قال أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي } . وإنما عنى بقوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } : ولا تحمل علينا عهدا ، فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه ، { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها ، فلم يقوموا بها ، فعوجلوا بالعقوبة . فعلم الله عزّ وجلّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها مثل الذي حمل من قبلهم ، فيحلّ بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه مثل الذي أحلّ بمن قبلهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : لا تحمل عليها عهدا وميثاقا ، { كَمَا حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } يقول : كما غلظ على من قبلنا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن موسى بن قيس الحضرمي ، عن مجاهد في قوله : { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : عهدا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إصْرا } قال : عهدا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : { إصْرا } يقول : عهدا .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } والإصر : العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : عهدا لا نطيقه ، ولا نستطيع القيام به ، { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } اليهود والنصارى ، فلم يقوموا به فأهلكتهم .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { إصْرا } قال : المواثيق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : الإصر : العهد¹ { وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي } قال : عهدي .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكُمْ إصْرِي } قال : عهدي .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولا تحمل علينا ذنوبا وإثما كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم ، فتمسخنا قردة وخنازير كما مسختهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، عن عليّ بن هارون ، عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } قال : لا تمسخنا قردة وخنازير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفارة .
وقال آخرون : معنى الإصر بكسر الألف : الثقل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } يقول : التشديد الذي شددته على من قبلنا من أهل الكتاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته ، يعني مالكا ، عن قوله : { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا } قال : الإصر : الأمر الغليظ .
فأما الأصر بفتح الألف : فهو ما عطف الرجل على غيره من رحم أو قرابة ، يقال : أصرتني رحم بيني وبين فلان عليه ، بمعنى : عطفتني عليه ، وما يأصرني عليه : أي ما يعطفني عليه ، وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه أصرا : يعني به : عاطفة رحم تعطفني عليه .
( القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : وقولوا أيضا : ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به لثقل حمله علينا . وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأوّلونه . ) ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { رَبّنا ولا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } تشديد يشدّد به كما شدّد على من كان قبلكم .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَلا تُحَمّلْنَا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } قال : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنَا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بهِ } لا تفترض علينا من الدين ما لا طاقة لنا به ، فنعجز عنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لنا بِهِ } مسخ القردة والخنازير .
حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي ، قال : حدثنا محمد بن شعيب بن سابور ، عن سالم بن شابور في قوله : { رَبّنا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } قال : الغلمة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { رَبّنا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم .
وإنما قلنا : إن تأويل ذلك : ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به على نحو الذي قلنا في ذلك ، لأنه عقيب مسألة المؤمنين ربهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخْطَأُوا ، وأن لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ، فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم في الدين أولى مما خالف ذلك المعنى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا } .
وفي هذا أيضا من قول الله عزّ وجلّ خبرا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك الدلالة الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله : { وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } لأنهم عقبوا ذلك بقولهم : { وَاعْفُ عَنّا } مسألة منهم ربهم أن يعفو لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه ، فيصفح لهم عنه ، ولا يعاقبهم عليه ، وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاعْفُ عَنّا } قال : اعف عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به . وكذلك قوله : { وَاغْفِرْ لَنا } يعني : واستر علينا زلة إن أتيناها فيما بيننا وبينك ، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها . وقد دللنا على معنى المغفرة فيما مضى قبل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد { وَاغْفِرْ لَنا } إن انتهكنا شيئا مما نهيتنا عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَارْحَمْنَا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك ، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دون عمله ، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا ، فوفقنا لما يرضيك عنا . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَارْحَمْنَا } قال : يقول : لا ننال العمل بما أمرتنا به ، ولا نترك ما نهيتنا عنه إلا برحمتك ، قال : ولم ينج أحد إلا برحمتك .
القول في تأويل قوله تعالى : { أنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا على القَوْمِ الكافِرِينَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : { أنْتَ مَوْلاَنَا } أنت ولينا بنصرك دون من عاداك وكفر بك ، لأنا مؤمنون بك ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا ، فأنت وليّ من أطاعك ، وعدوّ من كفر بك فعصاك ، فانصرنا لأنا حزبك ، على القوم الكافرين الذي جحدوا وحدانيتك ، وعبدوا الاَلهة والأنداد دونك ، وأطاعوا في معصيتك الشيطان . والمولى في هذا الموضع المفعل من وَلَى فلان أمر فلان فهو يليه ولاية ، وهو وليه ومولاه ، وإنما صارت الياء من ولى ألفا لانفتاح اللام قبلها التي هي عين الاسم .
وقد ذكر أن الله عزّ وجلّ لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استجاب الله له في ذلك كله . ذكر الأخبار التي جاءت بذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا : حدثنا آدم ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : قال لما نزلت هذه الآية : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } قال : قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انتهى إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنَا } قال الله عز وجل : «قد غفرت لكم » ، فلما قرأ : { رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال الله عز وجل : «لا أحملكم » فلما قرأ : { وَاغْفِرْ لَنا } قال الله تبارك وتعالى : «قد غفرت لكم » ، فلما قرأ : { وَارْحَمْنا } قال الله عز وجل : «قد رحمتكم » ، فلما قرأ : { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } قال الله عز وجل : «قد نصرتكم عليهم » .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد قل : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأْنا } فقالها ، فقال جبريل : قد فعل ، وقال له جبريل : قل { رَبّنَا لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } فقالها ، فقال جبريل : قد فعل ، فقال : قل { رَبّنَا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } ، فقالها : فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : قد فعل ، فقال : قل { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ } . فقالها ، فقال جبريل : قد فعل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، قال : زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت : { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطأْنا } فقال له جبريل : فعل ذلك يا محمد ، { رَبّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ عَلى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبّنَا وَلا تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } فقال له جبريل في كل ذلك : فعل ذلك يا محمد .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن آدم بن سليمان مولى خالد ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : أنزل الله عز وجل : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } إلى قوله : { رَبّنَا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } ، فقرأ : { رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : فقال : قد فعلت ، { رَبّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فقال : قد فعلت ، { رَبّنا وَلاَ تُحَمّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } قال : قد فعلت ، { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } قال : قد فعلت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن مصعب بن ثابت ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : أنزل الله عز وجل : { رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال أبي : قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نَعَمْ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو حميد ، عن سفيان ، عن آدم بن سليمان ، عن سعيد بن جبير : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها لَهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنا لاَ تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : ويقول قد فعلت ، { رَبّنا وَلا تَحْمِل عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلِنا } قال : ويقول قد فعلت . فأعطيت هذه الأمة خواتيم سورة البقرة ، ولم تعطها الأمم قبلها .
حدثنا علي بن حرب الموصلي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله عز وجل { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبنا } قال : قد غفرت لكم ، { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } إلى قوله : { لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } قال : لا أؤاخذكم ، { رَبّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرا كَما حَمَلْتَهُ على الّذِينَ مِنْ قَبْلَنا } قال : لا أحمل عليكم ، إلى قوله : { وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا } إلى آخر السورة ، قال : قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ، ونصرتكم على القوم الكافرين .
وروي عن الضحاك بن مزاحم أن إجابة الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَبّنا لا تُؤَاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا } كان جبريل عليه السلام يقول له سلها ، فسألها نبيّ الله ربه جل ثناءه ، فأعطاه إياها ، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق : أن معاذا كان إذا فرغ من هذه السورة : { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } قال : آمين .