الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ} (39)

قوله : { أَنِ اقْذِفِيهِ } : يجوز أن تكون " أنْ " مفسرةً ؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى القول ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه ، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً . ومحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلاً مِنْ " ما يوحَى " والضمائرُ في قوله { أَنِ اقْذِفِيهِ } إلى آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه . وجَوَّز بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } للتابوت ، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام . وعابَه الزمخشريّ وجعله تنافراً أو مُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال : " والضمائر كلُّها راجعة إلى موسى ، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم . فإنْ قلت : المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل . قلت : ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي ، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر " .

قال الشيخ : " ولقائلٍ أن يقولَ : إن الضمير إذا كان صالحاً لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقربِ راجحاً ، وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قولِه { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ } راجحٌ . والجواب : أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَدَّثاً عنه والآخرُ فضلةً ، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ . ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْواه : أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] عائدٌ على " خنزير " لا على " لحم " لكونه أقربَ مذكورٍ ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه ، فإن المحدَّث عنه هو " لحمَ خنزيرٍ " لا خنزير " . قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها .

قوله : { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ } هذا أمرٌ معناه الخبرُ ، ولكنه أمراً لفظاً جُزِم جوابُه في قوله : { يَأْخُذْهُ } . وإنما خَرَجَ بصيغة الأمر مبالغةً ؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها . وقال الزمخشري : " لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل ، وألقاه إليه ، سلك في ذلك سبيلَ المجاز ، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه " .

و " بالساحل " يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي : ملتبساً بالساحل ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل على أنَّ الباءَ ظرفيةٌ بمعنى " في " .

قوله : { مِّنِّي } فيه وجهان . قال الزمخشري : " لا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يتعلقَ ب " أَلْقَيْتُ " فيكون المعنى : على أني أَحْبَبْتُك ، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ ل " محبةً " أي : محبةً حاصلةً ، أو واقعةً مني ، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها " .

قوله : { وَلِتُصْنَعَ } قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول ، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام . وفيه وجهان ، أحدهما : أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها . والتقديرُ : ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ . وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله : " وألقيتُ " أي : ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ . ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة .

والثاني : أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه : ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك ، أو كان كيت وكيت . ومعنى لتُصْنَعَ أي : لِتُرَبَّى ويُحْسَنَ إليك ، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به . قاله الزمخشري .

وقرأ الحسن وأبو نهيك " ولِتَصْنَعَ " بفتح التاء . قال ثعلب : " معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني . وقال قريباً منه الزمخشري . وقال أبو البقاء : " أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني " .

وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ " ولْتُصْنَعْ " بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه : ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر . قلت : ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي ، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد ، والفعل منصوب . والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط .