محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱدۡعُوهُمۡ لِأٓبَآئِهِمۡ هُوَ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِۚ فَإِن لَّمۡ تَعۡلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمۡۚ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (5)

{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } أي انسبوهم إليهم . وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } أي أعدل وأحكم .

قال ابن كثير : هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام ، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء . فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة . وأن هذا هو العدل والقسط والبر . روى البخاري {[6126]} عن ابن عمر قال : ( إن زيد بن حارثة رضي الله عنه ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كنا ندعوه إلا ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } ) وأخرجه مسلم {[6127]} وغيره . وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك . ولهذا قالت سهلة {[6128]} بنت سهيل ، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها : ( يا رسول الله ! إنا ندعو سالما ابنا . وإن الله قد أنزل ما أنزل . وإنه كان يدخل علي . وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا . فقال صلى الله عليه وسلم : أرضعيه تحرمي عليه . . . ) الحديث . ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي . وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه . وقال عز وجل {[6129]} : { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } وقال تبارك وتعالى {[6130]} في آية التحريم : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } احترازا عن زوجة الدعي ، فإنه ليس من الصلب .

فأما من الرضاعة ، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا ، بقوله صلى الله عليه وسلم في ( الصحيحن ) {[6131]} : ( حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب ) . فأما دعوة الغير ابنا ، على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل ( السنن ) . إلا – الترمذي – عن ابن عباس رضي الله عنهما {[6132]} : قال : ( قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من ( جمع ) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : أبيني ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ) .

قال أبو عبيدة وغيره ( أبيني تصغير ( ابني ) وهذا ظاهر الدلالة . فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر .

وفي مسلم {[6133]}عن أنس قال : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني ) . ورواه أبو داود والترمذي . انتهى كلام ابن كثير . وفي ذهبه إلى أن الأمر في الآية ناسخ – نظر ، لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما . وأما ما لا خطاب فيه سابقا ، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية ، فلا يسمى نسخا اصطلاحا . فاحفظه . فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع .

ولما أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن عرفوا ، أشار إلى دعوتهم بالأخوة والمولوية إن لم يعرفوا ، بقوله سبحانه { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ } أي فتنسبوهم إليهم { فَإِخْوَانُكُمْ } أي فهم إخوانكم { فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي أولياؤكم فيه . أي فقولوا : هذا أخي ، وهذا مولاي . ويا أخي ويا مولاي { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي إثم { فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } أي فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة ، مخطئين بالسهو أو النسيان . أو سبق اللسان ، لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه { وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي ففيه الجناح ، لأن من تعمد الباطل كان آثما { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } أي لعفوه عن المخطئ .


[6126]:أخرجه في: 65 – كتاب التفسير، 33 – سورة الأحزاب، 2 – باب {ادعوهم لآبائهم}، حديث 2030.
[6127]:أخرجه في: 44 – كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 62 – (طبعتنا).
[6128]:أخرجه مسلم في:17 كتاب الرضاع، حديث رقم 26 (طبعتنا).
[6129]:(33 / الأحزاب / 37).
[6130]:(4 / النساء / 23).
[6131]:أخرجه البخاري في: 52 – كتاب الشهادات على الأنساب والرضاع، حديث رقم 1285 عن عائشة. وأخرجه مسلم في: 17 كتاب الرضاع، حديث رقم 1 (طبعتنا).
[6132]:أخرجه النسائي في: 24 كتاب المناسك، 222 – باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس. وأخرجه ابن ماجة في: 25 – كتاب المناسك، 62 – باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار، حديث رقم 3025 (طبعتنا).
[6133]:أخرجه في: 38 – كتاب الآداب حديث رقم 31 (طبعتنا).