تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{۞كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلّٗا لِّبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَـٰٓءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَىٰةُۚ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَىٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (93)

قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شَهْر قال : قال ابن عباس [ رضي الله عنه ]{[5306]} حضرت عصابة من اليهود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدِّثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي . قال : " سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ ، وَلَكِنْ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي{[5307]} عَلَى الإسْلامِ " . قَالُوا : فَذَلِكَ لَكَ . قَالَ : " فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ " قالوا : أَخْبرْنَا عن أربع خلال : أَخْبرْنَا أَيُّ الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه ؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل ؟ كيف{[5308]} هذا النبي الأمّي في النوم ؟ ومن وَليّه من الملائكة ؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه{[5309]} وقال : " أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ{[5310]} سُقْمُهُ ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ مِنْ سُقْمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمان الإبِلِ ، وَأَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا " فقالوا : اللهم نعم . قال : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ " . وقال : أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ ، الَّذِي{[5311]} أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ ، ومَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَر رَقِيقٌ ، فَأَيُّهُمَا عَلا كَانَ لَهُ الولد وَالشَّبَهُ بإذنِ اللَّهِ ، إِنْ عَلا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المرأة{[5312]} كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَإِنْ عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ{[5313]} مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ " . قالوا : نعم . قال : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ " . وقال : " أَنْشُدُكُمْ{[5314]} بِالَّذِي أَنزلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الأمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ {[5315]} وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ " . قالوا : اللهم نعمْ . قَالَ : " اللَّهُمَّ اشْهَدْ " . قالوا : وأنت الآن فحدثنا منْ وليُّك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال : " إِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ ، وَلَمْ يَبْعَث اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلا وَهُوَ وَلِيُّهُ " . قالوا : فعندها{[5316]} نفارقك ، ولو كان وليك غيره لتابعنَاك{[5317]} ، فعند ذلك قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ } الآية [ البقرة : 97 ] .

ورواه أحمد أيضًا ، عن حسين بن محمد ، عن عبد الحميد ، به{[5318]} .

طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري{[5319]} حدثنا عبد الله بن الوليد العِجْليّ ، عن بُكَير{[5320]} بن شهاب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : أقبلت يهودُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، نسألك{[5321]} عن خمسة أشياء ، فإن{[5322]} أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ يوسف : 66 ] . قال : " هاتوا " . قالوا : أخبرنا عن علامة النبي ؟ قال : " تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُه " . قالوا : أخبرنا كيف تُؤنِّثُ المرأةُ وكيف تُذْكرُ ؟ قال : " يَلْتَقِي الماءَان ، فإذا{[5323]} علا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أذْكَرَتْ ، وإذَا عَلا مَاءُ الْمَرْأَةِ{[5324]} آنثَتْ . قالوا : أخبرنا ما حَرَّم إسرائيل على نفسه ، قال : " كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلائِمُهُ إلا ألْبَانَ كَذَا وكَذَا - قال أحمد : قال بعضهم : يعني الإبل - فَحَرَّم لُحُومَهَا " . قالوا : صدقت . قالوا : أخبرنا ما هذا الرَّعد ؟ قال : " مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللهِ مُوَكلٌ بِالسَّحَابِ بِيدِهِ{[5325]} - أو فِي يَدِه - مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُر بِهِ السّحابَ ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ " . قالوا : فما هذا الصوت الذي يُسمع ؟ قال : " صَوْتُه " . قالوا : صدقت ، إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبُك ؟ قال : " جبْرِيلُ عَلَيْه السَّلامُ " . قالوا : جبريل ذاك يَنزل بالحَرْب والقتال والعذاب عَدُوُّنا . لو قلتَ : ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لَكَانَ ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 97 ]{[5326]} .

وقد رواه الترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن الوليد العِجْلي ، به نحوه ، وقال الترمذي : حسن غريب{[5327]} .

وقال ابن جُرَيْج والعَوْفَيّ ، عن ابن عباس : كان إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - يَعْتَريه عِرق النَّسَا بالليل ، وكان{[5328]} يقلقه ويُزعِجه عن النوم ، ويُقْلعُ الوَجَعُ عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عِرْقًا ولا يأكل ولد ما له عِرْق .

وهكذا قال الضحاك والسدي . كذا حكاه ورواه ابن جرير في تفسيره . قال : فاتَّبعه بَنُوه في تحريم ذلك استنَانًا به واقتداء بطريقه . قال : وقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة .

قلت : ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان{[5329]} .

إحداهما : أن إسرائيل ، عليه السلام ، حرّم أحب الأشياء إليه وتركها لله ، وكان هذا سائغًا في شريعتهم{[5330]} فله مناسبة بعد قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبُّه العبد ويشتهيه ، كما قال : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] وقال { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [ الإنسان : 8 ] .

المناسبة الثانية : لمَّا تقدّم السياق في الرد على النصارى ، واعتقادهم الباطل في المسيح وتبين زَيْف ما ذهبوا إليه . وظهور {[5331]} الحق واليقين في أمر عيسى وأمه ، وكيف خلقه الله بقدرته ومشيئته ، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تعالى - شَرَع في الرد على اليهود ، قَبَّحهم الله ، وبيان أن النَّسْخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع ، فإن الله ، عز وجل ، قد نصّ في كتابهم التوراة أن نوحا ، عليه السلام ، لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ، ثم بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لُحْمان الإبل وألبانها ، فاتبعه بنوه في ذلك ، وجاءت التوراة بتحريم ذلك ، وأشياء أخر زيادة على ذلك . وكان الله ، عز وجل ، قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه ، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك . وكان التَّسَرِّي على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم ، وقد فعله [ الخليل ]{[5332]} إبراهيم في هاجر لما تسرَّى بها على سارّة ، وقد حُرِّم مثل هذا في التوراة عليهم . وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعا {[5333]} وقد فعله يعقوب ، عليه السلام ، جمع بين الأختين ، ثم حُرِّم ذلك عليهم في التوراة . وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم ، فهذا هو النسخ بعينه ، فكذلك{[5334]} فليكن ما شرعه الله للمسيح ، عليه السلام ، في إحلاله بعض ما حرم في التوراة ، فما بالهم لم يتبعوه ؟ بل كذبوه وخالفوه ؟ وكذلك ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ومِلَّة أبيه إبراهيم فما بَالُهم{[5335]} لا يؤمنون ؟ ولهذا قال [ تعالى ]{[5336]} { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } أي : كان حِلا{[5337]} لهم جميعُ الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرَّمه إسرائيل ، ثم قال : { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فإنها ناطقة بما قلناه .


[5306]:زيادة من أ.
[5307]:في جـ، ر، أ،: "لتبايعني".
[5308]:في جـ، و: "وماء الرجل ؟ كيف يكون الذكر منه ؟ وأخبرنا وكيف".
[5309]:في جـ، أ: "ليبايعنه".
[5310]:في أ، و: "فطال".
[5311]:في جـ، م، و: "والذي".
[5312]:في جـ، ر، أ، و: "ماء الرجل على ماء المرأة".
[5313]:في جـ، ر، أ، و: "علا ماء المرأة على ماء الرجل".
[5314]:في أ: "أشهدكم".
[5315]:في جـ: "عينه".
[5316]:في أ: "فعندنا".
[5317]:في جـ، أ: "لبايعناك".
[5318]:المسند (1/278).
[5319]:في أ: "أبو أحمد عن الزبيري"، وفي جـ، و: "أبو أحمد هو الزبيري".
[5320]:في جـ، أ: "بكر".
[5321]:في أ: "يا أبا القاسم، إنا نسألك".
[5322]:في جـ، أ: "وإن".
[5323]:في جـ: "فإن".
[5324]:في جـ، ر، أ: "وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنثت".
[5325]:في جـ، ر، أ، و: "بيديه".
[5326]:في جـ، ر، أ، و: "قل من كان عدوا لجبريل إلى آخر الآية".
[5327]:المسند (1/274) وسنن الترمذي برقم (3117) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9072).
[5328]:في جـ، أ، و: "فكان".
[5329]:في ر: "مناسبات".
[5330]:في جـ، أ، و: "شرعهم".
[5331]:في ر، أ، و: "ظهر".
[5332]:زيادة من أ.
[5333]:في أ، و: "سائغا".
[5334]:في أ: "فلذلك".
[5335]:في جـ، ر، أ، و: "فما لهم".
[5336]:زيادة من أ، و.
[5337]:في و: "حلالا".