قوله تعالى : { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا } ، إن عبدناه .
قوله تعالى : { ولا يضرنا } ، إن تركناه ، يعني : الأصنام ليس إليها نفع ولا ضر .
قوله تعالى : { ونرد على أعقابنا } ، إلى الشرك مرتدين .
قوله تعالى : { بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين } . أي : يكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين ، أي : أضلته .
قوله تعالى : { في الأرض حيران } ، قال ابن عباس : كالذي استغوته الغيلان في المهامه ، فأضلوه فهو حائر بائر ، والحيران : المتردد في الأمر ، لا يهتدي إلى مخرج منه .
قوله تعالى : { له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا } ، هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو إلى الآلهة ولمن يدعوا إلى الله تعالى ، كمثل رجل في رفقة ، ضل به الغول عن الطريق ، يدعوه أصحابه من أهل الرفقة هلم إلى الطريق ، ويدعوه الغول فيبقى حيران لا يدري أين يذهب ، فإن أجاب الغول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الطريق اهتدى .
قوله تعالى : { قل إن هدى الله هو الهدى } ، يزجر عن عبادة الأصنام ، كأنه يقول : لا تفعل ذلك فإن الهدى هدى الله ، لا هدى غيره .
قوله تعالى : { وأمرنا لنسلم } ، أي : أن نسلم .
قوله تعالى : { لرب العالمين } ، والعرب تقول : أمرتك لتفعل ، وأن تفعل ، وبأن تفعل .
{ 71 - 73 } { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
{ قُلْ } يا أيها الرسول للمشركين بالله ، الداعين معه غيره ، الذين يدعونكم إلى دينهم ، مبينا وشارحا لوصف آلهتهم ، التي يكتفي العاقل بذكر وصفها ، عن النهي عنها ، فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم ببطلانه ، قبل أن تقام البراهين على ذلك ، فقال : { أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا } وهذا وصف ، يدخل فيه كل مَن عُبِد مِنْ دون الله ، فإنه لا ينفع ولا يضر ، وليس له من الأمر شيء ، إن الأمر إلا لله .
{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } أي : وننقلب بعد هداية الله لنا إلى الضلال ، ومن الرشد إلى الغي ، ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم ، إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الأليم . فهذه حال لا يرتضيها ذو رشد ، وصاحبها { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ } أي : أضلته وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده . فبقي { حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والشياطين يدعونه إلى الردى ، فبقي بين الداعيين حائرا وهذه حال الناس كلهم ، إلا من عصمه الله تعالى ، فإنهم يجدون فيهم جواذب ودواعي{[293]} متعارضة ، دواعي{[294]} الرسالة والعقل الصحيح ، والفطرة المستقيمة { يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } والصعود إلى أعلى عليين .
ودواعي{[295]} الشيطان ، ومن سلك مسلكه ، والنفس الأمارة بالسوء ، يدعونه إلى الضلال ، والنزول إلى أسفل سافلين ، فمن الناس من يكون مع داعي الهدى ، في أموره كلها أو أغلبها ، ومنهم من بالعكس من ذلك . ومنهم من يتساوى لديه الداعيان ، ويتعارض عنده الجاذبان ، وفي هذا الموضع ، تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة .
وقوله : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } أي : ليس الهدى إلا الطريق التي شرعها الله على لسان رسوله ، وما عداه ، فهو ضلال وردى وهلاك . { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } بأن ننقاد لتوحيده ، ونستسلم لأوامره ونواهيه ، وندخل تحت عبوديته ، فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد ، وأكمل تربية أوصلها إليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَىَ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } . .
وهذا تَنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان ، يقول له تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأنداد والاَمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم ، أندعو من دون الله حجرا أو خشبا لا يقدر على نفعنا أو ضرّنا ، فنخصه بالعبادة دون الله ، وندع عبادة الذي بيده الضرّ والنفع والحياة والموت ، إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشرّ ، فلا شكّ أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحقّ وأولى وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه . ونُرَدّ على أَعْقَابِنَا يقول : ونردّ إلى أدبارنا فنرجع القهقري خلفنا لم نظفر بحاجتنا . وقد بينا معنى الردّ على العقب ، وأن العرب تقول لكلّ طالب حاجة لم يظفر بها ردّ على عقبيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وإنما يراد به في هذا الموضع : ونرد من الإسلام إلى الكفر بعد إذ هدانا الله فوفقنا له ، فيكون مثَلنا في ذلك مثَل الرجل الذي اسْتتبعه الشيطان يهوى في الأرض حيران . وقوله : اسْتَهْوَتْهُ : استفعلته ، من قول القائل : هوى فلان إلى كذا يهوي إليه ، ومن قول الله تعالى ذكره : فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ بمعنى : تنزع إليهم وتريدهم . وأما حيران : فإنه فعلان من قول القائل : قد حار فلان في الطريق فهو يحار فيه حَيْرةً وحَيَرانا وحَيْرُورَةً ، وذلك إذا ضلّ فلم يهتد للمحجة له أصحاب يدعونه إلى الهدى ، يقول : لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض أصحاب على المحجة واستقامة السبيل ، يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه ، يقولون له : ائتنا وترك إجراء حيران ، لأن «فعلان » ، وكل اسم كان على «فعلان » مما أنثاه «فعلى » فإنه لا يُجرى في كلام العرب في معرفة ولا نكرة . وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن كفر بالله بعد إيمانه فاتبع الشياطين من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه المقيمون على الدين الحقّ يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون والصواب الذي هم به متمسكون ، وهو له مفارق وعنه زائل ، يقولون له : ائْتنا ، فكن معنا على استقامة وهدى وهو يأبى ذلك ، ويتبع دواعي الشيطان ويعبد الاَلهة والأوثان .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل ، وخالف في ذلك جماعة . ذكر من قال ذلك : مثل ما قلنا
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قُلْ أنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرّنا وَنُرَدّ على أعْقابِنا بَعْدَ إذْ هَدَانا اللّهُ كالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّياطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أصحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الهُدَى ائْتِنا قال : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ولا يضرّنا هذه الاَلهة ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض ، يقول : مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضلّ الطريق ، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم ، يقولون ائتنا فإنا على الطريق ، فأبى أن يأتيهم . فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد ، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرّنا وَنُرَدّ على أعْقابِنا قال : هذا مثل ضربه الله للاَلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله ، كمثل رجل ضلّ عن الطريق ، إذ ناداه مناد : يا فلان ابن فلان هلمّ إلى الطريق وله أصحاب يدعونه : يا فلان هلمّ إلى الطريق فإن اتبع الداعي الأوّل انطلق به حتى يلقيه في الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق ، وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان ، يقول : مثل من يعبد هؤلاء الاَلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الهلكة والندامة . وقوله : كالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّياطِينُ فِي الأرْضِ : وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جدّه ، فيتبعها فيرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في الهلكة وربما أكلته ، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الاَلهة التي تعبد من دون الله عزّ وجلّ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : اسْتَهْوَتْهُ الشّياطِينُ فِي الأرْضِ قال : أضلته في الأرض حيران .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرّنا قال : الأوثان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : اسْتَهْوَتْهُ الشّياطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، كذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدى .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : حدثنا رجل ، عن مجاهد ، قال : حيران هذا مثل ضربه الله للكافر ، يقول : الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قُلْ أنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرّنا حتى بلغ : لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالَمِينَ علّمها الله محمدا وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة .
وقال آخرون في تأويل ذلك ، بما :
حدثني به محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : كالّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشّياطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أصحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الهُدَى فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحار عن الحقّ وضلّ عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس : إن الهدى هدى الله ، والضلالة ما تدعو إليه الجنّ .
فكأن ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال ويزعمون أن ذلك هدى ، وأن الله أكذبهم بقوله : قُلْ إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى لا ما يدعوه إليه أصحابه .
وهذا تأويل له وجه لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيران إليه أصحاب هدى ، وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه ، أنهم هم الذين سموه ، ولكن الله سماه هدى ، وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه . وغير جائز أن يسمي الله الضلال هدى لأن ذلك كذب ، وغير جائز وصف الله بالكذب لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته . وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب لو كان ذلك خبرا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له : تعال إلى الهدى فأما وهو قائل : يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ذلك وهم كانوا يدعونه إلى الضلال .
وأما قوله : ائْتِنا فإن معناه : يقولون : ائتنا هلمّ إلينا فحذف القول لدلالة الكلام عليه . وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «يدعونه إلى الهدى بينا » .
حدثنا بذلك ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : قراءة عبد الله : «يدعونه إلى الهدى بينا » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : في قراءة ابن مسعود : «لهُ أصحابٌ يدعونهُ إلى الهدَى بينا » . قال : الهدى : الطريق ، أنه بين .
وإذا قرىء ذلك كذلك ، كان البين من صفة الهدى ، ويكون نصب البين على القطع من الهدى ، كأنه قيل : يدعونه إلى الهدى البين ، ثم نصب «البين » لما حذفت الألف واللام ، وصار نكرة من صفة المعرفة . وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال : الهدى في هذا الموضع : هو الهدى ، على الحقيقة .
القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى وأُمِرْنا لَنُسْلِمَ لِرَبّ العالَمِينَ .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان القائلين لأصحابك : اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم فإنا على هدى : ليس الأمر كما زعمتم إنّ هُدَى اللّهِ هُو الهدَى يقول : إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه وسبيلنا الذي أمرَنا بلزومه ودينه الذي شرعه لنا فبينه ، هو الهدى والاستقامة التي لا شكّ فيها ، لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، فلا نترك الحقّ ونتبع الباطل . وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالَمِينَ يقول : وأمرنا ربنا وربّ كلّ شيء ، تعالى وجهه ، لنسلم له : لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية ، فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والاَلهة . وقد بينا معنى الإسلام بشواهده فيما مضى من كتابنا بما أغنى عن إعادته ، وقيل : وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ بمعنى : وأمرنا كي نسلم ، وأن نسلم لربّ العالمين ، لأن العرب تضع «كي » واللام التي بمعنى «كي » مكان «أن » و «أن » مكانها .
{ قل أندعو } أنعبد . { من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } ما لا يقدر على نفعنا وضرنا . { ونرد على أعقابنا } ونرجع إلى الشرك . { بعد إذ هدانا الله } فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام . { كالذي استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة ، استفعال من هوى يهوي هويا إذا ذهب . وقرأ حمزة " استهواه " بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل { نرد } أي : مشبهين الذين استهوته ، أو على المصدر أي ردا مثل رد الذي استهوته . { في الأرض حيران } متحيرا ضالا عن الطريق . { له أصحاب } لهذا المستهوى رفقه . { يدعونه إلى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق المستقيم ، أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر . { ائتنا } يقولون له ائتنا . { قل إن هدى الله } الذي هو الإسلام . { هو الهدى } وحده وما عداه ضلال . { وأمرنا لنسلم لرب العالمين } من جملة المقول عطف على أن هدى الله ، واللام التعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم . وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة .
المعنى : قل في احتجاجك : أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله ، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئاً موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } يعني الأصنام ، إذ هي جمادات : حجارة وخشب ونحوه ، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال : { ولا يضرنا } إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية . { ونرد على أعقابنا } تشبيه ، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدماً— وهي المشية الجيدة— فيرد يمشي القهقرى—وهي المشية الدنية— فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ، ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدي إلى عبادة الأصنام ، و { هدانا } بمعنى أرشدنا ، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمراً فخاب أمله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول قلق وقوله تعالى : { كالذي استهوته الشياطين } الآية الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رداً كرد الذي ، و { استهوته } استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته ، قال أبو عبيدة : ويحتمل ُهِوَّيه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم ، والهوى من هوى يهوى يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل ، ومنه قول الشاعر :
هوى ابْنِي مِنْ دَار أشرف . . . فَزَلَّتْ رِجُلُهُ ويَدُه
وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة ، وقد ذهب إليه أبو علي وقال : هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير : أن العرب تقول : هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئاً ، ويستعمل الهوى أيضاً في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى : { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم }{[4968]} ، ومنه قول شاعر الجن : [ السريع ]
تهوي إلى مَكّةَ تَبْغي الهُدَى . . . ما مؤمنُ الجِنّ كأنجاسِها{[4969]}
وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية ، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين » وقرأ الحسن «استهوته الشياطون » . وقال بعض الناس : هو لحن ، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم ، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين » وأمال استهواه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان » بالياء وإفراد الشيطان ، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود ، وقوله : { في الأرض } يحكم بأن { استهوته } إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع و { حيران } في موضع الحال ، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ، ومعناه ضالاً متحيراً وهو حال من الضمير في { استهوته } والعامل فيه { استهوته } ، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف ، وقوله { استهوته } يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته .
قال القاضي أبو محمد : فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدي نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتداداً على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائراً وقوله : { وله أصحاب } يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى ، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولاً يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضاً ، و { ائتنا } من الإتيان بمعنى المجيء ، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بيناً »{[4970]} وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله ، حكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي » في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق و ب «الأصحاب » أبوه وأمه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل : إن قوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما }{[4971]} نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت : كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي .
قال القاضي أبو محمد : حدثني أبي رضي الله عنه قال : سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول : من نازع أحداً من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله : { ائتنا } ، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا انتزاع حسن جداً ، وقوله تعالى : { قل إن هدى الله } الآية ، من قال إن «الأصحاب » هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال : إن قوله : { قل إن هدى الله هو الهدى } رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحاً وليس بهدي بل هو نفسه كفر وضلال ، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ، ومن قال : إن «الأصحاب » هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله : { قل إن هدى الله } بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه ، { وأمرنا لنسلم } اللام لام كي{[4972]} ومعها أن مقدرة ، ويقدر مفعول ل { أمرنا } مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا ، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم ، ومذهب سيبويه في هذه أن { لنسلم } هو موضع المفعول وأن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
أردت لأنسى ذكرها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4973]}