اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (27)

قوله : " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ " فيه أربعة وجوه :

أحدها : أَنُ يكون نعتاً ل " الفاسقين " .

والثاني : أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ .

والثالث : أَنَّهُ مرفوعٌ بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } .

والرابع : أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي : هم الفاسقون . والعهدُ{[988]} في كلامهم على{[989]} معانٍ :

منها الوصيَّةُ والضَّمان ، والاكتفاء ، والأمر .

و " مِنْ بَعْدِ " متعلِّق ب " ينقضون " ، و " من " لابتداء الغاية ، وقيل : زائدة ، وليس بشيء . والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله تعالى ، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول ، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل .

و " الميثاقُ " العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ ، والجمع : المواثيق على الأصل ؛ لأن أصل مِيِثَاق : مِوْثَاق ، صارت " الواو " " ياء " ؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ ك " الميلاد " و " المِيعَاد " بمعنى الولادة ، والوعد ؛ وقال ابن عطية{[990]} : هو اسْمٌ في وضع المصدر ؛ كقوله : [ الوافر ]

أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوتِ عَنِّي *** وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا{[991]}

أي : إِعْطَائِكَ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ ، وجمعه مَوَاثِيق ، ومَيَاثِق ، أيضاً ، ومَيَاثيق ؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ : [ الطويل ]

حِمًى لاَ يَحُلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا *** وَلاَ نَسْأَلُ الأَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ{[992]}

والمَوْثِق : المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة ؛ ومنه قوله تعالى : { وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ } [ المائدة : 7 ] .

فَصْلٌ في النقض

النقضُ إفسادُ ما أبرمته من بناءٍ أو حبل أو عهد ، والرجوع به إلى الحالة الأولى .

والنقاضة : ما نُقِضَ من حبل الشعر ، والمُنَاقضةُ في القولِ : أَنْ يتكَلَّمَ بما يناقض معناه ، والنَّقيضةُ في الشّعر ما ينقضُ به .

والنِّقض : المَنْقُوض ، واختلف النَّاسُ في هذا العَهْدِ ، فقيل : هو الذي أخذه اللهُ على بني آدم - عليه السَّلام - حين استخرجهم من ظهره .

قال المتكلمون : " هذا ساقطٌ " ؛ لأنَّه - تعالى - لا يحتج على العبادِ بعهد وميثاق لا يشعرون به ، كما لا يؤاخذهم بالسَّهْوِ والنسيان وقيل : هو وصيَّةُ اللهِ - تعالى - إلى خلقه ، وأمره إياهم بها أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به ، وقيل : بل نَصبَ الأدلّة على وحدانيته بالسماوات ، والأرضِ ، وسائر الصنعة ، وهو بمنزلة العَهْدِ ، ونقضهم ترك النَّظَر في ذلك .

وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوَّة محمد عليه السَّلام ، ولا يكتموا أمره ، فالآية على هذا في أَهْل الكتاب .

وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج : عهده جَلَّ وعَزَّ ما أخذه على النَّبيين ومَنْ تبعهم ، ألاَّ يَكْفُرُوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليلُ ذلك : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ } إلى قوله : { وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي } [ آل عمران : 81 ] أي : عهدي .

قوله : { وَيَقْطَعُونَ } عطف على { يَنْقُضُونَ } فهي صلة أيضاً ، و " ما " موصولة ، و{ أَمَرَ اللهُ به } صلتها وعائدها .

وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً ، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب " يَقْطَعُونَ " والقطع معروف ، والمصدر - في الرّحم - القطيعة ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وَقُطَعَةٌ ، مثل " هُمَزَة " ، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعاً ، وقطعت النهر قُطُوعاً ، وقَطَعَت الطير قُطُوعاً ، وقُطَاعاً ، وقِطَاعاً إذا خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ .

وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ : إذا قلت مياههم ، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار .

قوله : { مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } " ما " في موضع نصب ب " يقطعون " و " أَنْ يُوصلَ " فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : الجر على البدل من الضمير في " بِهِ " أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ ؛ كقول امرئ القيس : [ الطويل ]

أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ *** فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ{[993]}

أي : أمِنْ نَأْيِهَا .

