قوله : " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ " فيه أربعة وجوه :
أحدها : أَنُ يكون نعتاً ل " الفاسقين " .
والثاني : أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ .
والثالث : أَنَّهُ مرفوعٌ بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .
والرابع : أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي : هم الفاسقون . والعهدُ{[988]} في كلامهم على{[989]} معانٍ :
منها الوصيَّةُ والضَّمان ، والاكتفاء ، والأمر .
و " مِنْ بَعْدِ " متعلِّق ب " ينقضون " ، و " من " لابتداء الغاية ، وقيل : زائدة ، وليس بشيء . والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله تعالى ، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول ، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل .
و " الميثاقُ " العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ ، والجمع : المواثيق على الأصل ؛ لأن أصل مِيِثَاق : مِوْثَاق ، صارت " الواو " " ياء " ؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ ك " الميلاد " و " المِيعَاد " بمعنى الولادة ، والوعد ؛ وقال ابن عطية{[990]} : هو اسْمٌ في وضع المصدر ؛ كقوله : [ الوافر ]
أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوتِ عَنِّي *** وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا{[991]}
أي : إِعْطَائِكَ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ ، وجمعه مَوَاثِيق ، ومَيَاثِق ، أيضاً ، ومَيَاثيق ؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ : [ الطويل ]
حِمًى لاَ يَحُلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا *** وَلاَ نَسْأَلُ الأَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ{[992]}
والمَوْثِق : المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة ؛ ومنه قوله تعالى : { وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ } [ المائدة : 7 ] .
النقضُ إفسادُ ما أبرمته من بناءٍ أو حبل أو عهد ، والرجوع به إلى الحالة الأولى .
والنقاضة : ما نُقِضَ من حبل الشعر ، والمُنَاقضةُ في القولِ : أَنْ يتكَلَّمَ بما يناقض معناه ، والنَّقيضةُ في الشّعر ما ينقضُ به .
والنِّقض : المَنْقُوض ، واختلف النَّاسُ في هذا العَهْدِ ، فقيل : هو الذي أخذه اللهُ على بني آدم - عليه السَّلام - حين استخرجهم من ظهره .
قال المتكلمون : " هذا ساقطٌ " ؛ لأنَّه - تعالى - لا يحتج على العبادِ بعهد وميثاق لا يشعرون به ، كما لا يؤاخذهم بالسَّهْوِ والنسيان وقيل : هو وصيَّةُ اللهِ - تعالى - إلى خلقه ، وأمره إياهم بها أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به ، وقيل : بل نَصبَ الأدلّة على وحدانيته بالسماوات ، والأرضِ ، وسائر الصنعة ، وهو بمنزلة العَهْدِ ، ونقضهم ترك النَّظَر في ذلك .
وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوَّة محمد عليه السَّلام ، ولا يكتموا أمره ، فالآية على هذا في أَهْل الكتاب .
وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج : عهده جَلَّ وعَزَّ ما أخذه على النَّبيين ومَنْ تبعهم ، ألاَّ يَكْفُرُوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليلُ ذلك : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } إلى قوله : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي } [ آل عمران : 81 ] أي : عهدي .
قوله : { وَيَقْطَعُونَ } عطف على { يَنْقُضُونَ } فهي صلة أيضاً ، و " ما " موصولة ، و{ أَمَرَ اللهُ به } صلتها وعائدها .
وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب " يَقْطَعُونَ " والقطع معروف ، والمصدر - في الرّحم - القطيعة ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وَقُطَعَةٌ ، مثل " هُمَزَة " ، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعاً ، وقطعت النهر قُطُوعاً ، وقَطَعَت الطير قُطُوعاً ، وقُطَاعاً ، وقِطَاعاً إذا خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ .
وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ : إذا قلت مياههم ، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار .
قوله : { مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } " ما " في موضع نصب ب " يقطعون " و " أَنْ يُوصلَ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الجر على البدل من الضمير في " بِهِ " أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ ؛ كقول امرئ القيس : [ الطويل ]
أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ *** فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ{[993]}
أحدهما : أنه بدل من " مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ " بدل اشتمال .
والثاني : أنه مفعول من أجله ، فقدره المَهْدوِيّ : كراهية أن يوصل ، وقدره غيره : ألا يوصل .
والرفع على أنه خبر مبتدأ [ مضمر ]{[994]} أي : هو أن يوصل ، وهذا بعيداً جداً ، وإن كان أبو البقاء ذكره .
واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل : صلة الأَرْحام ، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها ، وهو كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرابة ، وعلى هذا فالآية خاصة .
وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ، ولم يعملوا . وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم ، وتكذيب بعضهم . وقيل : الإشارة إلى دين الله ، وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده ، فهي عامة في كل ما أمر الله - تعالى - به أن يوصل ، هذا قول الجمهور .
وقيل : إن الله - تعالى - أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين ، فانقطعوا عن المؤمنين ، واتصلوا بالكفار .
وقيل : إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن ، وهم كانوا مشتغلين بذلك .
و " يُفْسِدُونَ " عطف على الصّلة أيضاً ، و " في الأَرْضِ " متعلق به .
والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم .
وقيل : يعبدون غير الله ، ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، ثم إنه - تعالى - أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال : " أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ " كقوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
[ البقرة : 5 ] ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر " الذِينَ يَنْقُضُونَ " إذا جعل مبتدأ .
وإن لم يجعل مبتدأ ، فهي مستأنفة ، فلا مَحلّ لها حينئذ ، و " هم " زائدة ، ويجوز أن يكون " هم " مبتدأ ثان ، و " الخَاسِرُونَ " خبره ، والثاني وخبره خبر الأول .
والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز .
والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره ؛ قال جرير : [ الرجز ]
إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ *** أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ{[995]}
يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم .
قال الجوهري : وخسرت الشيء بالفتح - وأخسرته نقصته .
والخَسَار والخَسَارَة والْخَيْسَرَى : الضَّلال والهلاك . فقيل للهالك : خاسر ؛ لأنه خسر نفسه ، وأهله يوم القيامة ، ومنع منزله من الجَنّة .
قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه ، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه ، فلا يحل له نقضه ، سواء أكان بين مسلم أم غيره ، لذم الله - تعالى - من نقض عهده .
وقد قال : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] وقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } [ الأنفال : 58 ] فنهاه عن الغَدْرِ ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.