قوله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } . سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها ، فلست على ملته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان ذلك حلالاً لإبراهيم عليه السلام ، فقالوا :كل ما نحرمه اليوم كان ذلك حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } يريد : سوى الميتة والدم ، فإنه لم يكن حلالاً قط . { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } وهو يعقوب عليه السلام { من قبل أن تنزل التوراة } يعني ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم ، بل كان الكل حلالاً له ولبني إسرائيل ، وإنما حرمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة ، يعني ليست في التوراة حرمتها . واختلفوا في الطعام الذي حرمه يعقوب على نفسه وفي سببه ، قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي : كان الطعام لحمان الإبل وألبانها وروي أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه ، فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ، فحرمهما . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك : هي العروق . وكان السبب في ذلك انه اشتكى عرق النسا ، وكان أصل وجعه ، فيما روى جويبر عن الضحاك أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثني عشر ولداً ، وأتى من بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم ، فتلقاه ملك من الملائكة ، فقال : يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع ؟ نصارعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، فغمزه الملك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك ، ثم قال له : أما إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولدك ، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجاً ، فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي ما قال له الملك ، فأتاه الملك وقال : إنما غمزتك للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك . وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو ، وكان رجلاً بطشاً قوياً ، فلقيه ملك فظن يعقوب انه لص فعالجه أن يصرعه ، فغمز الملك فخذ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه ، فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاء وشدة ، وكان لا ينام بالليل من الوجع ، ويبيت وله زقاء ، أي : صياح ، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ، ً ولا طعاماً فيه عرق ، فحرمه على نفسه ، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق ، يخرجونها من اللحم .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : لما أصاب يعقوب عرق النسا وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل ، فحرمها يعقوب على نفسه . وقال الحسن : حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور ، تعبداً لله تعالى فسأل ربه أن يجيز له ذلك ، فحرمه الله على ولده ، ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة ، فقال السدي : حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها ، وقال عطية : إنما كان محرماً عليهم بتحريم إسرائيل فإنه كان قد قال : إن عافاني الله لا آكله ولد لي ، ولم يكن محرماً عليهم في التوراة ، وقال الكلبي : لم يحرمه الله عليهم في التوراة ، وإنما حرم عليهم بعد التوراة بظلمهم ، كما قال الله تعالى( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) وقال الله تعالى( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) إلى أن قال( ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) . وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيماً حرم الله عليهم طعاماً طيباً ، أو صب عليهم رجزاً وهو الموت . وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك حراماً عليهم ولا حرمه الله في التوراة ، وإنما حرموه على أنفسهم إتباعا لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله ، فكذبهم الله عز وجل .
قوله تعالى : { قل } . يا محمد .
قوله تعالى : { فاتوا بالتوراة فاتلوها } . حتى يتبين لكم أنه كما قلت .
قوله تعالى : { إن كنتم صادقين } . فلم يأتوا . فقال الله : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } .
{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز ، فكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، لأنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام الإنصاف في المجادلة إلزامهم بما في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الأطعمة محللة لبني إسرائيل { إلا ما حرم إسرائيل } وهو يعقوب عليه السلام { على نفسه } أي : من غير تحريم من الله تعالى ، بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الأطعمة عليه ، فحرم فيما يذكرون لحوم الإبل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة ، ثم نزل في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلالا لهم طيبا ، كما قال تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة ، فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد ، فلهذا قال تعالى { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } .
يتألف هذا الجزء من بقية سورة آل عمران ، ومن أوائل سورة النساء ، إلى قوله تعالى : ( والمحصنات من النساء . . . ) .
وهذه البقية من سورة آل عمران تتألف من أربعة مقاطع رئيسية ، تكمل خط سير السورة ، الذي أفضنا في الحديث عنه في مطلعها - في الجزء الثالث - بما لا مجال لإعادته هنا ، فيرجع إليه هناك . .
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - قل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين . فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ) .
لقد كان اليهود يتصيدون كل حجة ، وكل شبهة ، وكل حيلة ، لينفذوا منها إلى الطعن في صحة الرسالة المحمدية ، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطراب في العقول والقلوب . . فلما قال القرآن : إنه مصدق لما في التوراة برزوا يقولون : فما بال القرآن يحلل من الأطعمة ما حرم على بني إسرائيل ؟ وتذكر الروايات أنهم ذكروا بالذات لحوم الإبل وألبانها . . وهي محرمة على بني إسرائيل . وهناك محرمات أخرى كذلك أحلها الله للمسلمين .
