قوله تعالى : { ومن الناس } . يعني المشركين .
قوله تعالى : { من يتخذ من دون الله أنداداً } . أي أصناماً يعبدونها .
قوله تعالى : { يحبونهم كحب الله } . أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله ، وقال الزجاج : يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة .
قوله تعالى : { والذين آمنوا أشد حباً لله } . أي أثبت وأدوم على حبه من المشركين لأنهم لا يختارون على الله ما سواه . والمشركون إذا اتخذوا صنماً ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني . قال قتادة : إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء .
قال سعيد بن جبير : إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون ، لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام ، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار : إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) .
وقيل إنما قال : ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) لأن الله تعالى أحبهم أولاً ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال الله تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) .
قوله تعالى : { ولو يرى الذين ظلموا } . قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ولو ترى بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، وجواب لو هاهنا محذوف ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به ) الآية يعني لكان هذا القرآن ، فمن قرأ بالتاء معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم من شدة العذاب لرأيت أمراً عظيماً ، وقيل : معناه قل يا محمد : أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أي أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمراً فظيعاً ، ومن قرأ بالياء معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أو لو رأوا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم .
قوله تعالى : { إذ يرون } . قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها .
قوله تعالى : { العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العقاب } . أي بأن القوة لله جميعاً ، معناه لرأوا معناه وأيقنوا أن القوة لله جميعاً . وقرا أبو جعفر ويعقوب : إن القوة وإن الله بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله إذ يرون العذاب مع إضمار الجواب .
ثم قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها ، فإنه تعالى ، لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة ، وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين ، المزيلة لكل شك ، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي : نظراء ومثلاء ، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة ، والتعظيم والطاعة .
ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة ، وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله ، مشاق له ، أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته ، فليس له أدنى عذر في ذلك ، بل قد حقت عليه كلمة العذاب .
وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله ، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير ، وإنما يسوونهم به في العبادة ، فيعبدونهم ، ليقربوهم إليه ، وفي قوله : { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له ، تسمية مجردة ، ولفظا فارغا من المعنى ، كما قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق ، وغيره مخلوق ، والرب الرازق ومن عداه مرزوق ، والله هو الغني وأنتم الفقراء ، وهو الكامل من كل الوجوه ، والعبيد ناقصون من جميع الوجوه ، والله هو النافع الضار ، والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء ، فعلم علما يقينا ، بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا ، سواء كان ملكا أو نبيا ، أو صالحا ، صنما ، أو غير ذلك ، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة ، والذل التام ، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي : من أهل الأنداد لأندادهم ، لأنهم أخلصوا محبتهم له ، وهؤلاء أشركوا بها ، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة ، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه ، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا ، ومحبته عين شقاء العبد وفساده ، وتشتت أمره .
فلهذا توعدهم الله بقوله : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله ، وسعيهم فيما يضرهم .
{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي : يوم القيامة عيانا بأبصارهم ، { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي : لعلموا علما جازما ، أن القوة والقدرة لله كلها ، وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء ، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها ، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا ، وظنوا أن لها من الأمر شيئا ، وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه ، فخاب ظنهم ، وبطل سعيهم ، وحق عليهم شدة العذاب ، ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا ، ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع ، بل يحصل لهم الضرر منها ، من حيث ظنوا نفعها .
ومع هذا فإن هناك من لا ينظر ولا يتعقل ، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميم الوجود ، والنظر في وحدة الناموس الكوني العجيب :
( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) . .
من الناس من يتخذ من دون الله اندادا . . كانوا على عهد المخاطبين بهذا القرآن أحجارا وأشجارا ، أو نجوما وكواكب ، أو ملائكة وشياطين . . وهم في كل عهد من عهود الجاهلية أشياء أو أشخاص أو شارات أو اعتبارات . . وكلها شرك خفي أو ظاهر ، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله ، وإذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله . فكيف إذا نزع حب الله من قلبه وأفرد هذه الأنداد بالحب الذي لا يكون إلا لله ؟
إن المؤمنين لا يحبون شيئا حبهم لله . لا أنفسهم ولا سواهم . لا أشخاصا ولا اعتبارات ولا شارات ولا قيما من قيم هذه الأرض التي يجري وراءها الناس :
( والذين آمنوا أشد حبا لله ) . .
أشد حبا لله ، حبا مطلقا من كل موازنة ، ومن كل قيد . أشد حبا لله من كل حب يتجهون به إلى سواه .
والتعبير هنا بالحب تعبير جميل ، فوق أنه تعبير صادق . فالصلة بين المؤمن الحق وبين الله هي صلة الحب . صلة الوشيجة القلبية ، والتجاذب الروحي . صلة المودة والقربى . صلة الوجدان المشدود بعاطفة الحب المشرق الودود .
( ولو يرى الذين ظلموا - إذ يرون العذاب - أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب )
أولئك الذين اتخذوا من دون الله اندادا . فظلموا الحق ، وظلموا أنفسهم . . لو مدوا بأبصارهم إلى يوم يقفون بين يدي الله الواحد ! لو تطلعوا ببصائرهم إلى يوم يرون العذاب الذي ينتظر الظالمين ! لو يرون لرأوا ( أن القوة لله جميعا ) فلا شركاء ولا انداد . . ( وأن الله شديد العذاب ) .
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا [ له ]{[3037]} أندادًا ، أي : أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ، ولا ضد له ولا ندَّ له ، ولا شريك معه . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك " {[3038]} .
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } ولحبهم لله وتمام معرفتهم به ، وتوقيرهم وتوحيدهم له ، لا يشركون به شيئًا ، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه . ثم تَوَعَّدَ تعالى المشركين به ، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } .
قال بعضهم : تقدير الكلام : لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا ، أي : إن الحكم له{[3039]} وحده لا شريك له ، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } كما قال : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25 ، 26 ] يقول : لو علموا ما يعاينونه{[3040]} هنالك ، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم ، لانتهوا عما هم فيه من الضلال .