السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (8)

وقوله تعالى : { لا ينهاكم الله } أي : الذي اختص بالجلال والإكرام { عن الذين لم يقاتلوكم } أي : بالفعل { في الدين } الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ، قال ابن زيد : هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ ، قال قتادة : نسخها { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] وقال ابن عباس : نزلت في خزاعة ، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فرخص الله تعالى في برّهم .

وقال أكثر أهل التأويل : إنها محكمة ، واحتجوا بأنّ أسماء بنت أبي بكر قدمت أمّها وهي مشركة عليها المدينة بهدايا ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ، ولا تدخلي علي بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخل منزلها ، وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها ، وفي ذلك إشارة إلى الاقتصار في العداوة والولاية ، كما قال صلى الله عليه وسلم «أحبب حبيبك هوناً مّا عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً مّا عسى أن يكون حبيبك يوماً ما » وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه «أنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أمّ أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدّة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } ، { ولم يخرجوكم من دياركم أن } أي : لا ينهاكم عن أن { تبروهم } بنوع من أنواع البرّ الظاهرة ، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة { وتقسطوا إليهم } أي : تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي : وليس يريد به من العدل ، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية { إن الله } أي : الذي له الكمال كله { يحب } أي : يثيب { المقسطين } أي : الذين يزيلون الجور ، ويوقعون العدل .