فقال { أن اقذفيه في التابوت } يعني : ألهمناها أن اجعليه في التابوت فاقذفيه في اليم { فاقذفيه في اليم } يعني : نهر النيل { فليلقه اليم بالساحل } يعني : شاطئ النهر لفظه أمر ، ومعناه خبر ، ومجازه حتى يلقيه اليم بالساحل { يأخذه عدو لي وعدو له } يعني : فرعون . فاتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى وقيرت رأسه وخصاصه يعني : شقوقه ، ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا تابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسه ، فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك فذلك قوله تعالى : { وألقيت عليك محبةً مني } قال ابن عباس : أحبه وحببه إلى خلقه . قال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه . قال قتادة : ملاحة كانت في عيني موسى ما رآه أحد إلا عشقه { ولتصنع على عيني } يعني : لتربى بمرآى ومنظر مني ، قرأ أبو جعفر : ولتصنع بالجزم .
ثم قذفته في اليم ، أي : شط نيل مصر ، فأمر الله اليم ، أن يلقيه في الساحل ، وقيض أن يأخذه ، أعدى الأعداء لله ولموسى ، ويتربى في أولاده ، ويكون قرة عين لمن رآه ، ولهذا قال : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } فكل من رآه أحبه { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي ، وأي نظر وكفالة أجلّ وأكمل ، من ولاية البر الرحيم ، القادر على إيصال مصالح عبده ، ودفع المضار عنه ؟ ! فلا ينتقل من حالة إلى حالة ، إلا والله تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحة موسى ، ومن حسن تدبيره ، أن موسى لما وقع في يد عدوه ، قلقت أمه قلقا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا ، وكادت تخبر به ، لولا أن الله ثبتها وربط على قلبها ، ففي هذه الحالة ، حرم الله على موسى المراضع ، فلا يقبل ثدي امرأة قط ، ليكون مآله إلى أمه فترضعه ، ويكون عندها ، مطمئنة ساكنة ، قريرة العين ، فجعلوا يعرضون عليه المراضع ، فلا يقبل ثديا .
( أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل ) . .
حركات كلها عنف وكلها خشونة . . قذف في التابوت بالطفل . وقذف في اليم بالتابوت . وإلقاء للتابوت على الساحل . . ثم ماذا ? أين يذهب التابوت المقذوف فيه بالطفل المقذوف في اليم الملقى به على الساحل . من يتسلمه ? ( عدو لي وعدو له ) .
وفي زحمة هذه المخاوف كلها . وبعد تلك الصدمات كلها . ماذا ? ما الذي حدث للطفل الضعيف المجرد من كل قوة ? ما الذي جرى للتابوت الصغير المجرد من كل وقاية ?
( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) ! ! !
يا للقدرة القادرة التي تجعل من المحبة الهينة اللينة درعا تتكسر عليها الضربات وتتحطم عليه الأمواج . وتعجز قوى الشر والطغيان كلها أن تمس حاملها بسوء ؛ ولو كان طفلا رضيعا لا يصول ولا يجول بل لا يملك أن يقول . .
إنها مقابلة عجيبة في تصوير المشهد . مقابلة بين القوى الجبارة الطاغية التي تتربص بالطفل الصغير ، والخشونة القاسية فيما يحيط به من ملابسات وظروف . . والرحمة اللينة اللطيفة تحرسه من المخاوف ، وتقيه من الشدائد وتلفه من الخشونة ، ممثلة في المحبة لا في صيال أو نزال : ( ولتصنع على عيني ) . . وما من شرح يمكن أن يضيف شيئا إلى ذلك الظل الرفيق اللطيف العميق الذي يلقيه التعبير القرآني العجيب : ( ولتصنع على عيني )وكيف يصف لسان بشري ، خلقا يصنع على عين الله ? إن قصارى أي بشري أن يتأمله ويتملاه . . إنها منزلة وإنها كرامة أن ينال إنسان لحظة من العناية . فكيف بمن يصنع صنعا على عين الله ? إنه بسبب من هذا أطاق موسى أن يتلقى ذلك العنصر العلوي الذي تلقاه .
ولتصنع على عيني . تحت عين فرعون - عدوك وعدوي - وفي متناول يده بلا حارس ولا مانع ولا مدافع . ولكن عينه لا تمتد إليك بالشر لأني ألقيت عليك محبة مني . ويده لا تنالك بالضر وأنت تصنع على عيني .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد مننا عليك يا موسى مرّة أخرى حين أوحينا إلى أمك ، أن اقذفي ابنك موسى حين ولدتك في التابوت فاقْذِفِيهِ فِي اليَمّ يعني باليم : النيل فَلْيُلْقِهِ اليَمّ بالساحِلِ يقول : فاقذفيه في اليم ، يلقه اليم بالساحل ، وهو جزاء أخرج مخرج الأمر ، كأن اليم هو المأمور ، كما قال جلّ ثناؤه : " اتّبِعُوا سَبِيلَنَا ولْنَحْمِلْ خَطَاياكُمْ " يعني : اتبعوا سبيلنا نحمل عنكم خطاياكم ، ففعلت ذلك أمه به فألقاه اليم بمَشْرَعة آل فرعون ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما ولدت موسى أمه أرضعته ، حتى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إليه ، فصنعت به ما أمرها الله تعالى ، جعلته في تابوت صغير ، ومهدت له فيه ، ثم عمدت إلى النيل فقذفته فيه ، وأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كلّ غداة ، فبينا هو جالس ، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به وآسية ابنة مُزَاحم امرأته جالسة إلى جنبه ، فقال : إن هذا لشيء في البحر ، فأتوني به ، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ، ففتح التابوت فإذا فيه صبيّ في مهده ، فألقى الله عليه محبته ، وعطف عليه نفسه . وعنى جلّ ثناؤه بقوله : " يأْخُذْهُ عَدُوّ لي وَعَدُوّ لَهُ " ، فرعون هو العدوّ ، كان لله ولموسى .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : " فاقْذِفِيهِ فِي اليَمّ " وهو البحر ، وهو النيل .
