جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (8)

القول في تأويل قوله تعالى : { لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ } .

يقول تعالى ذكره : { لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ }من أهل مكة { وَلم يُخْرِجوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ }يقول : وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم ، وبرّكم بهم .

واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : عُني بها : الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا ، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا يَنْهاكُمْ اللّهُ عَن الّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدّينِ أن تستغفروا لهم ، و وتبروّهم وتقسطوا إليهم قال : وهم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا . وقال آخرون : عُنِي بها من غير أهل مكة مَنْ لم يهاجر .

ذكرمن قال ذلك :

حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطيّ ، قال : حدثنا هارون بن معروف ، قال : حدثنا بشر بن السري ، قال : حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وكانت لها أمّ في الجاهلية يقال لها قُتَيلة ابنة عبد العُزى ، فأتتها بهدايا وصِنَاب وأقط وَسمْن ، فقالت : لا أقبل لك هدية ، ولا تدخلي عليّ حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله لا يَنْهاكُمْ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ . . . إلى قوله : المُقْسِطِينَ .

قال : ثنا إبراهيم بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : قَدِمتْ قُتَيلة بنت عبد العُزى بن سعد من بني مالك بن حِسْل على ابنتها أسماء بنت أبي بكر ، فذكر نحوه .

وقال آخرون : بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين ، ولم يخرجوهم من ديارهم قال : ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : لا يَنْهاكُمُ اللّهُ . . . الآية ، فقال : هذا قد نسخ ، نَسَخه ، القتال ، أمروا أن يرجعوا إليهم بالسيوف ، ويجاهدوهم بها ، يضربونهم ، وضرب الله لهم أجل أربعة أشهر ، إما المذابحة ، وإما الإسلام .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله { لا يَنْهاكُمُ اللّهُ . . . }الآية ، قال : نسختها { اقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ } .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم ، وتقسطوا إليهم ، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله { الّذِينَ لَمْ يُقاتلُوكُمْ فِي الدّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيارِكُمْ }جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصُصْ به بعضا دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب ، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولانسب غير محرّم ولا منهى عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له ، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح . قد بين صحة ما قلنا في ذلك ، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها .

وقوله : { إنّ اللّهُ يُحِبّ المُقْسِطِينَ }يقول : إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم ، فيبرّون من برّهم ، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم .