فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين93

( كل الطعام ) أي المطعوم ( كان حلا ) الحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث ، وهو الحلال كما أن الحرم لغة في الحرام ( لبني إسرائيل ) هو يعقوب كما تقدم تحقيقه ، يعني أن كل المطعومات كانت حلالا لبني يعقوب لم يحرم عليهم شئ منها ( إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ) مستثنى من إسم كان .

وجوز أبو البقاء أن يكون مستثنى من ضمير مستتر في ( حلا ) وفيه قولان ( احدهما ) انه متصل والتقدير إلاما حرم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة فليس منها ما زادوه من محرمات وادعوا صحة ذلك ( والثاني ) انه منقطع والتقدير لكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم ، والأول هو الصحيح قاله السمين .

أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال : كان يسكن البدو فاشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها فلذلك حرمها قالوا صدقت وذكر الحديث ، وأخرجه أيضا أحمد والنسائي{[350]} .

وفي رواية عنه الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما كان على الظهر .

وعرق النسا بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ ، قاله الكرخي ودواؤه ما ذكره القرطبي ونصه أخرج الثعلبي في تفسيره من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النسا تؤخذ إليه كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع قطعا صغارا وتسلأ على النار ويؤخذ دهنها فيجعل ثلاثة أقسام يشرب المريض بذلك الداء على الريق كل يوم ثلثا .

قال أنس فوصفته لأكثر من مائة كلهم يبرأ بإذن الله تعالى .

وفيه رد على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم من أن سبب ما حرمه عليهم هو ظلمهم وبغيهم كما في قوله : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ) الآية وقوله ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها ، إلى قوله ، ذلك جزيناهم ببغيهم ) وقالوا إنها محرمة على من قبلهم من الأنبياء نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا كما حرمت على من فبلنا ، يريدون بذلك تكذيب ما قصه الله سبحانه على نبينا صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز .

( ومن قبل أن تنزل التوراة ) فإنها ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب إسرائيل وذلك بعد إبراهيم بألف سنة ولم يكن على عهده حراما كما زعموا ، وإنما قال " من قبل " لأن بعد نزولها حرم الله عليهم أشياء من أنواع الطعام .

ثم أمر الله سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ويجعل بينه وبينهم حكما ما أنزله الله عليهم لا ما أنزل عليه فقال : ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها ) حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن من أنه لم يحرم على بني إسرائيل شئ من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه ( إن كنتم صادقين ) في دعواكم أنه تحريم قديم .

روى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة وبهتوا ، وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ولا تبلغ مداه ، وفيه من الحجة النيرة على صدق النبي وجواز النسخ الذي يجحدونه ما لايخفى .


[350]:ابن كثير 1/382.