الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ} (39)

{ أَنِ } هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول . القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع . ومنه قوله تعالى : { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] وكذلك الرمي قال :

غُلاَمٌ رَمَاهُ اللَّهُ بِالْحُسْنِ يَافِعَا ***

أي حصل فيه الحسن ووضعه فيه ، والضمائر كلها راجعة إلى موسى . ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت : فيه هجنة ، لما يؤدي إليه من تنافر النظم .

فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت ، وكذلك الملقى إلى الساحل . قلت : ما ضرّك لو قلت : المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت ؟ حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدّي ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر . لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته أن لا تخطيء جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه ، سلك في ذلك سبيل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز ، أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه ، فقيل { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } روي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً ، فوضعته فيه وجصصته وقيرته ، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت ، فأمر به فأخرج ففتح ، فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً ، فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه . وظاهر اللفظ [ على ] أنّ البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه : لأنّ الماء يسحله أي يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل ، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوّهة نهر فرعون ، ثم أدّاه النهر إلى حيث البركة [ وألقيت عليك محبة مني ] { مِّنِّى } لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت ، فيكون المعنى على : أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب . وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة ، أي : محبة حاصلة أو واقعة مني ، قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك . روي : أنه كانت على وجهه مسحة جمال ، وفي عينيه ملاحة ، لا يكاد يصبر عنه من رآه { وَلِتُصْنَعَ على عينى } لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك ، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به ، وتقول للصانع : اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي . ولتصنع : معطوف على علة مضمرة ، مثل : ليتعطف عليك وترأم ونحوه . أو حذف معلله ، أي : ولتصنع فعلت ذلك . وقريء : «ولتصنع » و ( لتصنع ) ، بكسر اللام وسكونها . والجزم على أنه أمر وقرىء : «ولتصنع » بفتح التاء والنصب ، أي : وليكون عملك وتصرفك على عين مني .