فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ} (39)

وجملة : { أَنِ اقذفيه فِي التابوت } مفسرة ؛ لأن الوحي فيه معنى القول ، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه ، والقذف ها هنا : الطرح ، أي اطرحيه في التابوت وقد مرّ تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت { فاقذفيه فِي اليم } أي اطرحيه في البحر ، واليم : البحر أو النهر الكبير . قال الفراء : هذا أمر وفيه المجازاة ، أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل ، والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز ، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع . والساحل : هو شط البحر ، سمي ساحلاً ، لأن الماء سحله ، قاله ابن دريد . والمراد هنا : ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل ، والضمائر هذه كلها لموسى لا للتابوت ، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له ، وجملة : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لي وَعَدُوٌّ لَهُ } جواب الأمر بالإلقاء ، والمراد بالعدوّ : فرعون ، فإن أمّ موسى لما ألقته في البحر ، وهو النيل المعروف ، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون ، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره ، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه ؛ وقيل : إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه . وقيل : وجدته ابنة فرعون ، والأوّل أولى . { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً منّي } أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه . وقيل : جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه . وقال ابن جرير : المعنى وألقيت عليك رحمتي .

وقيل : كلمة «مِنْ » متعلقة ب{ ألقيت } ، فيكون المعنى : ألقيت مني عليك محبة أي أحببتك ، ومن أحبه الله أحبه الناس . { وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي } أي ولتربى وتغذى بمرأى مني ، يقال : صنع الرجل جاريته : إذا رباها ، وصنع فرسه : إذا داوم على علفه والقيام عليه ، وتفسير { على عَيْنِي } : بمرأى مني صحيح . قال النحاس : وذلك معروف في اللغة ، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى ، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله . وقال أبو عبيدة وابن الأنباري : إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي ، تقول : أتخذ الأشياء على عيني ، أي على محبتي . قال ابن الأنباري : العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار ، من قول العرب : غدا فلان على عيني ، أي على المحبة مني . قيل : واللام متعلقة بمحذوف ، أي فعلت ذلك لتصنع ، وقيل : متعلقة ب{ ألقيت } ، وقيل : متعلقة بما بعده ، أي ولتصنع على عيني قدّرنا مشي أختك . وقرأ ابن القعقاع : «ولتصنع » بإسكان اللام على الأمر ، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء . والمعنى : ولتكون حركتك وتصرّفك بمشيئتي ، وعلى عين مني .

/خ44