الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } الآية .

قال أبو روق والكلبي : كان هذا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : " " أنا على ملة إبراهيم

" . فقالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحّله " فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرّمه فإنّه كان محرّماً على نوح وإبراهيم هاجراً حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم : { كُلُّ الطَّعَامِ } المحلل لكم اليوم { كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } . "

{ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ } وهو يعقوب { عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } .

واختلف المفسّرون في ذلك الطعام ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وأبو مجلز : هي العروق وكان [ سبب ] ذلك أنّ يعقوب ( عليه السلام ) اشتكى عرق النساء ، وكان أصل وجعه ذلك ، ما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك أنّ يعقوب بن إسحاق كان قد نذر إن وهب الله له اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم ، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له : يا يعقوب إنّك رجلٌ قوي ، هل لك في الصراع ؟ فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، ثم غمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك ، ثم قال : أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت ، ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنّك قد كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولدك ، وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجاً ، فلمّا قدمها يعقوب أراد ذبح ابنه ونسي قول الملك ، فأتاه الملك فقال : أنا غمزتك هذه الغمزة للمَخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : أقبل يعقوب ( عليه السلام ) من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيص وكان رجلا بطّيشاً قوياً ، فلقيه ملك فظنّ [ يعقوب ] أنّه لصّ فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النساء ولقي من ذلك بلاء شديداً وكان لا ينام بالليل من الوجع [ ويبيت ] وله زقاء أي صياح ، فحلف يعقوب ( عليه السلام ) لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق ، فحرّمها على نفسه فجعل بنوه يبتغون العروق يخرجونها من اللحم ، وقال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي : كان ذلك لحمان الإبل وألبانها .

وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس " أن عصابة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشهدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه عليه ، فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحبّ الطعام والشراب إلى نفسه ، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها "

فقالوا : اللهم نعم .

وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما أصاب يعقوب عرق النساء ووصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل ، فحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل ، فقالت اليهود : إنّا حرّمنا على أنفسنا لحوم الإبل ؛ لأنّ يعقوب حرّمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية .

وقال الحسن : حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الجزور تعبداً لله عز وجل فسأل ربّه عز وجل أن يجيز له ذلك ، فحرّمه الله على ولده ، وقال عكرمة : حرّم إسرائيل على نفسه زائدة الكبد والكليتين والشحم إلاّ ما على الظهور ، وروى ليث عن مجاهد قال : حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الأنعام ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرّم على إسرائيل بعد نزول التوراة ، وقال السدي : إنّ الله لما أنزل التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمونها قبل نزولها اقتداءً بأبيهم يعقوب ( عليه السلام ) ، وقال عطية : إنّما كان ذلك حراماً عليهم لتحريم إسرائيل ذلك عليهم وذلك أنّ إسرائيل قال حين أصابه عرق النساء : والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ، ولم يكن ذلك محرّماً عليهم في التوراة .

وقال الكلبي : لم يحرّمه الله عليهم في التوراة وإنّما حرّم عليهم بعد التوراة لظلمهم وكفرهم ، وكان بنو إسرائيل كلما أصابوا ذنباً عظيماً حرّم الله عليهم طعاماً طيباً ، أو صبّ عليهم رجزاً وهو الموت ، وذلك قوله تعالى :{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، وقوله : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ } إلى قوله { وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الأنعام : 146 ] .

وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك علينا حراماً ، ولا حرّم الله عليهم في التوراة وإنّما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتّباعاً لأبيهم ، وأضافوا تحريمه إلى الله فكذّبهم الله تعالى فقال : قل لهم يا محمد { فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا } حتى يتبين أنّه كما يقول لا كما قلتم ، فلم يأتوا ، وروى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النساء يأخذ إليّة كبش عربي لا صغير ولا كبير فيقطع صغاراً فيخرج أهالته فيخرج على ثلاث قِسَم ، ويأكل كل يوم على ريق النفس ، قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة فشفاهم الله " .

وروى شعبة أنّه رأى شيخاً في زمن الحجاج بن يوسف يقول لعرق النساء : أقسم عليك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينّك بنار أو لألحقنك بموسى ، قال شعبة : فإنّه يقول ذلك ويمسح على ذلك الموضع فيبرأ بإذن الله .