تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (27)

26

وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } الآيات ، إلى أن قال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 19 - 25 ] .

وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله ، ونقضهم{[1429]} ذلك هو تركهم العمل به .

وقال آخرون : بل هي{[1430]} في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به ، وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك [ عن ]{[1431]} الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنًا قليلا . وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وقول مقاتل بن حيان .

وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق . وعهده إلى جميعهم في توحيده : ما وضع لهم{[1432]} من الأدلة الدالة على ربوبيته ، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها{[1433]} الشاهدة لهم على صدقهم ، قالوا : ونقضهم ذلك : تركهم{[1434]} الإقرار بما ثبتت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق ، وروي أيضًا عن مقاتل بن حيان{[1435]} نحو هذا ، وهو حسن ، [ وإليه مال الزمخشري ، فإنه قال : فإن قلت : فما المراد بعهد الله ؟ قلت : ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد ، كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [ الأعراف : 172 ] إذ أخذ الميثاق عليهم في الكتب المنزلة عليهم لقوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ]{[1436]} .

وقال آخرون : العهد الذي ذكره [ الله ]{[1437]} تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ شَهِدْنَا ] }{[1438]} الآيتين [ الأعراف : 172 ، 173 ] ونقضهم{[1439]} ذلك تركهم الوفاء به . وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضًا ، حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } إلى قوله : { الْخَاسِرُونَ } قال : هي ست خصال من{[1440]} المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة{[1441]} على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظَّهْرَةُ{[1442]} عليهم أظهروا الخصال{[1443]} الثلاث : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا .

وكذا{[1444]} قال الربيع بن أنس أيضًا . وقال السدي في تفسيره بإسناده ، قوله تعالى : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } قال : هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه .

وقوله : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات ، كما فسره قتادة كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] ورجحه ابن جرير . وقيل : المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه .

وقال مقاتل بن حيان في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قال{[1445]} في الآخرة ، وهذا كما قال تعالى : { أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] .

وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب .

وقال ابن جرير في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الخاسرون : جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم [ و ]{[1446]} حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته ، كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك الكافر والمنافق خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته ، يقال منه : خسر الرجل يخسر خَسْرًا وخُسْرانًا وخَسارًا ، كما قال جرير بن عطية{[1447]} :

إن سَلِيطًا في الخَسَارِ إنَّه *** أولادُ قَومٍ خُلقُوا أقِنَّه{[1448]}


[1429]:في جـ: "وبغضهم".
[1430]:في جـ: "هو".
[1431]:زيادة من جـ، ط.
[1432]:في جـ، ط: "إليهم".
[1433]:في و: "بمثله".
[1434]:في جـ: "عدم".
[1435]:في جـ، ط، أ، و: "بن حيان أيضا".
[1436]:زيادة من جـ، ط، أ، و.
[1437]:زيادة من جـ.
[1438]:زيادة من جـ.
[1439]:في جـ: "وبغضهم".
[1440]:في جـ، ط: "في".
[1441]:في جـ: "الظهيرة".
[1442]:في جـ: "الظهيرة".
[1443]:في جـ: "أخفوا هذه الخصال".
[1444]:في جـ: "وقال".
[1445]:في أ: "أي".
[1446]:زيادة من جـ.
[1447]:في أ: "خطيئة".
[1448]:اليت في تفسير الطبري (1/417).