الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

قوله تعالى : { حِلاًّ } : الحِلُّ : بمعنى الحلال وهو في الأصل مصدر لحَلَّ يَحِلُّ كقولك : عَزَّ يَعِزُّ عِزّاً ، ثم يُطلق على الأشخاص مبالغة ، ولذلك يستوي فيه الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث كقوله تعالى :

{ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } [ الممتحنة : 10 ] ، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها : " كنت أُطَيِّبُه صلى الله عليه وسلم لحِلّه ولحَرَمِه " أي : لإِحلاله ولإِحرامه ، وهو كالحِرْم واللِّبْس بمعنى الحَرام واللباس ، قال تعالى : " وحِرْمٌ " وقرىء " وحرام " . و " لبني " متعلق بحِلّ .

قوله : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ } مستثنىن اسمِ كان . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ مستثنى من ضميرِ مستتر في " حِلاً " فقال : " لأنه استثناء من اسم كان ، والعاملُ فيه " كان " ، ويجوزُ أن يعملَ فيه " حِلاً " ويكون فيه ضميرٌ يكون الاستثناء منه ؛ لأن حِلاً وحَلالاً في موضعِ اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح " .

وفي هذا الاستثناءِ قولان ، أحدُهما : أنه متصل ، والتقدير : إلا ما حَرَّم إسرائيلُ على نفسه ، فَحُرِّم عليهم في التوراة ، فليس فيها ما زادوه من محرمات وادعوا صِحَّة ذلك . والثاني : أنه منقطع ، والتقدير : لكنْ حَرَّم إسرائيلُ على نفسِه خاصةً ولم يُحَرِّمْه عليهم ، والأول هو الصحيح .

قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلقَ بحَرّم أي : إلا ما حَرَّم مِنْ قبلِ ، قاله أبو البقاء . قال الشيخ : " ويَبْعُد ذلك ، إذ هو من الإِخبار بالواضح ، لأنه معلومٌ أنَّ ما حَرَّم إسرائيل على نفسه هو مِنْ قبل إنزال التوراةِ ضرورةَ لتباعدِ ما بين وجود إسرائيل وإنزالِ التوراة " . والثاني : أنها تتعلَّقُ بقوله : كان حِلاً " قال الشيخ : " ويظهر أنه متعلّقٌ بقولِه { كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : مِنْ قبلَ أَنْ تُنَزَّل التوراة ، وفَصَل بالاستثناء إذ هو فصلٌ جائز ، وذلك على مذهبِ الكسائي وأبي الحسن في جواز أَنْ يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو : " ما حُبِس إلا زيدٌ عندَكَ ، وما أوَى إلا عمروٌ إليك ، وما جاء إلا زيدٌ ضاحكاً " وأجازَ الكسائي ذلك في المنصوبِ مطلقاً نحو : ما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً ، وأجاز هو وابن الأنباري ذلك في المرفوع نحو : ما ضَرَب إلا زيداً عمرو ، وأمَّا تخريجُه على غيرِ مذهبِ الكسائي وأبي الحسن فيُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ جنسِ ما قبله ، وتقديرُه هنا : حَلَّ من قبلِ أَنْ تُنَزَّل التوراة " .