قوله تعالى : { وما لهم ألا يعذبهم الله } أي : وما يمنعهم من أن يعذبوا ، يريد بعد خروجك من بينهم .
قوله تعالى : { وهم يصدون عن المسجد الحرام } ، أي : يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت ، وقيل : أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وأراد بقوله { وما لهم أن لا يعذبهم الله } أي : بالسيف ، وقيل : أراد بالأول عذاب الدنيا ، وبهذه الآية عذاب الآخرة . وقال الحسن : الآية الأولى وهي قوله { وما كان الله ليعذبهم } منسوخة بقوله تعالى : { وما لهم أن لا يعذبهم الله } .
قوله تعالى : { وما كانوا أولياءه } ، قال الحسن : كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام ، فرد الله عليهم بقوله : { وما كانوا أولياءه } أي : أولياء البيت الحرام . قوله تعالى : { إن أولياؤه } أي : ليس أولياء البيت .
قوله تعالى : { إلا المتقون } ، يعني المؤمنين الذين يتقون الشرك .
ثم قال : وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي : أي شيء يمنعهم من عذاب اللّه ، وقد فعلوا ما يوجب ذلك ، وهو صد الناس عن المسجد الحرام ، خصوصا صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، الذين هم أولى به منهم ، ولهذا قال : وَمَا كَانُوا أي : المشركون أَوْلِيَاءَهُ يحتمل أن الضمير يعود إلى اللّه ، أي : أولياء اللّه . ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام ، أي : وما كانوا أولى به من غيرهم . إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وهم الذين آمنوا باللّه ورسوله ، وأفردوا اللّه بالتوحيد والعبادة ، وأخلصوا له الدين . وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا غيرهم أولى به .
( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام . وما كانوا أولياءه . إن أولياؤه إلا المتقون . ولكن أكثرهم لا يعلمون ) . .
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام . . فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع . إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه . إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه ! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف . إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله . ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم - عليه السلام - فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب ؛ إنما هي وراثة دين وعقيدة . والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله ؛ فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوَاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ وَلََكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْت فِيهِمْ : أي وأنت مقيم بين أظهرهم . قال : وأنزلت هذه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة . قال : ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، فاستغفر من بها من المسلمين ، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها : وَما كانَ الله مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرونَ . قال : ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم ، فعذّب الكفار . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزي ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ . قال : فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . قال : فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون ، يعني بمكة فلما خرجوا أنزل الله عليه : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَما كانُوا أوْلِياءَهُ قال : فأذن الله له في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك ، في قوله : وَما كانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وأنْت فِيهِمْ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني : من بها من المسلمين . وَمَا لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ يعني مكة ، وفيها الكفار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، في قول الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ يعني : أهل مكة . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وفيهم المؤمنون ، يستغفرون يغفر لمن فيهم من المسلمين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي وأبو داود الحفري ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : بقية من بقي من المسلمين منهم ، فلما خرجوا ، قال : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ .
قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن حصين ، عن أبي مالك : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ قال : أهل مكة .
وأخبرنا أبيّ ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : المؤمنون من أهل مكة . وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ قال : المشركون من أهل مكة .
