ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ، { وتقسطوا إليهم } تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ، { إن الله يحب المقسطين } قال ابن عباس : نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فرخص الله في برهم . وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها بالمدينة بهدايا ، ضباباً وأقطاً وسمناً ، وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلي علي بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حاتم عن هشام ابن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : " صليها " . وروي عن ابن عيينة قال : فأنزل الله فيها ، { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } .
فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم ، فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة ، لا محذور فيها ولا مفسدة{[1056]} كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } .
ثم بين - سبحانه - للمؤمنين القاعدة التى يسيرون عليها فى مودتهم وعداوتهم وصلتهم ومقاطعتهم . فقال - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية والتى بعدها روايات منها ، ما أخرجه البخارى وغيره " عن أسماء بنت أبى بكر الصديق قالت : أتتنى أمى راغبة - أى : فى عطائى - وهى مشركة فى عهد قريش . . . فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأصلها ؟ فأنزل الله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله } .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم صلي أمك " " .
وروى الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزى - وهى مشركة - على ابنتها اسماء بنت أبى بكر بهدايا ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة ، لكى تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ، فسألته ، فأنزل الله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } .
وقال الحسن وأبو صالح : نزلت هذه الآية فى قبائل من العرب كانوا قد صالحوا النبى - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه .
وقال مجاهد : نزلت فى قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم ، لتركهم فرض الهجرة .
قال الآلوسى - بعد أن ذكر هذه الروايات وغيرهما - : { والأكثرون على أنها فى كفرة اتصفوا بما فى حيز الصلة . . .
والذى تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين ، ترسمان للمسلمين المنهج الذى يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم ، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار ، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا ، فلا يأس من بره وصلته .
ومن قاتلنا ، وحاول إيذاءنا منهم . فعلينا أن نقطع صلتنا به ، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه ، حتى لا يتجاوز حدودمه معنا .
والمعنى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله } تعالى - أيها المؤمنون - { عَنِ } مودة وصلى الكافرين { الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } أي : لم يقاتلوكم من أجل أنكم مسلمون ، ولم يحاولوا إلحاق أى أذى بكم ، كالعمل على إخراجكم من دياركم .
لا ينهاكم الله - تعالى - عن { أَن تَبَرُّوهُمْ } أي : عن أن تحسنوا معاملتهم وتكرموهم . وعن أن { تقسطوا إِلَيْهِمْ } أى تقضوا إليهم بالعدل ، وتعاملوهم بمثل معاملتهم لكم ، ولا تجوروا عليهم فى حكم من الأحكام .
{ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي العادلين فى أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم ، الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم العدل من أنفسهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم .
استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وُصف بها العدوّ في قوله تعالى : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم } [ الممتحنة : 1 ] وقوله : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } [ الممتحنة : 2 ] ، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء ، استثنى الله أقواماً من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإِسلام .
فإن نظرنا إلى وصف العدوّ من قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم } وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف { يخرجون الرسول وإياكم } ، كان مضمون قوله : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } إلى آخره ، بياناً لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لا كل صفة على حيالها .
وإن نظرنا إلى أن وصف العدوّ هو عدوّ الدين ، أي مخالفة في نفسه مع ضميمة وصف { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } ، كان مضمون { لا ينهاكم الله } إلى آخره تخصيصاً للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم .
وأيَّاً ما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القومَ الذين لم يقاتلوا في الدين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم ، واتصال هذه الآية بالآيات التّي قبلها يجعل الاعتبارين سواء فدخل في حكم هذه الآية أصناف وهم حلفاءُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل خُزاعة ، وبني الحارث بن كعب بن عبد مناةَ بن كنانة ، ومزينة كان هؤلاء كلهم مظاهرين النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون ظهوره على قريش ، ومثل النساء والصبيان من المشركين ، وقد جاءت قُتيلة ( بالتصغير ويقال لها : قتلة ، مكبراً ) بنت عبد العُزى من بني عامر بن لؤي من قريش وهي أم أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى المدينة زائرةً ابنتها وقتيلة يومئذٍ مشركة في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش بعد صلح الحديبية ( وهي المدة التي نزلت فيها هذه السورة ) فسألت أسماءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصِل أمها ؟ قال : « نعم صِلي أُمَّكِ » ، وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في شأنها .
وقوله : { أن تبروهم } بدل اشتمال من { الذين لم يقاتلوكم في الدين } الخ ، لأن وجود ضمير الموصول في المبدل وهو الضمير المنصوب في { أن تبروهم } يجعل بر المسلمين بهم مما تشتمل عليه أحوالهم . فدخل في الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين نَفر من بني هاشم منهم العباس بن عبد المطلب ، والذينَ شملتهم أحكام هذه الآية كلّهم قد قيل إنهم سبب نزولها وإنما هو شمول وما هو بسبب نزول .
والبرّ : حسن المعاملة والإِكرامُ . وهو يتعدى بحرف الجر ، يقال : برّ به ، فتعديته هنا بنفسه على نزع الخافض .
والقسط : العدل . وضمن { تقسطوا } معنى تُفضوا فعدّي ب ( إلى ) وكان حقه أن يعدَّى باللام . على أن اللام و ( إلى ) يتعاقبان كثيراً في الكلام ، أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب ، فإن معاملة أحد بمثل ما عامل به من العدل .
وجملة و { إن الله يحب المقسطين } تذييل ، أي يحب كل مقسط فيدخل الذين يقسطون للذين حالفوهم في الدين إذا كانوا مع المخالفة محسنين معاملتهم .
وعن ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قوله تعالى : { لا ينهاكم الله } الآية قال : نسخها القتال ، قال الطبري : لا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه غير محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإِسلام . اه .
ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإِحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رخص في صلة الذين لم يناصبوا الحرب للمسلمين، ولم يظاهروا عليهم المشركين. فذلك قوله: {لا ينهاكم الله عن} صلة، {الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم} من مكة، {من دياركم أن تبروهم} يقول: أن تصلوهم {وتقسطوا إليهم} بالعدل يعني توفوا إليهم بعهدهم، {إن الله يحب المقسطين} الذين يعدلون بين الناس...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: {لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ} من أهل مكة {وَلم يُخْرِجوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبرّكم بهم.
واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية؛ فقال بعضهم: عُني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم...
وقال آخرون: عُنِي بها من غير أهل مكة مَنْ لم يهاجر... عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وكانت لها أمّ في الجاهلية يقال لها قُتَيلة ابنة عبد العُزى، فأتتها بهدايا وصِنَاب وأقط وَسمْن، فقالت: لا أقبل لك هدية، ولا تدخلي عليّ حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله" لا يَنْهاكُمْ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ "إلى قوله: "المُقْسِطِينَ"...
وقال آخرون: بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم قال: ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله {الّذِينَ لَمْ يُقاتلُوكُمْ فِي الدّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصُصْ به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهى عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها.
وقوله: {إنّ اللّهُ يُحِبّ المُقْسِطِينَ} يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبرّون من برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لا يحتمل أن يكون النهي في الإقساط لأن الإقساط، هو العدل، وليس ينهى عن العدل إلى من كان وليا أو عدوا. ألا ترى إلى قوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}؟ [المائدة: 8] فقد أخبر أنه لا يحل لهم ترك العدل لمكان العداوة. وإذا كان كذلك ثبت المراد من هذا النهي وغيره، وهو قوله: {أن تبروهم}.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قال الحسن: إن المسلمين استأذنوا النبي (صلى الله عليه وآله) في أن يبروا قرباتهم من المشركين، وكان ذلك قبل أن يؤمروا بالقتال لجميع المشركين، فنزلت هذه الآية {إن الله يحب المقسطين} يعني الذين يعدلون في الخلق. وقال ابن الزبير: هو عام في كل من كل بهذه الصفة، والذي عليه الاجماع والمفسرون بأن بر الرجل من شاء من أهل دار الحرب قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أمَرَهُم بشدة العداوة مع أعدائهم على الوجه الذي يفعلونه، وأمّا من كان فيهم ذا خُلُقٍ حَسَنٍ، أو كان منه للمسلمين وجهُ نَفْع أو رِفْقٍ -فقد أمَرَهم بالملاينة معه. والمُؤلَّفَةُ قلوبهم شاهدٌ لهذه الجملة، فِإِنَّ الله يحب الرِّفق في جميع الأمور.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء. وهذا أيضاً رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم. {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ دَخَلَ عَلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَأَكْرَمَهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لا ينهاكم الله} أي الذي اختص بالجلال والإكرام {عن الذين لم يقاتلوكم} أي بالفعل {في الدين} أي بحيث تكونون مظروفين له ليس شيئاً من أحوالهم خارجاً عنه، فأخرج ذلك القتال بسبب حق دنيوي لا تعلق له بالدين، وأخرج من لم يقاتل أصلاً كخزاعة والنساء، ومن ذلك أهل الذمة بل الإحسان إليهم من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم لأنهم جيران...
{ولم يخرجوكم} وقيد بقوله: {من دياركم} ولما كان قد وسع لهم سبحانه بالتعميم في إزالة النهي خص بقوله مبدلاً من {الدين}: {أن} أي لا ينهاكم عن أن {تبروهم} بنوع من أنواع البر الظاهرة فإن ذلك غير صريح في قصد المواددة {وتقسطوا} أي تعدلوا العدل الذي هو في غاية الاتزان بأن تزيلوا القسط الذي هو الجور، وبين أن المعنى: موصلين لذلك الإقساط {إليهم} إشارة إلى أن فعل الإقساط ضمن الاتصال، وإلى أن ذلك لا يضرهم وإن تكفلوا الإرسال إليهم من البعد بما أذن لهم فيه فإن ذلك من الرفق والله يحب الرفق في جميع الأمور ويعطي عليه ما لا يعطي على الخرق، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يرى أذى الكفار بكل طريق، {إن الله} أي الذي له الكمال كله {يحب} أي يفعل فعل المحب مع {المقسطين} أي الذين يزيلون الجور ويوقعون العدل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم. ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا. ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم. وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والبرّ: حسن المعاملة والإِكرامُ. والقسط: العدل. أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب، فإن معاملة أحد بمثل ما عامل به من العدل. ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإِحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وانتقل كتاب الله إلى تقعيد قاعدة أساسية في معاملة المسلمين لغيرهم من أهل الملل الأخرى، ألا وهي معاداة من اعتدى على المسلمين أو تضامن مع المعتدي عليهم، ومسالمة من لم يعتد على المسلمين ولم يتضامن مع المعتدي عليهم. يعتبر "معتديا على المسلمين " كل من قام باعتداء على ديارهم، بعد ما سالمهم، أو خان عهدهم بعد ما عاهدهم، أو حال بينهم وبين أن ينشروا عقيدتهم، أو منعهم من أن يطبقوا شريعتهم، ويمارسون شعائرهم، وإلى هذه القاعدة الأساسية في الإسلام يشير قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين8 إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين لأنهم يؤمنون بالتعايش مع الإسلام والمسلمين في محيطٍ واحدٍ، فلا تغريهم قوتهم بأن يشردوهم ويهددوا أمنهم في ذلك {أَن تَبَرُّوهُمْ} بأن تقدموا إليهم الخير بكل مجالاته العملية على مستوى القضايا المادية والمعنوية، {وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ} بأن تتعاملوا معهم في خط العدل في ما يثور في حركة الواقع من خلافاتٍ ونزاعاتٍ فيما بينهم وبين المسلمين، حتى يكون الخير العملي والعدل الإسلامي وسيلتين من وسائل الدعوة إلى الإسلام...
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الذين يعيشون العدل كحالةٍ روحية، مع كل الناس من مؤمنين وكافرين، لأن العدل هو الأساس الذي يرتكز عليه بناء الحياة على أساس التوازن في حركة الإنسان والحياة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبهذه الصورة يقسّم القرآن الكريم «المشركين» إلى فئتين:
فئة: عارضوا المسلمين ووقفوا بوجوههم وشهروا عليهم السلاح وأخرجوهم من بيوتهم وديارهم كرهاً، وأظهروا عداءهم للإسلام والمسلمين في القول والعمل.. وموقف المسلمين إزاء هذه المجموعة هو الامتناع عن إقامة كلّ لون من ألوان علاقة المحبّة وصلة الولاء معهم. والمصداق الواضح لهذه المجموعة هم مشركو مكّة، وخصوصاً سادات قريش، حيث بذل بعضهم كلّ جهدهم لحرب المسلمين وإيذائهم، وأعانوا آخرون على ذلك.
وفئة أخرى: مع كفرهم وشركهم لا يضمرون العداء للمسلمين، ولا يؤذونهم ولا يحاربونهم ولم يشاركوا في إخراجهم من ديارهم وأوطانهم، حتّى أنّ قسماً منهم عقد عهداً معهم بالسلم وترك العداء. إنّ الإحسان إلى هذه المجموعة وإظهار الحبّ لهم لا مانع منه، وإذا ما عقد معهم عهد فيجب الوفاء به، وأن يسعى لإقامة علاقات العدل والقسط معهم.. ومصداق هذه الجماعة يتجسّد بطائفة (خزاعة) الذين كانوا قد عقدوا عهداً مع المسلمين على المسالمة معهم وترك الخصام. وواجب المسلمين وفق هذه الأسس أن يقفوا بكلّ صلابة أمام أيّة مجموعة، أو دولة، تتّخذ موقفاً عدائياً منهم أو تعيّن من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً.. وقطع كلّ صلّة قائمة على أساس المحبّة والصداقة معهم. أمّا إذا كان الكفّار في موقع محايد إزاء الإسلام والمسلمين، أو أنّهم متعاطفون معهم، عندئذ يستطيع المسلمون أن يقيموا علاقات حسنة ويرتبطوا وإيّاهم بروابط المودّة على أن لا تكون بالصورة التي تكون بين المسلمين أنفسهم، ولا بالشكل الذي يؤدّي إلى تغلغلهم في صفوف المسلمين. وإذا تغيّر موقف جماعة ما، أو دولة ما، وهي من الصنف الأوّل أو حصل عكس ذلك في موقف الصنف الثاني، فبدلّوا سيرتهم من المسالمة إلى المحاربة والعداء، فيجب أن يتغيّر معيار التعامل معهم حسب موقفهم الجديد وواقعهم الفعلي، وتبنى معهم العلائق حسبما ورد من مفاهيم طبقاً للآيات أعلاه.