والنصب وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من " مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ " بدل اشتمال .

والثاني : أنه مفعول من أجله ، فقدره المَهْدوِيّ : كراهية أن يوصل ، وقدره غيره : ألا يوصل .

والرفع على أنه خبر مبتدأ [ مضمر ]{[994]} أي : هو أن يوصل ، وهذا بعيداً جداً ، وإن كان أبو البقاء ذكره .

واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل : صلة الأَرْحام ، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها ، وهو كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرابة ، وعلى هذا فالآية خاصة .

وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ، ولم يعملوا . وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم ، وتكذيب بعضهم . وقيل : الإشارة إلى دين الله ، وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه ، وحفظ حدوده ، فهي عامة في كل ما أمر الله - تعالى - به أن يوصل ، هذا قول الجمهور .

وقيل : إن الله - تعالى - أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين ، فانقطعوا عن المؤمنين ، واتصلوا بالكفار .

وقيل : إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن ، وهم كانوا مشتغلين بذلك .

و " يُفْسِدُونَ " عطف على الصّلة أيضاً ، و " في الأَرْضِ " متعلق به .

والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم .

وقيل : يعبدون غير الله ، ويجورون في الأفعال ، إذ هي بحسب شهواتهم ، ثم إنه - تعالى - أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال : " أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ " كقوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

[ البقرة : 5 ] ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر " الذِينَ يَنْقُضُونَ " إذا جعل مبتدأ .

وإن لم يجعل مبتدأ ، فهي مستأنفة ، فلا مَحلّ لها حينئذ ، و " هم " زائدة ، ويجوز أن يكون " هم " مبتدأ ثان ، و " الخَاسِرُونَ " خبره ، والثاني وخبره خبر الأول .

والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز .

والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره ؛ قال جرير : [ الرجز ]

إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ *** أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ{[995]}

يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم .

قال الجوهري : وخسرت الشيء بالفتح - وأخسرته نقصته .

والخَسَار والخَسَارَة والْخَيْسَرَى : الضَّلال والهلاك . فقيل للهالك : خاسر ؛ لأنه خسر نفسه ، وأهله يوم القيامة ، ومنع منزله من الجَنّة .

فصل

قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه ، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه ، فلا يحل له نقضه ، سواء أكان بين مسلم أم غيره ، لذم الله - تعالى - من نقض عهده .

وقد قال : { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] وقد قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } [ الأنفال : 58 ] فنهاه عن الغَدْرِ ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .


[988]:- في أ: العمل.
[989]:- في ب: في.
[990]:- ينظر المحرر الوجيز: 1/113.
[991]:- البيت للقطامي ينظر ديوانه: ص 37، وتذكرة النحاة: ص 456، وخزانة الأدب: 8/136، 137، والدرر: 3/62، وشرح التصريح: 2/64، وشرح شواهد المغني: 2/849، وشرح عمدة الحافظ: ص 695، ولسان العرب (عطا)، (رهف)، ومعاهد التنصيص: 1/179، والمقاصد النحوية: 3/505، والأشباه والنظائر: 2/411، وأوضح المسالك: 3/211، وشرح الأشموني: 2/336، وشرح شذورة الذهب: ص 528، وشرح ابن عقيل: ص 414، وهمع الهوامع: 1/188، 2/95، والدر المصون: 1/168.
[992]:- البيت لعياض بن درة الطائي ينظر لسان العرب (وثق)؛ والمقاصد النحوية: 4/537، ونوادر أبي زيد: ص 65، وبلا نسبة في إصلاح المنطق: ص 138، والخصائص: 3/157، وشرح الأشموني: 3/715، وشرح شافية ابن الحاجب: 1/210، وشرح شواهد الشافية: ص 95، وشرح المفصل: 5/122، الدر المصون: 1/169.
[993]:- ينظر ديوانه: ص 177، ولسان العرب (قصر)، (بوص)، رصف المباني: ص 435، الدر المصون: 1/169.
[994]:- سقط في أ.
[995]:- ينظر البيت في ديوانه: (598)، القرطبي: (1/248)، الطبري: (1/417)، الدر المصون: (1/168).