البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ} (39)

قال الزمخشري : و { أن } هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول .

وقال ابن عطية : و { أن } في قوله { أن اقذفيه } بدل من ما يعني أنّ { أن } مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب .

والوجهان سائغان والظاهر أن { التابوت } كان من خشب .

وقيل : من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً .

وقيل : قطناً محلوجاً وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في { اليم } وهو اسم للبحر العذب .

وقيل : اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله { فأغرقناهم في اليم } ولم يغرقوا في النيل .

والظاهر أن الضمير في { فاقذفيه في اليم } عائد على موسى ، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا { التابوت } إنما ذكر { التابوت } على سبيل الوعاء والفضلة .

وقال ابن عطية : والضمير الأول في { اقذفيه } عائد على موسى وفي الثاني عائد على { التابوت } ويجوز أن يعود على موسى .

وقال الزمخشري : والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت : المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلت : ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن ، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى .

ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحاً ، وقد نص النحويون على هذا فعوده على { التابوت } في قوله { فاقذفيه في اليم فليلقه اليم } راجح ، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرجح ، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله { فإنه رجس } عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور ، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير .

و { فليلقه } أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « قوموا فلأصل لكم » أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة ، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله { يأخذه } .

وقال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز ، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل { فليلقه اليم بالساحل } انتهى .

وقال الترمذي : إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به ، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر .

وقال الفراء : { فاقذفيه في اليم } أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم ، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه .

وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابناً فأباح لها ذلك .

وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء .

فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعدو الذي لله ولموسى هو فرعون ، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته { قصيه } وهي لا تدري أين استقر .

{ وألقيت عليك محبة مني } .

قيل : محبة آسية وفرعون ، وكان فرعون قد أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه .

قال ابن عباس : أحبه الله وحببه إلى خلقه .

وقال عطية : جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه .

وقال قتادة : كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلاّ أحبه .

وقال ابن عطية : وأقوى الأقوال أنه القبول .

وقال الزمخشري : { مني } لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك .

وقرأ الجمهور { ولِتُصْنَعَ } بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتُرَبَّى ويحسن إليك .

وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به .

قال قريباً منه قتادة .

وقال النحاس : يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك { ولتصنع } أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك .

وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء .

قال ثعلب : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني .

وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر ، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام .