نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (27)

ثم بينهم بقوله : { الذين ينقضون } من النقض{[1409]} وهو حل أجزاء الشيء بعضها عن بعض { عهد الله } أي الذي{[1410]} أخذه عليهم على ما له من العظمة بما ركز فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل والعهد التقدم في الأمر - قاله الحرالي .

{[1411]} ولما كان المراد عهداً خاصاً وهو إرسال الرسل عليهم السلام أثبت الخبر{[1412]} فقال : { من بعد ميثاقه }{[1413]} أي بدلالة الكتب على ألسنة الرسل مع تقريبه من الفطر وتسهيله للنظر ، والوثاق شدة الربط وقوة ما به يربط - قاله الحرالي { ويقطعون ما أمر الله } أي الملك الأعظم ، ولما كان البيان بعد الإجمال أروع للنفس قال : { به } ثم فسره{[1414]} بقوله : { أن يوصل }{[1415]} أي من الخيرات ، قال الحرالي : والقطع الإبانة في الشيء{[1416]} الواحد والوصل مصيراً لتكملة مع المكمل شيئاً واحداً كالذي يشاهد في إيصال الماء ونحوه وهو إعلام بأنهم يقطعون متصل الفطرة ونحوها فيسقطون عن مستواها وقد أمر الله أن يوصل{[1417]} بمزيد علم يتصل بها حتى يصل نشؤها إلى أتم ما تنتهي إليه ، وكذلك حالهم في كل أمر يجب أن يوصل فيأتون فيما يطلب{[1418]} فيه الأمر الأكمل بضده الأنقص - انتهى .

ويفسدون{[1419]} } ولما قصر الفعل ليكون أعم قال : { في الأرض } أي بالنكوب{[1420]} عن طريق الحق . قال الحرالي{[1421]} : ولما كانت الأرض موضوعة للنشىء منها وفيها وموضع ظهور عامة الصور الرابية{[1422]} اللازمة الجسمية ومحل تنشؤ صورة النفس بالأعمال{[1423]} والأخلاق وكان الإفساد نقض الصور كما قال تعالى :

{ وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد{[1424]} } [ البقرة : 205 ] كان{[1425]} فعلهم فيها من نحو فعلهم في وضع الضد السيء موضع ضده الأكمل والتقصير بما شأنه التكملة فكان إفساداً لذلك - انتهى .

ولما كان كأنه قيل : إن فعل هؤلاء لقبيح جداً فما حالهم ؟ قال : { أولئك } أي الأباعد من الصواب { هم الخاسرون{[1426]} } أي الذين قصروا{[1427]} الخسران عليهم ، والخسارة النقص فيما شأنه النماء - قاله الحرالي ، ومن المعلوم أن هذا نتيجة ما مضى من أوصافهم . قال الحرالي : ولما كان الخاسر من كان عنده رأس مال مهيأ للنماء والزيادة فنقصه عن سوء تدبير ، وكان أمرهم في الأحوال الثلاث المنسوقة{[1428]} حال من نقص ما شأنه النماء كانوا بذلك خاسرين فلذلك انختمت الآية بهذا ؛ وأشير إليهم بأداة البعد لوضعهم في أبعد المواضع عن محل الخير - انتهى .


[1409]:النقض فسخ التركيب/ وأصله في طاقات الحبل، واستعماله في إبطال العهد من حيث أن العهد يستعار له الحبل، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر والعهد الموثق ووضعه لما من شأنه أن يراعى ويتعهد كالوصية واليمين؛ وهذا العهد إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده وجوب وجوده وصدق رسوله وعليه نزل قوله تعالى "وأشهدهم على أنفسهم" أو المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره ولم يخالفوا حكمه.
[1410]:ليس في ظ.
[1411]:العبارة من هنا إلى "فقال" ليست في ظ.
[1412]:في م ومد: الجار.
[1413]:قال البيضاوي: الميثاق اسم لما يقع به الوثاقة وهي الاستحكام والمراد به ما وثق الله به عهد من الآيات والكتب وما وثقوه به من الالتزام والقبول.
[1414]:في م: فسر.
[1415]:يحتمل كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى كقطع الرحم والإعراض عن موالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير وتعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد المقصود بالذات من كل وصل وفصل – انتهى.
[1416]:في ظ: النفى – كذا.
[1417]:من ظ وفي الأصل وم ومد: توصل.
[1418]:من م ومد وظ، وفي الأصل: تطلب.
[1419]:العبارة من هنا إلى "قال" ليست في ظ.
[1420]:بهامش الأصل: أي الإعراض.
[1421]:قال علي المهائمي في البحر المحيط "وقال الزمخشري" الإفساد في الأرض تهييج الحروب والفتن قال: لأن في ذلك فسادا في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال تعالى "ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل" "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت قلت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوف أقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. وقال: وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم ومنه مادة حياتكم وهو سترة أمواتكم.
[1422]:فوقه في ظ: أي النامية -.
[1423]:في ظ: بأعمال.
[1424]:سورة 2 آية 205.
[1425]:بهامش ظ : جواب لما كانه ولما عطف عليها أمر لا بدونه – كذا.
[1426]:قال النسفي "الخاسرون" أي المغبونون حيث استدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب. وقال البيضاوي: الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الإنكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والنظر في حقائقها والاقتباس من أنوارها واشتراء النقض بالوفاء والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب. قال أبو حيان: "أولئك" أي أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقص والقطع والإفساد "هم الخاسرون" وفسر "الخاسرون" بالناقصين حظوظهم وشرفهم وبالهالكين قال القفال: الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملا يجزى عليه.
[1427]:من م وظ وفي الأصل ومد: قصر.
[1428]:في الأصل: المنشوقة –بالشين المعجمة، وفي م: منسوقة وفي مد: المتسوقة، ولا يتضح في ظ.