قوله تعالى :{ ادعوهم لآبائهم } الذين ولدوهم ، { هو أقسط } أعدل ، { عند الله } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا معلى بن أسد ، أنبأنا عبد العزيز المختار ، أنبأنا موسى بن عقبة ، حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما كنا ندعو إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم } أي : فهم إخوانكم ، { في الدين ومواليكم } إن كانوا محررين وليسوا بنيكم ، أي : سموهم بأسماء إخوانكم في الدين . وقيل : مواليكم أي : أولياءكم في الدين ، { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } قبل النهي فنسبتموه إلى غير أبيه ، { ولكن ما تعمدت قلوبكم } من دعائهم إلى غير آبائهم بعد النبي . وقال قتادة : فيما أخطأتم به أن تدعوه لغير أبيه ، وهو يظن أنه كذلك . ومحل " ما " في قوله تعالى : ما تعمدت خفض رداً على ما التي في قوله فيما أخطأتم به مجازه : ولكن فيما تعمدت قلوبكم . { وكان الله غفوراً رحيماً } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن بشار ، أنبأنا غندر ، أنبأنا شعبة عن عاصم ، قال : سمعت أبا عثمان قال : سمعت سعداً ، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله ، وأبا بكرة وكان قد تسور حصن الطائف في أناس ، فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا : سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه ، فالجنة عليه حرام " .
{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } والأدعياء ، الولد الذي كان الرجل يدعيه ، وهو ليس له ، أو يُدْعَى إليه ، بسبب تبنيه إياه ، كما كان الأمر بالجاهلية ، وأول الإسلام .
فأراد اللّه تعالى أن يبطله ويزيله ، فقدم بين يدي ذلك بيان قبحه ، وأنه باطل وكذب ، وكل باطل وكذب ، لا يوجد في شرع اللّه ، ولا يتصف به عباد اللّه .
يقول تعالى : فاللّه لم يجعل الأدعياء الذين تدعونهم ، أو يدعون إليكم ، أبناءكم ، فإن أبناءكم في الحقيقة ، من ولدتموهم ، وكانوا منكم ، وأما هؤلاء الأدعياء من غيركم ، فلا جعل اللّه هذا كهذا .
{ ذَلِكُمْ } القول ، الذي تقولون في الدعي : إنه ابن فلان ، الذي ادعاه ، أو والده فلان { قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } أي : قول لا حقيقة له ولا معنى له .
{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } أي : اليقين والصدق ، فلذلك أمركم باتباعه ، على قوله وشرعه ، فقوله ، حق ، وشرعه حق ، والأقوال والأفعال الباطلة ، لا تنسب إليه بوجه من الوجوه ، وليست من هدايته ، لأنه لا يهدي إلا إلى السبيل المستقيمة ، والطرق الصادقة .
وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته ، فمشيئته عامة ، لكل ما وجد من خير وشر .
ثم صرح لهم بترك الحالة الأولى ، المتضمنة للقول الباطل فقال : { ادْعُوهُمْ } أي : الأدعياء { لِآبَائِهِمْ } الذين ولدوهم { هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : أعدل ، وأقوم ، وأهدى .
{ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ } الحقيقيين { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي : إخوتكم في دين اللّه ، ومواليكم في ذلك ، فادعوهم بالأخوة الإيمانية الصادقة ، والموالاة على ذلك ، فترك الدعوة إلى من تبناهم حتم ، لا يجوز فعلها .
وأما دعاؤهم لآبائهم ، فإن علموا ، دعوا إليهم ، وإن لم يعلموا ، اقتصر على ما يعلم منهم ، وهو أخوة [ الدين ]{[689]} والموالاة ، فلا تظنوا أن حالة عدم علمكم بآبائهم ، عذر في دعوتهم إلى من تبناهم ، لأن المحذور لا يزول بذلك .
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } بأن سبق على لسان أحدكم ، دعوته إلى من تبناه ، فهذا غير مؤاخذ به ، أو علم أبوه ظاهرًا ، [ فدعوتموه إليه ]{[690]} وهو في الباطن ، غير أبيه ، فليس{[691]} عليكم في ذلك حرج ، إذا كان خطأ ، { وَلَكِنْ } يؤاخذكم { بِمَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } من الكلام ، بما لا يجوز . { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } غفر لكم ورحمكم ، حيث لم يعاقبكم بما سلف ، وسمح لكم بما أخطأتم به ، ورحمكم حيث بيَّن لكم أحكامه التي تصلح دينكم ودنياكم ، فله الحمد تعالى .
فأما مسألة التبني ، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم ، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخلفي بناء الأسرة ، وفي بناء المجتمع كله .
ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي ، والاعتزاز بالنسب ، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع ، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور .
كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء ! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه . يدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه ، فيتوارث وإياه توارث النسب .
وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون . ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه ، ويتبناه ، ويلحقه بنسبه ، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه ، ويدخل في أسرته . وكان هذا يقع بخاصة في السبي ، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات ؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه ، وأطلق عليه اسمه ، وعرف به ، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها .
ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي . وهو من قبيلة عربية . سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية ؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة - رضي الله عنها - فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له . ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاختار رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فأعتقه ، وتبناه ، وكانوا يقولون عنه : زيد بن محمد . وكان أول من آمن به من الموالي .
فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها ، ويحكم روابطها ، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه . . أبطل عادة التبني هذه ؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية . . علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية . وقال : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) . . ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) . . والكلام لا يغير واقعا ، ولا ينشئ علاقة غير علاقة الدم ، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة ، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي !
( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) . .
يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل . ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم ، لا على كلمة تقال بالفم . ( وهو يهدي السبيل )المستقيم ، المتصل بناموس الفطرة الأصيل ، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر ، يصنعونه بأفواههم . بكلمات لا مدلول لها من الواقع . فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل .
( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) . .
وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه . عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية . وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه ، ويرثه ويورثه ، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة ، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده . وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه ؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري ، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد ؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة ، ولا يعطيه مزاياها . ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها !
وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة . ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع . وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق . . وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل ، ضعيف ، مزور الأسس ، لا يمكن أن يعيش !
ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك ، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب ، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان ، فقد يسر الإسلام الأمر - وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة ، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها - فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية ، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه :
( فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) . .
وهي علاقة أدبية شعورية ؛ لا تترتب عليها التزامات محددة ، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات - وهي التزامات النسب بالدم ، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني - وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني .
وهذا النص : ( فإن لم تعلموا آباءهم ) . . يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي . وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية . هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة . وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة .
وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح :
( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ؛ ولكن ما تعمدت قلوبكم ) . .
وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة ، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون :
ولقد شدد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي . وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر . قال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم . حدثنا ابن علية . عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال أبو بكر - رضي الله عنه - قال الله عز وجل : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) . . فأنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا من إخوانكم في الدين . . قال أبي [ من كلام عيينة بن عبد الرحمن ] : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه . وقد جاء في الحديث : " من ادعى إلى غير أبيه - وهو يعلم - إلا كفر " . . وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل ؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت . ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف .
القول في تأويل قوله تعالى : { ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلََكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول الله تعالى ذكره : انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم لاَبائهم . يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألحق نسب زيد بأبيه حارثة ، ولا تدعه زيدا بن محمد . وقوله هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله يقول : دعاؤكم إياهم لاَبائهم هو أعدل عند الله ، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبتكموهم إلى من تبنّاهم وادّعاهم وليسوا له بنين . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ادْعُوهُمْ لاَبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ : أي أعدل عند الله ، وقوله : فإنْ لَمْ تَعْلمُوا آباءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ يقول تعالى ذكره : فإن أنتم أيها الناس لم تعلموا آباء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إليهم ، ولم تعرفوهم ، فتلحقوهم بهم ، فإخوانكم في الدين يقول : فهم إخوانكم في الدين ، إن كانوا من أهل ملّتكم ، ومواليكم إن كانوا محرّريكم وليسوا ببنيكم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ادْعُوهُمْ لاَبائهمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ : أي أعدل عند الله فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانَكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ فإن لم تعلموا من أبوه فإنما هو أخوك ومولاك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عُيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : قال أبو بكرة : قال الله ادْعُوهُمْ لاَبائهِمْ هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ ، فإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ فأنا ممن لا يُعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين ، قال : قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمّارا لانتمى إليه .
وقوله : وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ يقول : ولا حرج عليكم ولا وزر في خطأ يكون منكم في نسبة بعض من تنسبونه إلى أبيه ، وأنتم ترونه ابن من ينسبونه إليه ، وهو ابن لغيره وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ يقول : ولكن الإثم والحرج عليكم في نسبتكموه إلى غير أبيه ، وأنتم تعلمونه ابن غير من تنسبونه إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ يقول : إذا دعوت الرجل لغير أبيه ، وأنت ترى أنه كذلك وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ يقول الله : لا تدعه لغير أبيه متعمدا . أما الخطأ فلا يؤاخذكم الله به وَلَكِنْ يُؤَاخِذْكُمْ بِمَا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ قال : فالعمد ما أتى بعد البيان والنهي في هذا وغيره .
و «ما » التي في قوله وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ خفض ردّا على «ما » التي في قوله فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ وذلك أن معنى الكلام : ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن فيما تعمدت قلوبكم .
وقوله : وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما يقول الله تعالى ذكره : وكان الله ذا ستر على ذنب من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول ، وذنب من ادّعى ولد غيره ابنا له ، إذا تابا وراجعا أمر الله ، وانتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ذا رحمة بهما أن يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما .
أمر الله تعالى في هذه الآية بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه كان مولى وأخاً في الدين ، فقال الناس زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة إلى غير ذلك .
وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال : أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين ومولاكم ، قال الراوي : ولو علم والله أن أباه حماراً لا نتمى إليه{[9451]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث ، و { أقسط } معناه أعدل ، وقال قتادة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ادعى إلى غير أبيه متعمداً حرم الله عليه الجنة{[9452]} ، وقوله تعالى : { وليس عليكم جناح } الآية رفع للحرج عمن وهم ونسي وأخطأ فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد وغير ذلك مما يشبهه ، وأبقى الجناح في التعمد مع النهي المنصوص ، وقوله تعالى : { وكان الله غفوراً رحيماً } يريد لما مضى من فعلهم في ذلك ، ثم هي صفتان لله تعالى تطرد في كل شيء ، وقالت فرقة «خطأهم » فيما كان سلف من قولهم ذلك .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا ضعيف لا يتصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي وإنما «الخطأ » هنا بمعنى النسيان وما كان مقابل العمد ، وحكى الطبري عن قتادة أنه قال : «الخطأ » الذي رفع الله تعالى فيه الجناح أن تعتقد في أحد أنه ابن فلان فتنسبه إليه وهو في الحقيقة ليس بابنه ، والعمد هو أن تنسبه إلى فلان وأنت تدري أنه ابن غيره ، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه »{[9453]} وقال صلى الله عليه وسلم : «ما أخشى عليكم النسيان . وإنما أخشى العمد »{[9454]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول الله تعالى ذكره: انسبوا أدعياءكم الذين ألحقتم أنسابهم بكم لآبائهم. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألحق نسب زيد بأبيه حارثة، ولا تدعه زيدا بن محمد.
وقوله:"هُوَ أقْسَطُ عِنْدَ الله" يقول: دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله، وأصدق وأصوب من دعائكم إياهم لغير آبائهم ونسبتكموهم إلى من تبنّاهم وادّعاهم وليسوا له بنين...
وقوله: "فإنْ لَمْ تَعْلمُوا آباءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ "يقول تعالى ذكره: فإن أنتم أيها الناس لم تعلموا آباء أدعيائكم من هم فتنسبوهم إليهم، ولم تعرفوهم، فتلحقوهم بهم، "فإخوانكم في الدين" يقول: فهم إخوانكم في الدين، إن كانوا من أهل ملّتكم، ومواليكم إن كانوا محرّريكم وليسوا ببنيكم... وقوله: "وَلَيْسَ عَليْكُمْ جُناحٌ فِيما أخْطأْتُمْ بِهِ" يقول: ولا حرج عليكم ولا وزر في خطأ يكون منكم في نسبة بعض من تنسبونه إلى أبيه، وأنتم ترونه ابن من ينسبونه إليه، وهو ابن لغيره "وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ" يقول: ولكن الإثم والحرج عليكم في نسبتكموه إلى غير أبيه، وأنتم تعلمونه ابن غير من تنسبونه إليه...
وقوله: "وكانَ اللّهُ غَفُورا رَحِيما" يقول الله تعالى ذكره: وكان الله ذا ستر على ذنب من ظاهر زوجته فقال الباطل والزور من القول، وذنب من ادّعى ولد غيره ابنا له، إذا تابا وراجعا أمر الله، وانتهيا عن قيل الباطل بعد أن نهاهما ربهما عنه ذا رحمة بهما أن يعاقبهما على ذلك بعد توبتهما من خطيئتهما.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون قوله: {فإخوانكم في الدين} أي سموهم إخوانا، وذلك أعظم في القلوب وآخذ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم؛ وذلك لأن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة، وأما عند الحضرة فلا.
وجائز أن يكون قوله: {ومواليكم} من الولاية كقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة: 71] وقوله: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
قال أبو عمر: قد تجاوز الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، قال الله عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
راعُوا أنسابهم، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّةُ في الدِّين تجمعكم، وقرابةُ الدِّين والشكلية أولى من قرابة النَّسَبِ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق، وهو قوله: {ادعوهم لآبَائِهِمْ} وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل، وفي فصل هذه الجمل ووصلها: من الحسن والفصاحة مالا يغني على عالم بطرق النظم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما مسألة التبني، ودعوة الأبناء إلى غير آبائهم، فقد كانت كذلك تنشأ من التخلخلفي بناء الأسرة، وفي بناء المجتمع كله.
ومع ما هو مشهور من الاعتزاز بالعفة في المجتمع العربي، والاعتزاز بالنسب، فإنه كانت توجد إلى جانب هذا الاعتزاز ظواهر أخرى مناقضة في المجتمع، في غير البيوت المعدودة ذات النسب المشهور.
كان يوجد في المجتمع أبناء لا يعرف لهن آباء! وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه. يدعوه ابنه، ويلحقه بنسبه، فيتوارث وإياه توارث النسب.
وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون. ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء فيأخذه لنفسه، ويتبناه، ويلحقه بنسبه، فيعرف بين الناس باسم الرجل الذي تبناه، ويدخل في أسرته. وكان هذا يقع بخاصة في السبي، حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات؛ فمن شاء أن يلحق بنسبه واحدا من هؤلاء دعاه ابنه، وأطلق عليه اسمه، وعرف به، وصارت له حقوق البنوة وواجباتها.
ومن هؤلاء زيد بن حارثة الكلبي. وهو من قبيلة عربية. سبي صغيرا في غارة أيام الجاهلية؛ فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة -رضي الله عنها- فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له. ثم طلبه أبوه وعمه فخيره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فاختار رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فأعتقه، وتبناه، وكانوا يقولون عنه: زيد بن محمد. وكان أول من آمن به من الموالي.
فلما شرع الإسلام ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبيعي لها، ويحكم روابطها، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه.. أبطل عادة التبني هذه؛ ورد علاقة النسب إلى أسبابها الحقيقية.. علاقات الدم والأبوة والبنوة الواقعية. وقال: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم).. (ذلكم قولكم بأفواهكم).. والكلام لا يغير واقعا، ولا ينشئ علاقة غير علاقة الدم، وعلاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة، وعلاقة المشاعر الطبيعية الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحي!
(والله يقول الحق وهو يهدي السبيل)..
يقول الحق المطلق الذي لا يلابسه باطل. ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم، لا على كلمة تقال بالفم. (وهو يهدي السبيل) المستقيم، المتصل بناموس الفطرة الأصيل، الذي لا يغني غناءه سبيل آخر من صنع البشر، يصنعونه بأفواههم. بكلمات لا مدلول لها من الواقع. فتغلبها كلمة الحق والفطرة التي يقولها الله ويهدي بها السبيل.
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله)..
وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه. عدل للوالد الذي نشأ هذا الولد من بضعة منه حية. وعدل للولد الذي يحمل اسم أبيه، ويرثه ويورثه، ويتعاون معه ويكون امتدادا له بوراثاته الكامنة، وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده. وعدل للحق في ذاته الذي يضع كل شيء في مكانه؛ ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري، ولا يضيع مزية على والد ولا ولد؛ كما أنه لا يحمل غير الوالد الحقيقي تبعة البنوة، ولا يعطيه مزاياها. ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة ولا يحابيه بخيراتها!
وهذا هو النظام الذي يجعل التبعات في الأسرة متوازنة. ويقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع. وهو في الوقت ذاته يقيم بناء المجتمع على قاعدة حقيقية قوية بما فيها من الحق ومن مطابقة الواقع الفطري العميق.. وكل نظام يتجاهل حقيقة الأسرة الطبيعية هو نظام فاشل، ضعيف، مزور الأسس، لا يمكن أن يعيش!
ونظرا للفوضى في علاقات الأسرة في الجاهلية والفوضى الجنسية كذلك، التي تخلف عنها أن تختلط الأنساب، وأن يجهل الآباء في بعض الأحيان، فقد يسر الإسلام الأمر -وهو بصدد إعادة تنظيم الأسرة، وإقامة النظام الاجتماعي على أساسها- فقرر في حالة عدم الاهتداء إلى معرفة الآباء الحقيقيين مكانا للأدعياء في الجماعة الإسلامية، قائما على الأخوة في الدين والموالاة فيه:
(فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم)..
وهي علاقة أدبية شعورية؛ لا تترتب عليها التزامات محددة، كالتزام التوارث والتكافل في دفع الديات -وهي التزامات النسب بالدم، التي كانت تلتزم كذلك بالتبني- وذلك كي لا يترك هؤلاء الأدعياء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني.
وهذا النص: (فإن لم تعلموا آباءهم).. يصور لنا حقيقة الخلخلة في المجتمع الجاهلي. وحقيقة الفوضى في العلاقات الجنسية. هذه الفوضى وتلك الخلخلة التي عالجها الإسلام بإقامة نظام الأسرة على أساس الأبوة. وإقامة نظام المجتمع على أساس الأسرة السليمة.
وبعد الاجتهاد في رد الأنساب إلى حقائقها فليس على المؤمنين من مؤاخذة في الحالات التي يعجزون عن الاهتداء فيها إلى النسب الصحيح:
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به؛ ولكن ما تعمدت قلوبكم)..
وهذه السماحة مردها إلى أن الله سبحانه وتعالى يتصف بالغفران والرحمة، فلا يعنت الناس بما لا يستطيعون:
ولقد شدد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في التثبت والتأكد من النسب لتوكيد جدية التنظيم الجديد الذي يلغي كل أثر للتخلخل الاجتماعي الجاهلي. وتوعد الذين يكتمون الحقيقة في الأنساب بوصمة الكفر. قال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم. حدثنا ابن علية. عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكر -رضي الله عنه- قال الله عز وجل: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم).. فأنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا من إخوانكم في الدين.. قال أبي [من كلام عيينة بن عبد الرحمن]: والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه. وقد جاء في الحديث:"من ادعى إلى غير أبيه -وهو يعلم- إلا كفر".. وهذا التشديد يتمشى مع عناية الإسلام بصيانة الأسرة وروابطها من كل شبهة ومن كل دخل؛ وحياطتها بكل أسباب السلامة والاستقامة والقوة والثبوت. ليقيم عليها بناء المجتمع المتماسك السليم النظيف العفيف.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فالقضية التي يريد الله أن يثيرها لدى الإنسان كقيمةٍ من القيم الدينية، هي أن لا يعقد قلبه على خطأ في الفكرة أو في المنهج أو في التشريع، لأن الخطأ في الكلمة قد يغتفر إذا صدر عن غير قصد، ولكن الخطأ في الفكرة أو في الخط عن قصدٍ أو تقصيرٍ، قد يخلق أكثر من مشكلةٍ للإنسان وللحياة.