معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (184)

قوله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } قال قتادة : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلاً ، فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً : يا بني فلان ، يا بني فلان ، يحذرهم بأس الله ووقائعه ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوت إلى الصباح ، فأنزل الله تعالى : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } ، محمد صلى الله عليه وسلم : { من جنة } جنون .

قوله تعالى : { إن هو } ، ما هو .

قوله تعالى : { إلا نذير مبين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (184)

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ أي : أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا أفكارهم ، وينظروا : هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء ، هل هو مجنون ؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه ، ودله وصفاته ، وينظروا في ما دعا إليه ، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها ، ولا من الأخلاق إلا أتمها ، ولا من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين ، ولا يدعو إلا لكل خير ، ولا ينهى إلا عن كل شر .

أفبهذا يا أولي الألباب من جنة ؟ أم هو الإمام العظيم والناصح المبين ، والماجد الكريم ، والرءوف الرحيم ؟

ولهذا قال : إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب ، ويحصل لهم الثواب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٌ} (184)

172

ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة - والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة - وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة - التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي - بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين . . ثم كان يدعوهم - بعد هذا التهديد - إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم . فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين . . كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به ؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت ؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول ، وهم غافلون :

( أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ؟ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ . . )

إن القرآن يهزهم من غفوتهم ، ويوقظهم من غفلتهم ، ويستنقذ - من تحت الركام - فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم . . إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها ، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة . . إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنيا باردا ؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها :

( أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . . )

لقد كانوا يقولون عن الرسول [ ص ] في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير : إن محمداً به جنة . وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب ، غير المعهود في أساليب البشر العاديين !

ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون ! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله [ ص ] وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر . . وقصة الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام - أبي جهل - في الاستماع لهذا القرآن خلسة ، ليالي ثلاثاً ، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة . . وكذلك قصة عتبة بن ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي [ ص ] وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة . . ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي [ ص ] وما معه من القرآن ؛ وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود : إنه سحر يؤثر . . كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر ؛ إنما هم كانوا يستكبرون عنه ؛ ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله . . وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم !

من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ؛ كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم ، عن الصلة بين التنبؤ والجنون ! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ؛ ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور ! . . كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد ، إنما يقوله عن جنة به ؛ وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول ، لأنه مجنون !

والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه . فلم يعرفوا عنه من قبل خللاًعن السواء ؛ وشهدوا له بالأمانة والصدق ، كما شهدوا له بالحكمة ؛ وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور . واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه !

القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله ، المكشوف لهم أمره كله . . أفهذا به جنة ؟ . . أفهذا قول مجنون وفعل مجنون ؟ . . كلا :

( ما بصاحبهم من جنة . . إن هو إلا نذير مبين ) . .

لا اختلاط في عقله ولا في قوله . إنما هو منذر مفصح مبين . لا يلتبس قوله بقول المجانين ، ولا تشتبه حاله بحال المجانين .