غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

92

ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب ، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه : أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده وهو النسخ . ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن آدم ولم يحدث نسخ ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاماً لهم وتفضيحاً ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أمياً فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر من السماء . وثانيها أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب . إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع إلى التوراة . وثالثا لما نزل قوله تعالى :{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }[ النساء :160 ] وقوله :{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر }[ الأنعام :146 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم . غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ . ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت { كل الطعام } أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفرداً سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا . والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وعن بعض أصحاب أبي حنيفة : إنه اسم البر خاصة . ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئاً سوى الحنطة وما يتخذ منها . قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق . والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع . قال تعالى :{ لا هن حل لهم } [ الممتحنة :10 ] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة ، وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها ، وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل . وقيل : كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق . وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر .

وههنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب سبباً للحرمة ؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء . وأيضاً لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سبباً لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية . وأيضاً الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم { فاعتبروا }[ الحشر : 2 ] ولقوله في معرض المدح { لعلمه الذين يستنبطونه منهم }[ النساء :83 ] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر ، وعقولهم أنور ، وأذهانهم أصفة ، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى . ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته . والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله تعالى على إسرائيل . فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال : الشافعي يحلل لحم الخيل ، وأبو حنيفة يحرّمه .

وقال الأصم : لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس كما يفعله الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم . وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب . ومعنى قوله : { من قبل أن تنزل التوراة } إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة ، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعاً كثيرة بدليل قوله تعالى :{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا }[ النساء :160 ] إلى آخر الآية .

/خ101