وهنا يردهم القرآن إلى الحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها للتشكيك في صحة ما جاء في القرآن من أنه مصدق للتوراة ، وأنه مع هذا أحل للمسلمين بعض ما كان محرما على بني إسرائيل . . هذه الحقيقة هي أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل - إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة - وإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - وتقول الروايات إنه مرض مرضا شديدا ، فنذر لله لئن عافاه ليمتنعن - تطوعا - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب شيء إلى نفسه . فقبل الله منه نذره . وجرت سنة بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حرم . . كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعم أخرى عقوبة لهم على معصيات ارتكبوها . وأشير إلى هذه المحرمات في آية " الأنعام " : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) . .
وكانت قبل هذا التحريم حلالا لبني إسرائيل .
يردهم الله سبحانه إلى هذه الحقيقة ، ليبين أن الأصل في هذه المطاعم هو الحل ، وأنها إنما حرمت عليهم لملابسات خاصة بهم . فإذا أحلها للمسلمين فهذا هو الأصل الذي لا يثير الاعتراض ، ولا الشك في صحة هذا القرآن ، وهذه الشريعة الإلهية الأخيرة .
ويتحداهم أن يرجعوا إلى التوراة ، وأن يأتوا بها ليقرأوها ، وسيجدون فيها أن أسباب التحريم خاصة بهم ، وليست عامة .
{ كُلّ الطّعَامِ كَانَ حِلاّ لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ إِلاّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىَ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه لم يكن حرّم على بني إسرائيل وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن شيئا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة ، بل كان ذلك كله لهم حلالاً ، إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه ، فإن ولده حرّموه استنانا بأبيهم يعقوب ، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل ولا على لسان رسول له إليهم من قبل نزول التوراة .
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم ، هل نزل في التوراة أم لا ؟ فقال بعضهم : لما أنزل الله عزّ وجلّ التوراة ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرّمونه قبل نزولها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قوله : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } قالت اليهود : إنما نحرّم ما حرّم إسرائيل على نفسه ، وإنما حرّم إسرائيل العروق ، كان يأخذه عرق النّسا ، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار ، فحلف لئن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقا أبدا ، فحرّمه الله عليهم ثم قال : { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } : ما حرّم هذا عليكم غيري ببغيكم ، فذلك قوله : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هادُوا حَرّمْنا عَلَيْهِمْ طَيّباتٍ أُحِلّتُ لَهُمْ } .
فتأويل الاَية على هذا القول : كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإن الله حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرّمه على نفسه في التوراة ، ببغيهم على أنفسهم ، وظلمهم لها . قل يا محمد : فأتوا أيها اليهود إن أنكرتم ذلك بالتوراة ، فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوارة ، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه .
وقال آخرون : ما كان شيء من ذلك عليهم حراما ، لا حرّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله . فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه ، فقال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد : إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة فاتلوها ، حتى ننظر هل ذلك فيها ، أم لا ؟ ليتبين كذبهم لمن يجهل أمرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَئِيلُ على نَفْسِهِ } إسرائيل : هو يعقوب ، أخذه عرق النساء ، فكان لا يثبت الليل من وجعه ، وكان لا يؤذيه بالنهار . فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرْقا أبدا ، وذلك قبل نزول التوراة على موسى . فسأل نبي الله صلى الله عليه وسلم اليهود ما هذا الذي حرّم إسرائيل على نفسه ؟ فقالوا : نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } . . . إلى قوله : { فأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } وكذبوا وافتروا ، لم تنزل التوراة بذلك .
وتأويل الاَية على هذا القول : كل الطعام كان حِلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، بمعنى : لكن إسرائيل حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك . وكأن الضحاك وجه قوله : { إلاّ ما حرَمّ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } إلى الاستثناء الذي يُسمّيه النحويون : الاستثناء المنقطع .
وقال آخرون تأويل ذلك : كل الطعاك كان حِلاّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، فإن ذلك حرام على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده ، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } فإنه حرّم على نفسه العروق ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا ، فكان لا ينام الليل ، فقال : والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ! وليس مكتوبا في التوراة . وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرا من أهل الكتاب ، فقال «ما شأن هذا حراما ؟ » فقالوا : هو حرام علينا من قبل الكتاب . فقال الله عز وجل : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ } . . . إلى : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : أخذه يعني إسرائيل عِرْقُ النّسَا ، فكان لا يثبت بالليل من شدّة الوجع ، وكان لا يؤذيه بالنهار ، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرْقا أبدا ، وذلك قبل أن تنزل التوارة ، فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل على نفسه . قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } وكذبوا ، ليس في التوراة .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوارة ، إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه ، فإن كان حراما عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم ، من غير أن يحرّمه الله عليهم في تنزيل ولا بوحي قبل التوراة ، حتى نزلت التوراة ، فحرم الله عليهم فيها ما شاء ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ . وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل ، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { كُلّ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ مَا حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنَزّلَ التّوْرَاةُ } وإسرائيل : هو يعقوب . { قُلْ فأْتُوا بالتّوْرَاة فاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ } يقول : كل الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة . إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما أنزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء . وأحلّ لهم ما شاء .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه .
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرّمه على نفسه ، فقال بعضهم : كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العروق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن يوسف بن ماهك ، قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس ، فقال : إنه جعل امرأته عليه حراما . قال : ليست عليك بحرام قال : فقال الأعرابي : ولم والله يقول في كتابه : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } ؟ قال : فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما كان إسرائيل حرّم على نفسه ؟ قال : ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إسرائيل عرضت له الأنساء فأضنته ، فجعل لله عليه إن شفاه الله منها لا يطعمِ عِرْقا . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، قال : سمعت يوسف بن ماهك يحدّث : أن أعرابيا أتى ابن عباس ، فذكر رجلاً حرّم امرأته ، فقال : إنها ليست بحرام . فقال الأعرابي : أرأيت قول الله عزّ وجلّ : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } ؟ فقال : إن إسرائيل كان به عرق النسا ، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العروق من اللحم ، وإنها ليست عليك بحرام .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز في قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا ، فجعل الله عليه أو أقسم ، أو قال لا يأكله من الدواب . قال : والعروق كلها تبع لذلك العرق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن الذي حرّم إسرائيل على نفسه ، أن الأنساء أخذته ذات ليلة ، فأسهرته ، فتألى إن الله شفاه لا يطعم نسا أبدا فتتبعت بنوه العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة بنحوه ، وزاد فيه : قال : فتألّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقا أبدا ، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق ، فيخرجونها من اللحم ، وكان الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة العروق .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : اشتكى إسرائيل عرق النسا ، فقال : إن الله شفاني لأحرمنّ العروق ، فحرّمها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان إسرائيل أخذه عرق النّسا ، فكان يبيت وله زُقاء ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق . فأنزل الله عزّ وجلّ : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } . قال سفيان : له زقاء : يعني صياح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : كان يشتكي عرق النسا ، فحرّم العروق .
حدثني المثني ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنْزّلَ التّوْرَاةُ } قال : كان إسرائيل يأخذه عرق النسا ، فكان يبيت وله زُقاء ، فحرّم على نفسه أن يأكل عرقا .
وقال آخرون : بل الذي كان إسرائيل حرّم على نفسه : لُحوم والإبل وألبانُها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قال : سمعنا أنه اشتكى شكوى ، فقالوا : إنه عرق النسا ، فقال : ربّ إن أحبّ الطعام إليّ لحوم الإبل وألبانها ، فإن شفيتني فإني أحرّمها علي ! قال ابن جريج : وقال عطاء بن أبي رباح : لحوم الإبل وألبانها حرّم إسرائيل .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ } قال : كان إسرائيل حرّم على نفسه لحوم الإبل ، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل ، وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة ، فقال الله : { فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } فقال : لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه إلا لحم الإبل .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا حبيب بن أبي ثابت ، قال : حدثنا سعيد ، عن ابن عباس : أن إسرائيل أخذه عرق النسا ، فكان يبيت بالليل له زُقاء يعني صياح قال : فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله يعني لحوم الإبل قال : فحرّمه اليهود . وتلا هذه الاَية : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ تُنْزّلَ التّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } أي : إن هذا قبل التوراة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : حرّم العروق ولحوم الإبل . قال : كان به عرق النّسا ، فأكل من لحومها فبات بليلة يزقو ، فحلف أن لا يأكله أبدا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : { إلاّ ما حَرّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } قال : حرّم لحوم الأنعام .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول ابن عباس الذي رواه الأعمش ، عن حبيب ، عن سعيد ، عنه ، أن ذلك العروق ولحوم الإبل ، لأن اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها ، كما كان عليه من ذلك أوائلها وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر ، وهو ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس : أن عصابة من اليهود حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم أخبرنا أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنْشُدُكُمْ بالّذي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أنّ إسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضا شَدِيدا ، فَطالَ سَقَمُهُ مِنْهُ ، فَنَذَرَ للّهِ نَذْرا لَئِنْ عافاهُ اللّهُ مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرّمَنّ أحبّ الطّعامِ وَالشّرابِ إلَيْهِ ، وكانَ أحَبّ الطّعامِ إلَيْهِ لحْمَانُ الإبِلِ ، وأحَبّ الشّرَابِ إلَيْهِ ألْبانُها ؟ » فقالوا : اللهم نعم .
وأما قوله : { قُلْ فَأْتُوا بالتّورَاةِ فاتْلُوهَا إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } فإن معناه : قل يا محمد للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروق ولحوم الإبل وألبانها ، ائتوا بالتوراة فاتلوها ! يقول : قل لهم : جيئوا بالتوراة فاتلوها ، حتى يتبين لمن خفي عليه كذبهم وقيلهم الباطل على الله من أمرهم ، أن ذلك ليس مما أنزلته في التوراة { إنْ كُنْتُمْ صَادِقينِ } ، يقول : إن كنتم محقين في دعواكم أن الله أنزل تحريم ذلك في التوراة ، فأتونا بها ، فاتلوا تحريم ذلك علينا منها . وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم ، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدا على صحته ، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ، وجعل إعلامه إياه ذلك حجة له عليهم¹ لأن ذلك إذا كان يخفى على كثير من أهل ملّتهم ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميّ من غير ملتهم ، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده ، كان أحرى أن لا يعلمه . فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفي علومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم ، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبيّ أو رسول ، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه .
قوله تعالى : { كل الطعام } الآية ، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب ، وذهب كثير من المفسرين إلى أن معنى الآية : الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من الأشياء : إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة ، فأكذبهم الله بهذه الآية ، وأخبر أن جميع الطعام كان حلاً لهم ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة ، ولم يرد به ولده ، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم ، وليس من التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها ، وإلى هذا تنحو ألفاظ السدي ، وقال : إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه ، قال : فذلك قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }{[3324]} .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه ، يدل على ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع ، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية : الرد على قوم من اليهود قالوا : إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراماً في ملة أبينا إبراهيم ، فأكذبهم الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالاً لهم قبل التوراة { إلا ما حرم إسرائيل } في خاصته ، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه ، وبقيت هذه الزوائد في حيز افترائهم وكذبهم ، وإلى هذا تنحو ألفاظ بن عباس رضي الله عنهما وترجم الطبري في تفسير هذه الآية بتراجم ، وأدخل تحتها أقوالاً توافق تراجمه ، وحمل ألفاظ الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى : كل الطعام كان حلاً لهم قبل نزول التوراة وبعد نزولها .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه ، وحمل الطبري قول الضحاك إن معناه : لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني إسرائيل في توراة ولا غيرها .
قال الفقيه الإمام : وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى : { حرمنا عليهم }{[3325]} وقوله صلى الله عليه وسلم : ( حرمت عليهم الشحوم ) {[3326]} إلى غير ذلك من الشواهد ، وقوله تعالى : { حِلاًّ } معناه : حلالاً ، و { إسرائيل } هو يعقوب ، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد ، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه{[3327]} ، فعاتبه الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب ، فقيل : إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : إن هذه تحريم تقرب وزهد ، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس ، واخلتف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على نفسه فقال يوسف بن ماهك{[3328]} : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له : إنه جعل امرأته عليه حراماً ، فقاله ابن عباس : إنها ليست عليك بحرام ، فقال الأعرابي : ولم ؟ والله تعالى يقول في كتابه { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } فضحك ابن عباس وقال : وما يدريك ما حرم إسرائيل ؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم ، فقال : إن إسرائيل عرضت له الأنساء{[3329]} فأضنته فجعل لله إن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقاً ، قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم ، وقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضاً : إن الذي حرم إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً لله تعالى إن شفي ، وقيل : هو وجع عرق النسا ، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل قالوا له : يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه ؟ فقال لهم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه منه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم{[3330]} ، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب عليه السلام حرم الإبل وألبانها ، وهو يحبها ، تقرباً إلى الله بذلك ، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب ، وهذا هو الزهد في الدنيا ، وإليه نحا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله : إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر{[3331]} ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد{[3332]} ، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى محاسنها فقال : موعدك الجنة إن شاء الله ، وحرم يعقوب عليه السلام أيضاً العروق ، لكن بغضه لها لما كان امتحن بها ، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر ، والله أعلم ، وقد روي عن ابن عباس : أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل ، وأمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة ، حتى يبين منها كيف الأمر ، المعنى : فإنه أيها اليهود ، كما أنزل الله عليَّ لا كما تدعون أنتم ، قال الزجّاج : وفي هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم ، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران .
هذا يرتبط بالآي السَّابقة في قوله تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } [ آل عمران : 67 ] وما بينهما اعتراضات وانتقالات في فنون الخطاب .
وهذه حجّة جزئية بعد الحجج الأصليّة على أنّ دين اليهودية ليس من الحنيفية في شيء ، فإنّ الحنيفية لم يكن ما حرّم من الطّعام بنصّ التَّوراة محرّماً فيها ، ولذلك كان بنو إسرائيل قبل التَّوراة على شريعة إبراهيم ، فلم يكن محرّماً عليهم ما حُرّم من الطعام إلاّ طعاماً حرّمه يعقوب على نفسه . والحجَّة ظاهرة ويدلّ لهذا الارتباط قوله في آخرها : { قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران : 95 ] .
ويحتمل أنّ اليهود مع ذلك طعنوا في الإسلام ، وأنَّه لم يكن على شريعة إبراهيم ، إذْ أباح للمسلمين أكل المحرّمات على اليهود ، جهلاً منهم بتاريخ تشريعهم ، أو تضليلاً من أحبارهم لعامّتهم ، تنفيراً عن الإسلام ، لأن الأمم في سذاجتهم إنَّما يتعلّقون بالمألوفات ، فيعدّونها كالحقائق ، ويقيمونها ميزاناً للقبول والنّقد ، فبيّن لهم أنّ هذا ممّا لا يُلتفت إليه عند النّظر في بقيّة الأديان ، وحسبكم أنّ ديناً عظيماً وهو دين إبراهيم ، وزُمرة من الأنبياء من بنيه وحفدته ، لم يكونوا يحرّمون ذلك .
وتعريف ( الطّعام ) تعريف الجنس ، و ( كُلّ ) للتنصيص على العموم .
وقد استدلّ القرآن عليهم بهذا الحكم لأنَّه أصرح ما في التَّوراة دلالة على وقوع النسخ فإنّ التوراة ذكرت في سفر التكوين ما يدلّ على أنّ يعقوب حرّم على نفسه أكل عِرق النَّسَا الَّذِي على الفخذ ، وقد قيل : إنَّه حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فقيل : إنّ ذلك على وجه النذر ، وقيل : إنّ الأطبَّاء نهوه عن أكل ما فيه عرق النّسا لأنَّه كان مبتلى بوجع نَساه ، وفي الحديث أنّ يعقوب كان في البدو فلم تستقم عافيته بأكل اللّحم الّذي فيه النّسا . وما حرّمه يعقوب على نفسه من الطعام : ظاهر الآية أنَّه لم يكن ذلك بوحي من الله إليه ، بل من تلقاء نفسه ، فبعضه أراد به تقرّباً إلى الله بحرمان نفسه من بعض الطيِّبات المشتهاة ، وهذا من جهاد النَّفس ، وهو من مقامات الزّاهدين ، وكان تحريم ذلك على نفسه بالنذر أو بالعزم . وليس في ذلك دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء في التشّريع لأنّ هذا من تصرّفه في نفسه فيما أبيح له ، ولم يدع إليه غيرَه ، ولعلّ أبناء يعقوب تأسَّوا بأبيهم فيما حرَّمه على نفسه فاستمرّ ذلك فيهم .
وقوله : { من قبل أن تنزل التوراة } تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى ، وقال العصام : يتعلّق قوله : { من قبل أن تنزل التوراة } بقوله : { حِلاًّ } لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة ، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله { حلاّ } وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب ، صار ذكر القيد لغواً لولا تنزيلهم منزلة الجاهل ، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم .
وقوله : { قل فأتوا بالتوراة فأتلوها إن كنتم صادقين } أي في زعمكم أنّ الأمر ليس كما قلناه أو إن كنتم صادقين في جميع ما تقدّم : من قولكم إنّ إبراهيم كان على دين اليهودية ، وهو أمر للتعجيز ، إذ قد علم أنَّهم لا يأتون بها إذا استدلّوا على الصّدق .
والفاء في قوله : { فأتوا } فاء التفريع .
وقوله : { إن كنتم صادقين } شرط حذف جوابه لدلالة التفريع الَّذي قبله عليه . والتَّقدير : إن كنتم صادقين فأتوا بالتَّوراة .