قوله تعالى : { الذين ينقضون } . يخالفون ويتركون . وأصل النقض الكسر .
قوله تعالى : { عهد الله } . أمر الله الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله : ( ألست بربكم قالوا بلى ) وقيل : أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) الآية . وقيل : أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته .
قوله تعالى : { من بعد ميثاقه } . توكيده . والميثاق : العهد المؤكد .
قوله تعالى : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } . يعنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام ، لأنهم قالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض وقال المؤمنون لا نفرق بين أحد من رسله . وقيل : أراد به الأرحام .
قوله تعالى : { ويفسدون في الأرض } . بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
قوله تعالى : { أولئك هم الخاسرون } . المغبونون ، ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب .
ثم وصف الفاسقين فقال : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه{[79]} والذي بينهم وبين عباده{[80]} الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات ، فلا يبالون بتلك المواثيق ، بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه ، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق .
{ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة ، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته ، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه ، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب ، وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق{[81]} التي أمر الله أن نصلها .
فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق ، وقاموا بها أتم القيام ، وأما الفاسقون ، فقطعوها ، ونبذوها وراء ظهورهم ، معتاضين عنها بالفسق والقطيعة ، والعمل بالمعاصي ، وهو : الإفساد في الأرض .
ف { فَأُولَئِكَ } أي : من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا والآخرة ، فحصر الخسارة فيهم ، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ، ليس لهم نوع من الربح ، لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان ، فمن لا إيمان له لا عمل له ، وهذا الخسار هو خسار الكفر ، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا ، وقد يكون معصية ، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب ، المذكور في قوله تعالى : { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق ، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، وحقيقة فوات الخير ، الذي [ كان ] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه .
ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء ، كما فصل في أول السورة صفة المتقين ؛ فالمجال ما يزال - في السورة - هو مجال الحديث عن تلك الطوائف ، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور :
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . أولئك هم الخاسرون ) . .
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون ؟ وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون ؟ وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ؟
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة ، وتصوير نماذج ، لا مجال تسجيل حادثة ، أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها . فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ؛ وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع ؛ وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة ، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة ، فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ؛ وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون .
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين ؛ والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !
( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) . .
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة : إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي . . أن يعرف خالقه ، وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله ، ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . . وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم - كما سيجيء ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده ، وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه ، فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدا من العهود .
( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) . .
والله أمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية ، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى ، وانحلت الروابط ، ووقع الفساد في الأرض ، وعمت الفوضي .
والفساد في الأرض ألوان شتى ، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله ، ونقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما ، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض ، ومنهج الله بعيد عن تصريفها ، وشريعة الله مقصاة عن حياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال ، وللحياة والمعاش ؛ وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين .
{ الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولََئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يضلّ بالمثل الذي ضربه لأهل النفاق غيرهم ، فقال : ومَا يُضِلّ اللّهُ بالمثل الذي يضربه على ما وصف قبل في الاَيات المتقدمة إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه .
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونقضهم ذلك تركهم العمل به .
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الاَيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عنى الله جل ذكره بقوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ وبقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ فكل ما في هذه الاَيات فعذل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قصصهم . قالوا : فعهد الله الذي نقضوه بعد ميثاقه : هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم . ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك عن الناس ، بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه . فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً .
وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميع أهل الشرك والكفر والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها الشاهدة لهم على صدقهم . قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبهم الرسل والكتب ، مع علمهم أن ما أتوا به حق .
وقال آخرون : العهد الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، الذي وصفه في قوله : وَإذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وأشْهَدَهُمْ على أنْفُسِهِمْ الاَيتين ، ونقضُهم ذلك ، تركهم الوفاء به .
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك ، قول من قال : إن هذه الاَيات نزلت في كفار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما قرب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصصهم فيما مضى من كتابنا هذا .
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ وقوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبالْيَوْمِ الاَخِرِ فيهم أنزلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله . غير أن هذه الاَيات عندي وإن كانت فيهم نزلت ، فإنه معنيّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضلال ، ومعنيّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصةً جميعُ المنافقين ، وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود جميع من كان لهم نظيرا في كفرهم . وذلك أن الله جل ثناؤه يعمّ أحيانا جميعهم بالصفة لتقديمه ذكر جميعها في أول الاَيات التي ذكرتْ قصصهم ، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضهم لتفصيله في أول الاَيات بين فريقيهم ، أعني فريق المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريق كفار أحبار اليهود .
فالذين ينقضون عهد الله : هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وتبيين نبوّته للناس الكاتمون بيان ذلك بعد علمهم به وبما قد أخذ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ لَتُبَيّنُنّهُ للنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ فَنبذوهُ وراءَ ظهُورهِمْ ونبذهم ذلك وراء ظهورهم : هو نقضهم العهد الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه ، وتَرْكُهم العمل به .
وإنما قلت : إنه عنى بهذه الاَيات من قلت إنه عَنَى بها ، لأن الاَيات من ابتداء الاَيات الخمس والستّ من سورة البقرة فيهم نزلت إلى تمام قصصهم ، وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانه في قوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُروا نِعْمَتِي الّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصة دون سائر البشر ما يدلّ على أن قوله : الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ مقصود به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم .
غير أن الخطاب وإن كان لمن وصفت من الفريقين فداخل في أحكامهم وفيما أوجب الله لهم من الوعيد والذمّ والتوبيخ كل من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي . فمعنى الآية إذا : وما يضلّ به إلا التاركين طاعة الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم في الكتب التي أنزلها إلى رسله وعلى ألسن أنبيائه باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبا عندهم أنه رسول من عند الله مفترضة طاعته وترك كتمان ذلك لهم . ونَكْثُهم ذلك ونَقْضُهم إياه ، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم فيما وصفت أنه عهد إليهم بعد إعطائهم ربهم الميثاق بالوفاء بذلك كما وصفهم به جل ذكره بقوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يأخُذونَ عَرَضَ هَذَا الأدنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإنْ يأتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يأخُذُوهُ ألَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ أنْ لا يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ .
وأما قوله : مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ : فإنه يعني من بعد توثق الله فيه بأخذ عهوده بالوفاء له بما عهد إليهم في ذلك ، غير أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان توثّقا ، والميثاق اسم منه ، والهاء في الميثاق عائدة على اسم الله .
وقد يدخل في حكم هذه الآية كل من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار في نقض العهد وقطع الرحم والإفساد في الأرض . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : الّذِينَ يَنْقُضونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فإياكم ونقض هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضه وأوعد فيه وقدم فيه في آي القرآن حجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق ، فمن أعطى عهد الله وميثاقه من ثمرة قلبه فليف به لله .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِهِ أنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ فهي ست خلال في أهل النفاق إذا كانت لهم الظّهَرَة أظهروا هذه الخلال الستّ جميعا : إذا حدّثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض . وإذا كانت عليهم الظّهَرَة أظهروا الخلال الثلاث : إذا حدّثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .
القول في تأويل قوله تعالى : ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ .
قال أبو جعفر : والذي رغب الله في وصله وذمّ على قطعه في هذه الآية : الرحم ، وقد بين ذلك في كتابه فقال تعالى : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وتُقَطّعُوا أرْحَامَكُمْ وإنما عنى بالرحم : أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رحم والدة واحدة ، وقطع ذلك ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها وأوجب من برّها ووصلها أداء الواجب لها إليها : من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطف عليها بما يحقّ التعطف به عليها . و«أن » التي مع «يوصل » في محل خفض بمعنى ردّها على موضع الهاء التي في «به » فكان معنى الكلام : ويقطعون الذي أمر الله بأن يوصل . والهاء التي في «به » هي كناية عن ذكر «أن يوصل » .
وبما قلنا في تأويل قوله : ويَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ وأنه الرحم كان قتادة يقول :
حدثنا بشر بن معاذ . قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وَيَقْطَعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة .
وقد تأوّل بعضهم ذلك أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامهم ، واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية ، وأن لا دلالة على أنه معنيّ بها : بعض ما أمر الله بوصله دون بعض .
قال أبو جعفر : وهذا مذهب من تأويل الآية غير بعيد من الصواب ، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه ، فوصفهم بقطع الأرحام . فهذه نظيرة تلك ، غير أنها وإن كانت كذلك فهي دالة على ذمّ الله كل قاطع قطع ما أمر الله بوصله رحما كانت أو غيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : ويُفْسِدُونَ في الأرْضِ .
قال أبو جعفر : وفسادهم في الأرض هو ما تقدم وَصْفُنَاه قبل من معصيتهم ربهم وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وجحدهم نبوّته ، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حق من عنده .
القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ .
قال أبو جعفر : والخاسرون جمع خاسر ، والخاسرون : الناقصون أنفسهم حظوظها بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه . فكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كان إلى رحمته ، يقال منه : خَسِرَ الرجل يَخْسَر خَسْرا وخُسْرانا وخَسَارا ، كما قال جرير بن عطية :
إنّ سَلِيطا فِي الخسَارِ إنّهْ *** أوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أقِنّهْ
يعني بقوله في الخسار : أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم .
وقد قيل : إن معنى أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ : أولئك هم الهالكون . وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية بحرمان الله إياه ما حرمه من رحمته بمعصيته إياه وكفره به . فحمل تأويل الكلام على معناه دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها ، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه .
حدثت به عن المنجاب . قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل «خاسر » ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب .
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 27 )
النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم ، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به .
واختلف في تفسير هذا العهد : فقال بعض المتأولين : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر .
وقال آخرون : بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد . ( {[382]} )
وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وان لا يعبدوا غيره .
وقال آخرون : بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يكتموا أمره .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فالآية على هذا( {[383]} ) في أهل الكتاب ، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار . ( {[384]} )
وقال قتادة : «هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لم ينسب الطبري شيئاً من هذه الأقوال ، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية ، والضمير في { ميثاقه } يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى ، وميثاق مفعال من الوثاقة ، وهي الشد في العقد والربط ونحوه ، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر( {[385]} ) كما قال عمرو بن شييم : [ الوافر ] .
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عنّي . . . وبَعْدَ عَطَائك المائَةَ الرّتاعا( {[386]} ) ؟
وقوله تعالى : { ما أمر الله به أن يوصل } ، { ما } في موضع نصب ب { يقطعون } واختلف ما الشيء الذي أمره بوصله ؟
فقال قتادة : «الأرحام عامة في الناس » وقال غيره : «خاصة فيمن آمن بمحمد ، كان الكفار يقطعون أرحامهم » . وقال جمهور أهل العلم : الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الحق ، والرحم جزء من هذا( {[387]} ) ، و { أن } في موضع نصب بدل من { ما } ، أو مفعول من أجله . وقيل { أن } في موضع خفض بدل من الضمير في { به }( {[388]} ) ، وهذا متجه .
{ ويفسدون في الأرض } يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره .