قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } والصديق : الكثير الصدق ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية . قال الضحاك : ثمانية نفر من هذه الأمة ، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته . { والشهداء عند ربهم } اختلفوا في نظم هذه الآية ، منهم من قال : هي متصلة بما قبلها ، والواو واو النسق ، وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين . قال الضحاك : هم الذين سميناهم . قال مجاهد : كل مؤمن صديق شهيد ، وتلا هذه الآية . وقال قوم : تم الكلام عند قوله : { هم الصديقون } ثم ابتدأ فقال : { والشهداء عند ربهم } والواو واو الاستئناف ، وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة . ثم اختلفوا فيهم فقال قوم : هم الأنبياء الذين يشهدون على أمم يوم القيامة ، يروى ذلك عن ابن عباس هو قول مقاتل ابن حيان . وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله . { لهم أجرهم } بما عملوا من العمل الصالح ، { ونورهم } على الصراط ، { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان عند أهل السنة : هو ما دل عليه الكتاب والسنة ، هو قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة ، فالذين جمعوا بين هذه الأمور هم الصديقون أي : الذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين ، ودون مرتبة الأنبياء .
[ وقوله : ] { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } كما ورد في الحديث الصحيح : { إن في الجنة مائة درجة ، ما بين الدرجتين{[987]} كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله } وهذا يقتضي شدة علوهم ورفعتهم ، وقربهم الله تعالى .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } فهذه الآيات جمعت أصناف الخلق ، المتصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، وأصحاب الجحيم ، فالمتصدقون الذين كان جل عملهم الإحسان إلى الخلق ، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم ، خصوصا بالنفع بالمال في سبيل الله .
والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح ، والعلم النافع ، واليقين الصادق ، والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله [ لإعلاء كلمة الله ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ] فقتلوا ، وأصحاب الجحيم هم الكفار الذين كذبوا بآيات الله .
وبقي قسم ذكرهم الله في سورة فاطر ، وهم المقتصدون الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات ، إلا أنهم حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله وحقوق عباده ، فهؤلاء مآلهم الجنة ، وإن حصل لهم عقوبة ببعض ما فعلوا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَآءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله ، فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم ، أولئك هم الصّدّيقون .
وقوله : والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله ، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله ، متناه عند قوله : الصّدّيقُونَ ، والصدّيقون مرفوعون بقوله : هم ، ثم ابتدىء الخبر عن الشهداء فقيل : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ، والشهداء في قولهم مرفوعون بقوله : لَهُمْ أجْرَهُمْ وَنُورُهُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسِلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصّدّيقُونَ قال : هذه مفصولة والشّهَداءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق أُولَئِكَ هُمُ الصّديقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ قال : هي للشهداء خاصة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : هي خاصة للشهداء .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن أبي الضحى أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ثم استأنف الكلام فقال : والشهداء عند ربهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُون هذه مفصولة ، سماهم الله صدّيقين بأنهم آمنوا بالله وصدّقوا رسله ، ثم قال : والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذه مفصولة .
وقال آخرون : بل قوله : والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا : إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله : والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ ثم ابتدىء الخبر عما لهم ، فقيل : لهم أجرهم ونورهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا أبو قيس أنه سمع هذيلاً يحدّث ، قال : ذكروا الشهداء ، فقال عبد الله : الرجل يقاتل للذكر ، والرجل يقاتل ليرى مكانه ، والرجل يقاتل للدنيا ، والرجل يقاتل للسمعة ، والرجل يقاتل للمغنم قال شعبة شيئا هذا معناه : والرجل يقاتل يريد وجه الله ، والرجل يموت على فراشه وهو شهيد ، وقرأ عبد الله هذه الآية وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، وليث عن مجاهد والّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُم وَنُورُهُمْ قال : كلّ مؤمن شهيد ، ثم قرأها .
حدثني صالح بن حرب أبو معمر ، قال : حدثنا إسماعيل بن يحيى ، قال : حدثنا ابن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن البراء بن عازب ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مُؤْمِنُو أُمّتِي شُهَداءُ » . قال : ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية وَالّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : الصّدّيقُونَ والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : بالإيمان على أنفسهم بالله .
وقال آخرون : الشهداء عند ربهم في هذا الموضع : النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا .
والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : الكلام والخبر عن الذين آمنوا ، متناه عند قوله : أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وإن قوله : والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ خبر مبتدأ عن الشهداء .
وإنما قلنا : إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر ، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره ، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه ، فيكون ذلك وجها ، وإن كان فيه بعض البعد ، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه ، إذا أطلق بغير وصل ، فتأويل قوله : والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ إذن والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله ، أو هلكوا في سبيله عند ربهم ، لهم ثواب الله إياهم في الاَخرة ونورهم .
وقوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ يقول تعالى ذكره : والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه ، أولئك أصحاب الجحيم .
ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم ، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } وعلى قراءة من قرأ : «إن المصَدقين » بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين .
والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل ، فلذلك قال : { ورسله } . و { الصديقون } بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج ، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي ، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي . وقال : مسيك من أمسك ، وأقول إنه يقال : مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء ، وفي هذا نظر .
وقوله تعالى : { والشهداء عند ربهم } اختلف الناس في تأويل ذلك ، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة : { والشهداء } معطوف على قوله : { الصديقون } والكلام متصل . ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال ، فقال بعضها : وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء ، فكل مؤمن شهيد ، قاله مجاهد . وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مؤمنو أمتي شهداء » ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية{[10979]} ، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً ، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة ، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به . وقال بعضها : وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد ، وذلك نحو قوله تعالى :
{ وتكونوا شهداء على الناس }{[10980]} [ البقرة : 143 ] فكأنه قال في هذه الآية : هم أهل الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم ، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله : { الصديقون } . وقوله : { والشهداء } ابتداء مستأنف .
ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف ، فقال بعضها معنى الآية : { والشهداء } بأنهم صديقون حاضرون { عند ربهم } . وعنى ب { الشهداء } : الأنبياء عليهم السلام ، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون ، وهذا يفسره قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }{[10981]} [ النساء : 41 ] . وقال بعضها قوله : { والشهيد } ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله ، واستأنف الخبر عنهم بأنهم : { عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده ، وفي الحديث : «إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما »{[10982]} .
وقوله تعالى : { لهم أجرهم ونورهم } خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال ، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة .
وقوله تعالى : { ونورهم } قال جمهور المفسرين : هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة . وقال مجاهد وغيره : هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها .
ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة ، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق ، فذكرهم تعالى بأنهم { أصحاب الجحيم } وسكانه .