قوله : { أَن اقْذِفِيهِ }{[24135]} يجوز أن تكون " أَنْ " مفسِّرة ، لأن الوحي{[24136]} بمعنى القول ، ولم يذكر الزمخشري غيره{[24137]} . وجوز غيره أن تكون مصدرية ، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من " مَا يُوحَى " {[24138]} والضمائر في ( قوله : " أن ){[24139]} اقْذِفِيه إلى آخِرِهَا{[24140]} عائدة{[24141]} على موسى - عليه السلام-{[24142]} لأنه المحدِّث عنه{[24143]} .
وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله : { فاقذفيه{[24144]} فِي اليم } للتابوت ، وما بعده وما قبله لموسى{[24145]} - عليه السلام{[24146]}- وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجَاً للقرآن عن إعجازه فإنه{[24147]} قال : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ، ورجوع{[24148]} بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة{[24149]} لما يؤدي إليه من تنافر النظم ، فإن قلت{[24150]} : المقذُوفُ في البحر هو التابوتُ ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت{[24151]} : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر ، فيتنافر عليك{[24152]} النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون{[24153]} الذي وقع عليه التحدي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر{[24154]} .
قال أبو حيَّان : ولقائلٍ أن يقول : إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على{[24155]} الأقرب وعلى الأبعد ، كان{[24156]} عوده على{[24157]} الأقرب راجحاً{[24158]} ، وقد{[24159]} نص النحويون على هذا ، فعوده على التابوت في قوله : { فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم }{[24160]} راجح ، والجواب{[24161]} : أن أحدهما إذا كان محدِّثاً عنه{[24162]} والآخر فضلة كان عوده على المحدِّث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا{[24163]} على{[24164]} أبي{[24165]} محمد بن جزم{[24166]} في دعواه أن الضمير في قوله تعالى : { فَإنَّه{[24167]} رِجْسٌ }{[24168]} عائد على ( خِنْزِير ) لا على ( لَحْم ) ، لكونه{[24169]} أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه ، وغضروفه{[24170]} وعظمه وجلده ، فإن المحدِّث عنه هو{[24171]} لحم خنزير{[24172]} لا{[24173]} خنزير{[24174]} . وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام{[24175]} .
قوله : { فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ } هذا أمر معناه الخبر ، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله " يَأْخُذُه " ، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال وآكدها ، قال الزمخشري : لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجرى ماءُ اليَمِّ ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر ، ويتمثل رسمه فقيل : { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل }{[24176]} . و " بالسَّاحِلِ " يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال . أي : ملتبساً بالسَّاحل . وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى ( في ){[24177]} والقذفُ يستعمل{[24178]} بمعنى الإلقاء والوضع ، ومنه قوله : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب }{[24179]} واليَمُّ{[24180]} البحر ، والمراد{[24181]} به ههنا نيلُ مصرَ ( في قول الجميع ){[24182]} واليَمُّ : اسم يقع على النهر والبحر{[24183]} العظيم .
قال الكسائي : والسَّاحِلُ فاعل{[24184]} بمعنى مَفْعُول ، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي : يغمره{[24185]} إلى أعلاه " {[24186]} .
روي{[24187]} أنها اتخذت{[24188]} تابوتاً .
قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً ملحوجاً ، ووضعت فيه موسى ، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير{[24189]} ، ثم ألقته{[24190]} في النيل ، وكان يشرع منه نهر{[24191]} كبير في{[24192]} دار فرعون ، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء ، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه ، فأخرجوه ، وفتحوا رأسَه ، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً ، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك ، فذلك{[24193]} قوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }{[24194]} قال ابن عباس : أَحّبَّه وحبَّبَهُ{[24195]} إلى خَلْقِه{[24196]} .
وقال عكرمة : ما رآه أحد إلا أحبه .
فإن قيل : قوله : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له .
الأول : كونُه كافراً عدواً لله{[24197]} ، وكونه عدواً لموسى - عليه السلام{[24198]}- ، فإنه بحيث أو ظهر له{[24199]} على حاله لقتله .
والثاني : عدواً بحيث{[24200]} يؤول أمره إلى عداوته{[24201]} .
قوله{[24202]} : " مِنِّي " فيه{[24203]} وجهان : قال الزمخشري : " مِنِّي " {[24204]} لا يخلو{[24205]} إما أن يتعلق ب " أَلْقَيْتُ " فيكون المعنى : على أني أحببتك ، ومن أحبه الله أحبته القلوب .
وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل " مَحَبَّةٌ " {[24206]} أي : محبة حاصلة وواقعة مِني{[24207]} قد ركزتها أنا{[24208]} في القلوب ، وزرعتها فيها ، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ }{[24209]} . روي أنه كان على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه{[24210]} ، وهو كقوله - تعالى-{[24211]} :
{ سَيَجْعَلُ لَهُمُ{[24212]} الرحمن وُدّاً }{[24213]} قال القاضي{[24214]} : هذا الوجه أقرب ، لأنه حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين ؛ لأن{[24215]} ذلك إنما{[24216]} يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب .
فالمراد أول ما ذكر في كيفيته في الخلقة{[24217]} يستحلى ويغتبط به ، وكذلك كانت حاله{[24218]} مع فرعون وامرأته . ( ويمكن أن يقال ){[24219]} بل{[24220]} الاحتمال الأول أرجح لأن{[24221]} الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار ، وهو أن يقال : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةٌ حاصلةٌ مِنِّي وواقعة{[24222]} بتخليقي ، وعلى الأول لا حاجة إلى الإضمار{[24223]} .
وأما قوله : إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله . فممنوع ، لأن معنى الله هو اتصال النفع إلى عباده ، وهذا المعنى كان حاصلاً ي حقه في زمان صباه ، وعلم الله أن ذلك يستمر إلى آخر عمره ، فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة{[24224]} . قوله : " وَلِتُصْنَع " قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون{[24225]} على البناء للمفعول ، ونصب الفعل بإضمار ( أنْ ) بعد لام ( كي ){[24226]} ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها .
والتقدير : ليتلطف بك ولتصنع{[24227]} ، ( أو ليعطف عليك ){[24228]} . وترأم{[24229]} ولتصنع ، وتلك{[24230]} العلة المقدرة متعلقة بقوله : " وَأَلْقِيْتُ " أي : ألقيت عليك المحبة ( ليعطف عليك ولتصنع ، ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المَحَبَّةِ{[24231]} ){[24232]} .
والثاني : أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها ، تقديره : ولتصنع على عيني فعلت ذلك ، أي : ألقيت عليكَ محبةً مِنِّي ، أو كان كيت وكيت{[24233]} .
ومعنى " وَلِتُصْنَعَ " {[24234]} أي لِتُرَبِّى ويُحْسِن إلَيْكَ ، وأنا مراعيك ، ومراقبك كما يراعى الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به . قال الزمخشري{[24235]} .
ومجاز هذا{[24236]} أنَّ مَنْ صنعَ للإنسانِ شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه كما يُحِبُّ ، ولا يمكنه أن يخالف غرضه فكذا هنا{[24237]} . وفي كيفية المجاز قولان :
الأول : المراد من العَيْنِ العلم ، أي تُرَبَّى على علم مِنِّي ، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العَيْن على العلم ( لاشتباههما ){[24238]} من هذا الوجه{[24239]} .
الثاني : المراد من العَيْنِ الحراسة ، لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما لا يريده ، فالعين{[24240]} كأنها سبب الحراسة ، فأطلق اسم{[24241]} السبب على المسبب مجازاً{[24242]} وهو كقوله تعالى : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى }{[24243]} ويقال : عَيْنُ الله عليك ، إذا دعا له بالحفظ ( والحياطة{[24244]}{[24245]} ){[24246]} .
وقرأ الحسن وأبو نهيك{[24247]} : " وَلِتصْنَعَ " بفتح التاء{[24248]} .
( قال ثعلب ){[24249]} : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عينٍ مني{[24250]} .
وقال قريباً منه الزمخشري{[24251]} .
وقال أبو البقاء : أي : لتفعل ما آمرك بمرأى مني{[24252]} . وقرأ أبو جعفر وشيبة " وَلْتُصْنَعْ " بسكون{[24253]} اللام والعين وضم التاء{[24254]} ، ( وهو أمر معناه : لتُربِّ وليُحْسَن إليك{[24255]} ){[24256]} . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر{[24257]} .
ويحتمل مع كسر اللام أو{[24258]} سكونها حال تسكين العين أن{[24259]} تكون لام كي ، وإنما سكنت تشبيهاً بكَتْف وكَبد{[24260]} ، والفعل منصوب ، والتسكين في العين{[24261]} لأجل الإدغام لأنه{[24262]} لا يقرأ في الوصل إلا بإدغام فقط .