الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

وقوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِي إسرائيل . . . } [ آل عمران :93 ] . إخبارٌ بمَغِيَّب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يعلمه إلا اللَّه ، وعُلَماءُ أهْلِ الكِتَابِ ، و( حِلاَّ ) : معناه : حَلاَلاً ، والآيةُ ردُّ على اليهودِ في زَعْمهم ، أنَّ كُلَّ ما حَرَّموه على أنفسهم ، أنه بأمر اللَّه تعالى في التوراة ، فأكذبهم اللَّه تعالى بهذه الآية ، وقوله سبحانه : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسرائيل على نَفْسِهِ } ، أي : فهو محرَّم عليهم في التَّوْراة ، لا هذه الزوائد التي افتروها .

وقال الفَخْر : قوله تعالى : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } ، المعنى : أنَّ قَبْلَ نُزُولِ التوراةِ كان حَلاَلاً لبني إسرائيل كُلُّ أنواعِ المطْعُوماتِ ، سوى ما حرَّمه إسرائيلُ على نفسه ، فأما بعد نزولِ التوراةِ ، فلم يَبْقَ الأمرُ كذلك ، بل حَرَّم اللَّه عليهمْ أنواعاً كثيرةً بسبب بَغْيِهِمْ ، وذلك هو عَيْنُ النَّسْخِ الذي هُمْ له مُنْكِرُونَ ، اه .

قال ( ع ) : ولم يختلفُ فيما علمتُ أنَّ سبَبَ تحريمِ يَعْقُوبَ ما حرَّمه على نَفْسِهِ هو بمَرَضٍ أصابه ، فَجَعَلَ تحريمَ ذلِكَ شُكْراً للَّه أنْ شُفِيَ ، وقيل : هو وَجَعُ عِرْقِ النَّسَا ، وفي حديثٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أنَّ عِصَابَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، قَالُوا لَهُ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا الَّذِي حَرَّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ ؟ فَقَالَ لَهُمْ : أُنْشِدُكُمْ بِاللَّه هَلْ تَعْلَمُونَ ، أنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً ، فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْراً ، إنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ ، لَيُحْرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَيْهِ لُحُومَ الإبِلِ ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إلَيْهِ أَلْبَانَهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ ، نَعَمْ ) ، قال ( ع ) : وظاهرُ الأحاديثِ والتفاسيرِ في هذا الأمْرِ أنَّ يعقوبَ عليه السلام حَرَّم لُحوم الإبلِ وألْبَانَهَا ، وهو يحبُّها ، تقرُّباً بذلك ، إذْ ترك الترفُّه والتنعُّم من القُرَبِ ، وهذا هو الزهْدُ في الدُّنْيا ، وإليه نَحَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ( رضي اللَّه عنه ) بقوله : «إيَّاكُمْ وهذه المَجَازِرَ ، فإنَّ لها ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الخَمْرِ » ، ومِنْ ذلك قولُ أبِي حَازِمٍ الزاهِدِ ، وقدْ مَرَّ بسُوقِ الفَاكِهَةِ ، فرأى مَحَاسِنَهَا ، فقَالَ : مَوْعِدُكَ الجَنَّةُ ، إنْ شَاءَ اللَّهِ .

وقوله عز وجل : { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة . . . } ، قال الزَّجَّاج : وفي هذا تعجيزٌ لهم ، وإقامةٌ للحجة علَيْهم .