واختلف أهل التأويل في معنى المحبة التي قال الله جلّ ثناؤه " وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي " فقال بعضهم : عنى بذلك أنه حببه إلى عباده . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن عليّ الصدائي والعباس بن محمد الدوري ، قالا : حدثنا حسين الجعفي عن موسى بن قبس الحضرمي ، عن سلمة بن كهيل ، في قول الله : " وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً منّي " قال العباس : حببتك إلى عبادي وقال الصّدَائي : حببتك إلى خلقي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أي حسنت خلقك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني إبراهيم بن مهدي ، عن رجل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، قوله : " وألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً منّي " قال : حسنا وملاحة .
قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله ألقى محبته على موسى ، كما قال جلّ ثناؤه " وألْقَيْتَ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي " فحببه إلى آسية امرأة فرعون ، حتى تبنّته وغذّته وربّته ، وإلى فرعون ، حتى كفّ عنه عاديته وشرّه . وقد قيل : إنما قيل : وألقيت عليك محبة مني ، لأنه حببه إلى كل من رآه . ومعنى " ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي " حببتك إليهم يقول الرجل لاَخر إذا أحبه : ألقيت عليك رحمتي : أي محبتي .
{ أن اقذفيه في التابوت } بأن اقذفيه ، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول . { فاقذفيه في اليم } والقذف يقال للإلقاء وللموضع كقوله تعالى : { وقذف في قلوبهم الرعب } وكذلك الرمي كقوله :
*** غلام رماه الله بالحسن يافعا ***
{ فليلقه اليم بالساحل } لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق الإرادة به ، وجعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر ، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم ، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض . { يأخذه عدو لي وعدو له } جواب { فليلقه } وتكرير { عدو } للمبالغة ، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع . قيل إنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قيرته وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه حبا شديدا كما قال سبحانه وتعالى : { وألقيت عليك محبة مني } أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون ، ويجوز أن يتعلق { مني } ب ألقيت أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لآن الماء يسحله فالتقط منه ، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره . { ولتصنع على عيني } لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك ، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك ، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك . وقرئ و { ولتصنع } بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر { ولتصنع } بالنصب وفتح التاء أي وليكن عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري .
{ أن اقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له } .
{ أنِ } تفسير لفعل { أوْحَيْنَا } لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير ليوحى .
والقذف : أصله الرمي ، وأطلق هنا على الوضع في التابوت ، تمثيلاً لهيئة المُخفى عمله ، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجراً ونحوه .
والتابوت : الصندوق . وتقدّم عند قوله تعالى : { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } في سورة البقرة ( 248 ) .
واليمّ : البحر ، والمراد به نهر النّيل .
والساحل : الشاطىء ، ولام الأمر في قوله فَلْيُلْقِهِ } دالة على أمر التكوين ، أي سخرنا اليَمّ لأن يلقيه بالساحل ، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد ، والمراد ساحل معهود ، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة .
والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها ، وقَذفه في التّابوت وفي اليَمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره ، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشراً أو في ضمن غيره ، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة . ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك .
وجزم { يَأْخُذْهُ } في جواب الأمر على طريقة جزم قوله { يفقهوا قولي } [ طه : 28 ] المتقدم آنفاً .
والعدوّ : فرعون ، فهو عدوّ الله لأنه انتحل لنفسه الإلهية ، وعدوّ موسى تقديراً في المستقبل ، وهو عدوّه لو علم أنه من غلمان إسرائيل لأنّه اعتزم على قتل أبنائهم .
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى }
عطف على جملة { أوحينا } أي حين أوحينا إلى أمّك ما كان به سلامتك من الموت ، وحين ألقيت عليك محبّة لتحصل الرقّة لواجده في اليَمّ ، فيحرص على حياته ونمائه ويتخذه ولداً كما جاء في الآية الأخرى { وقالت امرأة فرعون قرّةُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه } [ القصص : 9 ] ؛ لأنّ فرعون قد غلب على ظنه أنّه من غلمان إسرائيل وليس من أبناء القبط ، أو لأنه يخطر بباله الأخذ بالاحتياط .
وإلقاء المحبة مجاز في تعلّق المحبة به ، أي خلق المحبّة في قلب المحبّ بدون سبب عاديّ حتى كأنه وضعٌ باليد لا مقتضي له في العادة .
ووصف المحبّة بأنها من الله للدّلالة على أنها محبّة خارقة للعادة لعدم ابتداء أسباب المحبّة العرفيّة من الإلف والانتفاع ، ألا ترى قول امرأة فرعون : { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [ القصص : 9 ] مع قولها : { قرّة عين لي ولك } [ القصص : 9 ] ، فكان قرة عين لها قبل أن ينفعها وقبل اتخاذه ولداً .
جملة { ولتصنع على عيني } عطف على جملة { إذ أوحينا إلى أمك الخ . جُعل الأمران إتماماً لمنّة واحدة لأن إنجاءه من القتل لا يظهر أثره إلاّ إذا أنجاه من الموت بالذبول لترك الرضاعة ، ومن الإهمال المفضي إلى الهلاك أو الوهن إذا ولي تربيته من لا يشفق عليه الشفقة الجبليّة . والتقدير : وإذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله لأجل أن تُصنع على عيني .
والصنع : مستعار للتربية والتنمية ، تشبيهاً لذلك بصنع شيء مصنوع ، ومنه يقال لمن أنعم عليه أحد نعمة عظيمة : هو صنيعة فلان .