قال : حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : المؤمنون يستغفرون بين ظهرانيهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول : الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة ، حتى أخرجك والذين آمنوا معك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : ابن عباس : لم يعذّب قرية حتى يخرج النبيّ منها والذين آمنوا معه ويلحقه بحيث أمر . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني المؤمنين . ثم أعاد إلى المشركين ، فقال : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ قال : يعني أهل مكة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كان الله ليعذّب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم يا محمد ، حتى أخرجك من بينهم . وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهؤلاء المشركون يقولون : يا ربّ غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول . قالوا : وقوله : وَما لهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ في الاَخرة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا عكرمة ، عن أبي زميل ، عن ابن عباس : إن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون : لبيك لا شريك لك لبيك ، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «قَدْ قَدْ » فيقولون : لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك ، ويقولون : غفرانك غفرانك . فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . فقال ابن عباس : كان فيهم أمانان : نبيّ الله والاستغفار ، قال : فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبقي الاستغفار . وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ قال : فهذا عذاب الاَخرة ، قال : وذاك عذاب الدنيا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه الله من بيننا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ ، فَأمْطِرْ عَلَيْنا . . . الاَية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا : غفرانك اللهمّ فأنزل الله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . . . إلى قوله : لا يَعْلَمُونَ .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كانوا يقولون يعني المشركين : والله إن الله لا يعذّبنا ونحن نستغفر ، ولا يعذّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها وذلك من قوله ورسول لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر له جهالتهم وغرّتهم واستفتاحهم على أنفسهم ، إذ قالوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ كما أمطرتها على قوم لوط ، وقال حين نعى عليهم سوء أعمالهم : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، أي بقولهم ، وإن كانوا يستغفرون كما قال : وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ من آمن الله وعبده ، أي أنت ومن تبعك .
حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا أبو بردة ، عن أبي موسى ، قال : إنه كان فيكم أمانان : قوله : ومَا كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : أما النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى ، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن عامر أبي الخطاب الثوريّ قال : سمعت أبا العلاء يقول : كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمَنتاه : فذهبت إحداهما ، وبقيت الأخرى : وَما كانَ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ . . . الاَية .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمد ، وما كان الله معذّب المشركين وهم يستغفرون ، أي : لو استغفروا . قالوا : ولم يكونوا يستغفرون فقال جلّ ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : إن القوم لم يكونوا يستغفرون ، ولو كانوا يستغفرون ما عذّبوا . وكان بعض أهل العلم يقول : هما أمانان أنزلهما الله ، فأما أحدهما فمضى نبيّ الله ، وأما الاَخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم ، الاستغفار والتوبة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال الله لرسوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول : ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون ، ولو استغفروا وأقرّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين ، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون ، وما لهم ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن محمد وعن المسجد الحرام
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَمَا كانَ اللهُ مُعَذّبهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون قال : يقول : لو استغفروا لم أعذّبهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وما كان الله ليعذّبهم وهم يسلمون . قالوا : واستغفارهم كان في هذا الموضع : إسلامهم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا سوّار بن عبد الله ، قال : حدثنا عبد الملك بن الصباح ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ . قال : سألوا العذاب ، فقال : لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم ، ولم يكن ليعذّبهم وهم يدخلون في الإسلام .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وأنْتَ فِيهمْ قال : بين أظهرهم . وقوله : وَهُمْ يَسْتَغْفِروُنَ قال : يسلمون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم بين أظهرهم وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : وهم يسلمون . وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا محمد بن عبيد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ قال : بين أظهرهم . وَما كان اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وهم يَسْتَغْفِرُونَ قال : دخولهم في الإسلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفيهم مَن قد سبق له من الله الدخول في الإسلام . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأنْتَ فِيهِمْ يقول : ما كان الله سبحانه يعذّب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم . ثم قال : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يقول : ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان ، وهو الاستغفار ، ثم قال : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ فعذّبهم يوم بدر بالسيف .
وقال آخرون : بل معناه : وما كان الله معذّبهم وهم يصلّون . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني : يصلون ، يعني بهذا أهل مكة .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا حسين الجعفيّ ، عن زائدة ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : يصلون .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ يعني : أهل مكة ، يقول : لم أكن لأعذّبكم وفيكم محمد . ثم قال : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني : يؤمنون ويصلون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال : وهم يصلون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كان الله ليعذّب المشركين وهم يستغفرون . قالوا : ثم نسخ ذلك بقوله : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحويّ ، عن عكرمة والحسن البصريّ ، قالا : قال في الأنفال : وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فنسختها الاَية التي تليها : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ . . . إلى قوله : فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فقوتلوا بمكة ، وأصابهم فيها الجوع والحصر .
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : تأويله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم لأني لا أهلك قرية وفيها نبيها . وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك ، بل هم مصرّون عليه ، فهم للعذاب مستحقون ، كما يقال : ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ ، يراد بذلك : لا أحسن إليك إذا أسأت إليّ ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك ، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ وكذلك ذلك . ثم قيل : وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ بمعنى : وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذّبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به ، وهم يصدّون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن القوم أعني مشركي مكة كانوا استعجلوا العذاب ، فقالوا : اللهمّ إن كان ما جاء به محمد هو الحقّ ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فقال الله لنبيه : ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم وما كنت لأعذّبهم لو استغفروا ، وكيف لا أعذّبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدّون عن المسجد الحرام فأعلمه جلّ ثناؤه أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل ، وأعلمهم حال نزوله بهم ، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم . ولا وجه لإيعادهم العذاب في الاَخرة ، وهم مستعجلوه في العاجل ، ولا شكّ أنهم في الاَخرة إلى العذاب صائرون ، بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر الدليل الواضح على أن القول في ذلك ما قلنا . وكذلك لا وجه لقول مَن وجّه قوله : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إلى أنه عني به المؤمنين ، وهو في سياق الخبر عنهم وعما الله فاعل بهم ، ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضّى ، وعلى أن ذلك به عنوا ، ولا خلاف في تأويله من أهله موجود . وكذلك أيضا لا وجه لقول من قال : ذلك منسوخ بقوله : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ . . . الاَية ، لأن قوله جلّ ثناؤه : وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ خبر ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي .
واختلف أهل العربية في وجه دخول «أن » في قوله : وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ فقال بعض نحويي البصرة : هي زائدة ههنا ، وقد عملت كما عملت «لا » وهي زائدة ، وجاء في الشعر :
لَوْ لَمْ تكُنْ غَطَفانُ لا ذُنُوبَ لَهَا ***إليّ لامَ ذَوُو أحْسابِها عُمَرَا
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية ، وقال : لم تدخل «أن » إلاّ لمعنى صحيح ، لأن معنى وَما لَهُمْ ما يمنعهم من أن يعذّبوا ، قال : فدخلت «أن » لهذا المعنى ، وأخرج ب «لا » ، ليعلم أنه بمعنى الجحد ، لأن المنع جحد . قال : و «لا » في البيت صحيح معناها ، لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرا . وقال : ألا ترى إلى قولك : ما زيد ليس قائما ، فقد أوجبت القيام ؟ قال : وكذلك «لا » في هذا البيت .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنّ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ، ولم يكونوا أولياء الله إنْ أوْلِيَاؤُهُ يقول : ما أولياء الله إلاّ المتقون ، يعني : الذين يتقون الله بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه . وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول : ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون ، بل يحسبون أنهم أولياء الله .
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ مَن كانوا وحيث كانوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ الذين يخرجون منه ، ويقيمون الصلاة عنده ، أي : أنت يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آمن بك . وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ .
وقوله عز وجل : { وما لهم ألا يعذبهم الله } توعد بعذاب الدنيا ، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن » في موضع نصب{[5317]} ، وقال الطبري : تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا ، والظاهر في قوله { وما } أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال ، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة ، ويصح أن تكون { ما } نافية ويكون القول إخباراً ، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون ، وقوله { وهم يصدون } على التأويلين جملة في موضع الحال ، و { يصدون } في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم ، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر : [ الوافر ]
صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***{[5318]}
وقد تجيء صد عير متعدٍّ كما أنشد أبو علي : [ البسيط ]
صَّدت ُخَلْيَدُة عنّا ما تكلّمُنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5319]}
والضمير في قوله { أولياؤه } عائد على الله عز وجل من قوله { يعذبهم الله } ، أو على المسجد الحرام ، كل ذلك جيد ، روي الأخير عن الحسن ، والضمير الآخر تابع للأول وقوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه ، وقوله { أكثرهم } ونحن نجد كلهم بهذه الصفة ، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب ، ومنه حكى سيبويه من قولهم : قل من يقول ذلك ، وهم يريدون لا يقوله أحد .
وإما أن يقول : إنه أراد بقوله { أكثرهم } أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوماً قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله { أكثرهم } وكذلك كانت حال مكة وأهلها ، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل{[5320]} وغيرهما ، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن : إن قوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } ، ناسخ لقوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } .
عطف على قوله : { وما كان الله ليعذبهم وأنتَ فيهم } [ الأنفال : 33 ] وهو ارتقاء في بيان أنهم أحقاء بتعذيب الله إياهم ، بياناً بالصراحة .
و { ما } استفهامية ، والاستفهام إنكاري ، وهي في محل المبتدأ و { لهم } خبره ، واللام للاستحقاق والتقدير ما الذي ثبت لهم لأن ينتفي عنهم عذاب الله فكلمة ( ما ) اسم استفهام إنكاري ، والمعنى : لم يثبت لهم شيء .
و { أنْ لا يعذبهم } مجرور بلام جر محذوفة بعد ( إن ) على الشائِع من حذف الجر مع ( أنْ ) والتقدير : أي شيء كان لهم في عدم تعذيبهم أي لم يكن شيء في عدم تعذيبهم أو مِن عدم تعذيبهم أي أنهم لا شيء يمنعهم من العذاب ، والمقصود الكناية عن استحقاقهم العذاب وحلوله بهم ، أوْ توقع حلوله بهم ، تقول العرب : مَالك أنْ لا تُكْرِمَ ، أي : أنت حقيق بأن تكَرم ولا يمنعك من الإكرام شيء ، فاللفظ نفي لمانع الفعل ، والمقصود أن الفعل توفرت أسبابه ثم انتفت موانعه ، فلم يبق ما يحول بينك وبينه .
وقد يتركون ( أن ) ويقولون : مالك لا تفعل فتكون الجملة المنفية بعد الاستفهام في موضع الحال وتكون تلك الحال هي مُثير الاستفهام الإنكاري ، وهذا هو المعنى الجاري على الاستعمال .
وجوزوا أن تكون { ما } في الآية نافية فيكون { أن لا يعذبهم } اسمها و { لهم } خبرها والتقدير وما عدم التعذيب كائناً لهم .
وجملة : { وهم يصدون عن المسجد الحرام } في موضع الحال على التقديرين .
والصد الصرف ، ومفعول { يصدون } محذوف دل عليه السياق ، أي يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام بقرينة قوله : { إنْ أولياؤه إلاّ المتقون } فكان الصد عن المسجد الحرام جريمة عظيمة يستحق فاعلوه عذاب الدنيا قبيل عذاب الآخرة ، لأنه يؤول إلى الصد عن التوحيد لأن ذلك المسجد بنَاه مُؤسسه ليكون علَماً على توحيد الله ومأوى للموحدين ، فصدهم المسلمين عنه ، لأنهم آمنوا بإله واحد ، صرف له عن كونه علَماً على التوحيد ، إذ صار الموحدون مَعدودين غيرَ أهل لزيادته ، فقد جعلوا مضادين له ، فلزم أن يكون ذلك المسجد مضاداً للتوحيد وأهلِه ، ولذلك عقب بقوله : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتقون } وهذا كقوله : { ومن يُرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ } [ الحج : 25 ] ، والظلم الشرك لقوله : { إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
وهذا الصد الذي ذكرتْه الآية : هو عزمهم على صدّ المسلمين المهاجرين عن أن يحجوا ويعْتمروا ، ولعلهم أعلنوا بذلك بحيث كان المسلمون لا يدخلون مكة . وفي « الكشاف » : « كانوا يقولون نحن وُلاَة البيت والحرم فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء » .
قلت : ويشهد لذلك قضية سعد بن معاذ مع أبي جهل ففي « صحيح البخاري » عن عبد الله بن مسعود ، أنه حدث عن سعد بن معاذ : « أنه كان صديقاً لأمية بن خلف ، وكان أمية إذا مرَّ بالمدينة نزل على سعد ، وكان سعد إذا مرَّ بمكة نزل على أمية ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انطلق سعد معتمراً فنزل على أمية بمكة فقال لأمية انظُرْ لي ساعة خلوة لعليَ أطوف بالبيت فخرج قريباً من نصف النهار ، فلقيهما أبو جهل ، فقال : يا أبا صفوان مَن ( كنية أمية بن خلف ) هذا معك فقال : هذا سعد ، فقال له أبو جهل : ألا أراك تطوف باليبت آمناً وقد آوَيْتُم الصباة أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعتَ إلى أهلك سالماً » الحديث .
وقد أفادت الآية : أنهم استحقوا العذاب فنبهت على أن ما أصابهم يوم بدر ، من القتل والأسر ، هو من العذاب ، ولكن الله قد رحم هذه الأمة تكرمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤاخذ عامتهم بظلم الخاصة بل سلط على كل أحد من العذاب ما يُجازي كفره وظُلمه وإذايته النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، ولذلك عذب بالقتل والأسر والإهانة نفراً عُرفوا بالغلو في كفرهم وأذاهم ، مثل النضر بن الحارث ، وطعيمة بن عدي ، وعُقبة بن أبي مُعَيط ، وأبي جهل ، وعذب بالخوف والجوع من كانوا دون هؤلاء كفراً واستبقاهم وأمهلهم فكان عاقبة أمرهم أن أسلموا بقرب أو بُعد وهؤلاء مثل أبي سفيان ، وحكيم بن حزام ، وخالد بن الوليد ، فكان جزاؤه إياهم على حسب علمه ، وحقق بذلك رجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : " لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده " وجملة : { وما كانوا أولياءه } في موضع الحال من ضمير { يصُدون } والمقصود من هذه الحال إظهار اعتدائهم في صدهم عن المسجد الحرام ، فإن مَن صدّ عما هو له من الخير كان ظالماً ، ومَن صدّ عما ليس من حقه كان أشدّ ظلماً ، ولذلك قال تعالى : { ومَن أظْلَم ممن منعَ مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه } [ البقرة : 114 ] أي لا أظلمَ منه أحد لأنه منع شيئاً عن مستحقه .
وجملة : { إن أولياؤه إلاّ المتقون } تعيين لأوليائه الحق ، وتقرير لمضمون { وما كانوا أولياءه } مع زيادة ما أفاده القصر من تعيين أوليائِه ، فهي بمنزلة الدليل على نفي ولاية المشركين ، ولذلك فصلت .
وإنما لم يُكتف بجملة القصر مع اقتضائه أن غير المتقين ليسوا أولياء المسجد الحرام ، لقصد التصريح بظلم المشركين في صدهم المسلمين عن المسجد الحرام بأنهم لا ولاية لهم عليه ، فكانت جملة : { وما كانوا أولياءه } أشد تعلقاً بجملة : { وهم يصدون عن المسجد الحرام } من جملة : { إِن أولياؤه إلاّ المتقون } وكانت جملة : { إن أولياءه إلا المتقون } كالدليل ، فانتظم الاستدلال أبدع انتظام ، ولما في إناطة ولاية المسجد الحرام بالمتقين من الإشارة إلى أن المشركين الذين سلبت عنهم ولايته ليسوا من المتقين ، فهو مذمة لهم وتحقيق للنفي بحجة .
والاستدراك الذي أفاده { لكن } ناشىء عن المقدمتين اللتين تضمنتهما جملتا { وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلاّ المتقون } لأن ذلك يثير فرض سائل يسأل عن الموجب الذي أقحمهم في الصد عننِ المسجد الحرام ، ويحسبون أنهم حقيقون بولايته لما تقدم عن « الكشاف » ، فحذف مفعول { يعلمون } لدلالة الاستدراك عليه لتعلق الاستدراك بقوله : { وما كانوا أولياءه } .
