ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب ، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه : أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده وهو النسخ . ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن آدم ولم يحدث نسخ ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاماً لهم وتفضيحاً ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أمياً فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر من السماء . وثانيها أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب . إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع إلى التوراة . وثالثا لما نزل قوله تعالى :{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }[ النساء :160 ] وقوله :{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر }[ الأنعام :146 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم . غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ . ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت { كل الطعام } أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفرداً سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا . والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وعن بعض أصحاب أبي حنيفة : إنه اسم البر خاصة . ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئاً سوى الحنطة وما يتخذ منها . قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق . والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع . قال تعالى :{ لا هن حل لهم } [ الممتحنة :10 ] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة ، وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها ، وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل . وقيل : كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق . وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر .
وههنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب سبباً للحرمة ؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء . وأيضاً لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سبباً لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية . وأيضاً الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم { فاعتبروا }[ الحشر : 2 ] ولقوله في معرض المدح { لعلمه الذين يستنبطونه منهم }[ النساء :83 ] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر ، وعقولهم أنور ، وأذهانهم أصفة ، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى . ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته . والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله تعالى على إسرائيل . فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال : الشافعي يحلل لحم الخيل ، وأبو حنيفة يحرّمه .
وقال الأصم : لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس كما يفعله الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم . وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب . ومعنى قوله : { من قبل أن تنزل التوراة } إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة ، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعاً كثيرة بدليل قوله تعالى :{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا }[ النساء :160 ] إلى آخر الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.