النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (27)

قوله عز وجل : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } .

أما النقض ، فهو ضد{[60]} الإبرام ، وفي العهد قولان :

أحدهما : الوصيَّة .

والثاني : الموثق .

والميثاق ما وَقَعَ التوثق به .

وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل :

أحدها : أن العهد وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه ، وعلى لسان رسله ، ونقضهم ذلك بترك العمل به .

والثاني : أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم{[61]} .

والثالث : أن عهده ما أنزله على أهل الكتاب [ من ] ، صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، والوصية المؤكدة باتباعه ، فذلك العهد الذي نقضوه بجحودهم له بعد إعطائهم الله تعالى الميثاق من أنفسهم ، ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، فأخبر سبحانه ، أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً .

والرابع : أن العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم ، الذي وصفه في قوله تعالى :

{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ{[62]} وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنا }

[ الأعراف : 172 ] .

وفي هذه الكناية التي في ميثاقه قولان :

أحدهما : أنها كناية ترجع إلى اسم الله وتقديره من بعد ميثاق الله .

والثاني : أنها كناية ترجع إلى العهد وتقديره من بعد ميثاق العهد .

وفيمن عَنَاهُ الله تعالى بهذا الخطاب ، ثلاثة أقاويل :

أحدها : المنافقون .

والثاني : أهل الكتاب .

والثالث : جميع الكفار .

قوله عز وجل : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } فيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : أن الذي أمر الله تعالى به أن يوصل هو رسوله ، فقطعوه بالتكذيب والعصيان ، وهو قول الحسن البصري .

والثاني : أنَّه الرحمُ والقرابةُ ، وهو قول قتادة .

والثالث : أنه على العموم في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل .

قوله عز وجلَّ : { وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ } وفي إفسادهم في الأرض قولان :

أحدهما : هو استدعاؤهم إلى الكفر .

والثاني : أنه إخافتهم السُّبُلَ وقطعهم الطريق .

وفي قوله : { أُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } قولان :

أحدهما : إن الخسران هو النقصان ، ومنه قول جرير :

إِنَّ سليطاً في الْخَسَارِ إِنَّهُ *** أَوْلاَدُ قَوْمٍ حلفوا افنه

يعني بالخَسَار ، ما ينقُصُ حظوظهم وشرفهم .

والثاني : أن الخسران ها هنا الهلاك ، ومعناه : أولئك هم الهالكون .

ومنهم من قال : كل ما نسبه الله تعالى من الخسران إلى غير المسلمين فإنما يعني الكفر ، وما نسبه إلى المسلمين ، فإنما يعني به الذنب .


[60]:- ضد: ساقطه من ق.
[61]:- صدقهم: في ق صدقه.
[62]:- في الأصول ذرياتهم بالجمع وهي قراءة غير الكوفيين وابن كثير. الآية 172 من سورة الأعراف.