وإنما نفَى العلم عن أكثرهم دون أن يقال ولكنهم لا يعلمون فاقتضى أن منهم من يعلم أنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام ، وهم من أيقنوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم واستفاقوا من غفلتهم القديمة ، ولكن حملهم على المشايعة للصادين عن المسجد الحرام ، العنادُ وطلبُ الرئاسة ، وموافقة الدهماء على ضلالهم ، وهؤلاء هم عقلاء أهل مكة ومن تهيأ للإيمان منهم مثل العباسسِ وعَقيل بن أبي طالب وأبي سفيان بن حرب وحَكيم بن حزم وخالد بن الوليد ، ومن استبقاهم الله للإسلام فكانوا من نصرائه من بعد نزول هذه الآية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 33]
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: تأويله:"وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْت فِيهِمْ": أي وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها: "وَما كانَ الله مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرونَ". قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفار... قال: ابن عباس: لم يعذّب قرية حتى يخرج النبيّ منها والذين آمنوا معه ويلحقه بحيث أمر...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذّب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم يا محمد، حتى أخرجك من بينهم. "وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ "وهؤلاء المشركون يقولون: يا ربّ غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: وَما لهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ في الاَخرة...
[عن] ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله والاستغفار، قال: فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار. "وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ "قال: فهذا عذاب الاَخرة، قال: وذاك عذاب الدنيا...
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمد، وما كان الله معذّب المشركين "وهم يستغفرون"، أي: لو استغفروا. قالوا: ولم يكونوا يستغفرون فقال جلّ ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: "وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ"... وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: تأويله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم لأني لا أهلك قرية وفيها نبيها. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرّون عليه، فهم للعذاب مستحقون، كما يقال: ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ، يراد بذلك: لا أحسن إليك إذا أسأت إليّ ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ وكذلك ذلك. ثم قيل: "وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ" بمعنى: وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذّبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، وهم يصدّون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن القوم -أعني مشركي مكة- كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: اللهمّ إن كان ما جاء به محمد هو الحقّ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فقال الله لنبيه: ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم وما كنت لأعذّبهم لو استغفروا، وكيف لا أعذّبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدّون عن المسجد الحرام فأعلمه جلّ ثناؤه أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل، وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذاب في الآخرة، وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شكّ أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون، بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر الدليل الواضح على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول مَن وجّه قوله: "وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" إلى أنه عني به المؤمنين، وهو في سياق الخبر عنهم وعما الله فاعل بهم، ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضّى، وعلى أن ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله من أهله موجود. وكذلك أيضا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ..." لأن قوله جلّ ثناؤه: "وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" خبر، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.
"وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنّ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء الله "إنْ أوْلِيَاؤُهُ" يقول: ما أولياء الله إلاّ المتقون، يعني: الذين يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. "وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي ما لهم من عذر في صرف العذاب عن أنفسهم؛ إذ قد كان منهم من أنواع ما كان، لو كان واحد من ذلك لكانوا يستوجبون العذاب، من تكذيبهم الرسول والآيات التي أرسلها إليهم وصدهم الناس عن المسجد الحرام، وهو مكان العبادة، وسؤالهم بقولهم: (فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) [الأنفال: 32] أي ليس لهم عذر في صرف العذاب عن أنفسهم...
وقوله تعالى: (وهم يصدون عن المسجد الحرام) أي عن الصلاة فيه...
وقوله تعالى: (وما كانوا أولياءه) أي لم يكونوا ليصرفوا العذاب عن أنفسهم بالولاءة، وهو صلة قوله: (وما لهم ألا يعذبهم) وهم ليسوا بأوليائه. ويحتمل قوله: (وما كانوا أولياءه) أنهم كانوا يصدون الناس عن المسجد الحرام لما ادعوا أنهم أولياؤه، وأنهم أولى بالمسجد الحرام. ثم أخبر أنهم ليسوا أولياءه، إنما أولياؤه المتقون الذين اتقوا لما أتاهم، وأولياؤه الموحدون لا الذين أشركوا غيره في عبادته وألوهيته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله} وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعني: لا حظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء {مَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون}...إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم؛ ولهذا لما خرج من بين أظهرهم، أوقع الله بهم بأسه يوم بدر، فقُتل صناديدهم وأسرت سُراتهم. وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب، التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد.
.. وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي ببكة، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة عنده والطواف به؛ ولهذا قال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} أي: هم ليسوا أهل المسجد الحرام، وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 17، 18]، وقال تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ]} الآية [البقرة: 217]..
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا لَهُمْ أَن لا يُعَذّبْهُمُ الله} بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم، أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالُهم ذلك، ومِنْ صدّهم عنه إلجاءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وما كانوا أولياءه} أي مستحقين الولاية عليه لشركهم ومفاسدهم فيه كطوافهم فيه عراة الأجسام رجالا ونساء، ولما أجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم بأن يجعل للناس أئمة من ذريته كما جعله إماما لهم أجابه الله تعالى بأن عهده بالإمامة لا ينال الظالمين، وأي ظلم أعظم شناعة وفسادا من الشرك؟ {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فقال تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون} للشرك وسائر الفساد والظلم وهم المسلمون الصادقون وقد وجدوا. وهذا غاية التأكيد. فإنه بعد أن نفى ولاية المشركين عن بيت الله تعالى نفى كل ولاية على الإطلاق واستثنى منها ولاية المتقين من المسلمين وهم عدولهم وخيارهم، لا من لا فضل لهم في أنفسهم، وإنما يدعون حق الولاية بأنسابهم...
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} أنه لا حق لهم في الولاية على هذا البيت ولاسيما بعد ظهور الإسلام ووجود أولياء الله الموحدين الصالحين، وكانوا يدعون هذا الحق بنسبهم الإبراهيمي وقد أبطله الظلم، وبقوتهم في قومهم وإن كانت إلى ضعف، أو لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله عز وجل، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين فهم الآمنون من عذابه، بمقتضى عدله في خلقه، والحقيقون بالولاية على بيته، على ما أعد لهم من الثواب والنعيم بفضله، كما صرحت به آياته في كتابه. وقد أسند هذا الجهل إلى أكثرهم إذ كان فيهم من لا يجهل سوء حالهم في جاهليتهم، وضلالهم في شركهم، وكونه لا يرضي الله تعالى، فإن امتنع رؤساؤهم من الإسلام كبرا وعنادا، فقد كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة، ويتربص الفرصة لإظهاره بالاستعداد للهجرة، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وللتفاوت في الاستعداد كان يظهر المرة بعد المرة. والناس يطلقون الحكم في مثل الحال التي كانوا عليها على الجميع ويقولون إن القليل لا حكم له إن وجد فكيف ونحن لا نعلم بوجوده. ولكن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، ولا يقول إلا الحق، ومثل هذا الحكم على أكثر الأمم والشعوب أو استثناء القليل منهم بعد إطلاق الحكم عليهم، هو من دقائق القرآن في تحرير الحق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام.. فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع. إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه. إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف. إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله. ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم -عليه السلام- فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب؛ إنما هي وراثة دين وعقيدة. والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله؛ فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد أفادت الآية: أنهم استحقوا العذاب فنبهت على أن ما أصابهم يوم بدر، من القتل والأسر، هو من العذاب، ولكن الله قد رحم هذه الأمة تكرمة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤاخذ عامتهم بظلم الخاصة بل سلط على كل أحد من العذاب ما يُجازي كفره وظُلمه وإذايته النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولذلك عذب بالقتل والأسر والإهانة نفراً عُرفوا بالغلو في كفرهم وأذاهم، مثل النضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي، وعُقبة بن أبي مُعَيط، وأبي جهل، وعذب بالخوف والجوع من كانوا دون هؤلاء كفراً واستبقاهم وأمهلهم فكان عاقبة أمرهم أن أسلموا بقرب أو بُعد وهؤلاء مثل أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وخالد بن الوليد، فكان جزاؤه إياهم على حسب علمه، وحقق بذلك رجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:"لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده"...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
.ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام، إلاّ أنّه يشمل جميع المراكز الدينية والمساجد، فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم وأكثرهم اهتماما بالمحافظة على مراكز العبادة، ليجعلوها منطلقاً للتعليم وبثّ الوعي والإِيقاظ؛ إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنةٌ من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين... الذين يسعون إِلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إِلى محال تجارية، أو جعلها مكاناً لتخدير الأفكار، والابتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد، لكانت المجتمعات الإِسلامية اليوم لها وجه آخر وصورةٌ مشرقةٌ!...